آثار الامام علي (عليه السلام) في النجف الاشرف (المرقد العلوي)

بعد أن استشهد الإمام علي في محرابه من جراء ضربة المجرم عبد الرحمن بن ملجم حمله وِلْدُهْ والصفوة من صحبه ليدفن ليلاً سراً بوصية منه في النجف حيث مرقده الآن وقد ثبت لدى المسلمين عامة إن قبره هذا هو الموجود الآن والذي إليه يفزع الملايين في مدار العام فلا يضر قول من ليس له تحرز في التأليف ولا دقة في التحقيق من الكتّاب المأجورين وغيرهم حيث زُعِمَ أنه (عليه السلام) دفن في الرحبة كيف وقد نفى إمامنا الصادق (عليه السلام) أكثر مرّة ذلك.

عن صفوان الجمال قال: كنت أنا وعامر وعبد الله بن جذاعة الأسدي عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له عامر: جعلت فداك إن الناس يزعمون ن أمير المؤمنين (عليه السلام) دفن في الرحبة، قال: لا. قال: فأين دفن؟ قال (عليه السلام): إنه لما مات احتمله الحسن فأتى به ظهر الكوفة قريباً من النجف يسره عن الغري يمنة عن الحيرة فدفنه في ذكوات بيض. فلما كان بعد ذلك ذهبت إلى الموضع فتوهمت موضعاً ثم أتيته فأخبرته فقال لي: أصبت رحمك الله ثلاث مرّات(1).

والربوات البيض هنَّ ثلاث جبال: شرشيفان ويقع جنوب الحرم من محلة العمارة وجبل الثور ويقع في شرق الحرم من محلة البراق وعُرف الديك ويقع شمال الحرم من محلة المشراق ولكن هذه الجبال قد إندرست في الشوارع المبلطة حديثاً.

أما حد الحما كما هو شائع من كل جانب من الضريح الحالي فرسخاً واحداً وما بين السدير إلى الثوية عرضاً، فالقبر واقع فيما بين الربوات البيض الثلاث.

وأخذ الأصحاب يزورونه واحداً بعد الآخر ويدل بعضهم البعض على موضع القبر وتسارعت الشيعة بعد إعلان صفوان الجمال لزيارته للقبر مع أبي عبد الله (عليه السلام) فهذا عامر بن يزيد يستصحب جماعته لزيارته.

عن عبد الله بن سنان قال: أتاني عامر بن يزيد فقال لي: إركب فركبت معه فمضينا حتّى أتينا منزل حفص الكناني فاستخرجه فركب معنا ثم مضينا حتّى أتينا الغري فانتهينا إلى قبر فقال: انزلوا هذا قبر أمير المؤمنين (عليه السلام). فقلنا: من أين علمت؟ فقال: أتيته مع أبي عبد الله (عليه السلام) حيث كان بالحيرة غير مرّة وأخبرني إنه قبره(2).

وعم بعض الناس إنه دفن في المسجد ونشأ هذا الزعم من ثلاثة أوجه:

الأول: الأخبار بأن سفينة نوح قد رست في مسجد الكوفة.

الثاني: ما فعله الإمام الحسن (عليه السلام) من حفر أربعة قبور وهمية واحد منها في المسجد.

الثالث: أخبار أهل البيت (عليهم السلام) بأنه دفن عند جده نوح. فبالنظر إلى هذه الوجوه الثلاثة بنى بعض الشيعة شبهة دفنه (عليه السلام) في المسجد وشدد أهل البيت (عليهم السلام) على نفي ذلك مطلقاً.

عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أين دفن أمير المؤمنين؟ قال (عليه السلام): دفن في قبر أبيه نوح. قلت: وأين نوح إن الناس يقولون إنه في المسجد؟

قال (عليه السلام): لا ذاك في ظهر الكوفة(3).

وعنه (عليه السلام): قال: قبر علي في الغري ما بين صدر نوح ومفرق رأسه مما يلي القبلة(4).

وقد أحال الإمام الرضا (عليه السلام) أحد أصحابه لأنه أصوب من الجمع الذين يقولون بأنه في المسجد لأنه أخذ بقول الإمام الصادق (عليه السلام) ، عن الحسن بن الجهم بن بكر قال: ذكرت لأبي الحسن (عليه السلام) عيسى بن موسى وتعرضه لمن يأتي قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) وإنه كان ينزل موضعاً يقال له الثوية يتنزه إليه وكان قبر أمير المؤمنين فوق ذلك قليلاً وهو الموضع الذي يروي صفوان الجال إن أبا عبد الله وصفه له قال له فيما اذكر: إذا انتهيت إلى الغري ظهر الكوفة فاجعله خلف ظهرك وتوجه نحو النجف وتيامن قليلاً فإذا انتهيت إلى الذكوات البيض والثنية امامه فذلك فيه قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنا آتيه كثيراً. ومن أصحابنا من لا يروي ذلك يقول هو في المسجد وبعضهم يقول هو في القصر، فأرد عليهم إن الله لم يكن ليجعل قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) في القصر في منازل الظالمين(5) ولم يكن يدفن في المسجد وهم يريدون ستره فأينا أصوب؟

قال (عليه السلام): أنت أصوب منهم أخذت بقول جعفر بن محمد (عليه السلام).

قال ثم قال لي: يا أبا محمد ما أدري أحد من أصحابنا يقول بقولك ويذهب بمذهبك.

فقلت له: جعلت فداك أما ذلك شيء من الله. قال (عليه السلام): أجل إن الله يوفق من يشاء ويؤمن عليه فقل ذلك بتوفيق الله فاصعد عليه(6).

وعن أيوب بن نوح قال: كتبت إلى أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)، إن أصحابنا قد إختلفوا في زيارة قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال بعضهم بالرحبة وقال بعضهم بالغري فكتب: زره بالغري.

وقد أخفى أهل البيت (عليهم السلام) قبر أمير المؤمنين طوال عهد الدولة الأموية خوفاً أن تنتهك حرمته من قبل أعداءه الذين استمروا يسبونه على المنابر ثمانين عاماً ومعهم الخوارج وأن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يخشى أن يقدم هؤلاء على نبش قبره فتثور بني هاشم لذلك فيتسنى للأمويين عذر في استإصالهم فهم كانوا يلتمسون الذرائع لقتلهم لذلك أخذ أهل البيت (عليهم السلام) يتعاهدون على إخفاء قبره عن العامة عملاً بما أوصى به جدهم أمير المؤمنين (عليه السلام).

وقد تقدم في هذا أبو حسن      إلى حسين وأوصى قبله الحسنا

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) أمر إبنه الحسن أن يحفر له أربعة قبور في أربعة مواقع، في المسجد وفي الغري وفي دار جعدة بن هبيرة المخزومي وفي الرحبة، وإنما أراد بهذا أن لا يعلم أحد من أعداءه موضع قبره.

وبني مروان أيضاً كانوا سبب في إخفاءه، فإن الذين انتهكوا حرمته في حياته وحاربوه ثم قتلوه وعمدوا إلى ولده فقتلوهم كيف يكون لديه حرمة عندهم بعد وفاته وقد صدقت نبوءة أمير المؤمنين في ذلك حين رمي نعش الإمام الحسن (عليه السلام) بسبعين سهماً لا لشيء إلا لأنه جيء به ليجدد عهداً بزيارة جده المصطفى فهذا السبب هو أبرز الأسباب التي دعت أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أن يوصي أبناءه بإخفاء قبره والتمويه عليه.

عن صفوان الجمال قال: خرجت مع الصادق من المدينة أريد الكوفة فلما جزنا باب الحيرة قال: يا صفوان، قلت: لبيك يا بن رسول الله، قال: اخرج المطايا إلى القائم وجد الطريق إلى الغري. قال صفوان: فلما صرنا إلى قائم الغري أخرج رشاء كان معه دقيقاً قد عمل من الكنبار ثم تبعد من القائم مغرباً خطى كثيرة ثم مد ذلك الرشاء حتّى انتهى إلى آخره فوقف ثم ضرب بيده إلى الأرض فأخرج منها كفاً من تراب فشمه مليّاً ثم أقبل يمشي حتّى وقف على موضع القبر الآن ثم ضرب بيده المباركة إلى التربة فقبض منها قبضة ثم شهق شهقة حتّى ظننت إنه فارق الدنيا فلما أفاق قال: ها هنا والله مشهد أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم خط تخطيطاً، فقلت يا بن رسول الله ما منع الأبرار من أهل بيته من إظهار مشهده؟ قال (عليه السلام): حذراً من بني مروان والخوارج أن تحتال في أذاه(7).

وبعد أن علم بعض الأصحاب إنه يدفن في ظهر الكوفة عند قبر نوح وخوفاً من صفة (حدثناكم فأذعتم) هيأ الله سبحانه وتعالى لقبره وسيلة إخفاء غيبية إلا لمن إرتضى من خلقه إلى حين زوال السبب المانع من الإظهار.

عن مولى لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: لما حضرت أمير المؤمنين الوفاة قال للحسن والحسين (عليهما السلام): إذا أنا مت فاحملاني على سريري ثم أخرجاني واحملا مؤخرة السرير فإنكما تكفيان مقدمه ثم إئتيا بي الغريين فإنكما ستريان صخرة بيضاء فاحتفروا فيها فإنكما ستجدان فيها ساجة فأدفناني فيها. قال: فلما مات أخرجناه وجعلنا نحمل مؤخرة السرير ونكفي مقدمه وجعلنا نسمع دوياً وحفيفاً حتّى أتينا الغريين فإذا بصخرة بيضاء تلمع نوراً فاحتفرنا فإذا ساجة مكتوب عليها: هذا ما إدخره نوح لعلي بن أبي طالب، فدفناه فيها وانصرفنا ونحن مسرورون بإكرام الله تعالى لأمير المؤمنين، فلحقنا قوم من الشيعة لم يشهدوا الصلاة عليه فأخبرناهم بما جرى وبإكرام الله تعالى لأمير المؤمنين (عليه السلام) فقالوا: نحب أن نعاين من أمره ما عاينتم فقلنا لهم: إن الموضع قد عفي أثره بوصية منه.

فمضوا وعادوا إلينا فقالوا إنهم إحتفروا فلم يرو شيئاً(8).

قد علمت إن أهل البيت (عليهم السلام) جميعاً يعلمون أين موضع قبره بل إن بعض خواص الشيعة أيضاً يعرفون موضع قبره قبل وفاته وقد زاره ولداه الحسن والحسين وزاره السجاد والباقر (صلوات الله عليهم أجمعين) ولكن بعد أن احتدم الصراع بين الأمويين والعباسيين في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) وانشغل الخوارج فيما بينهم فرقاً وأحزاب ولم يعد أحد يشغله أمر علي بن أبي طالب أذ كان له بنفسه شغل، أظهر الإمام الصادق (عليه السلام) قبر جده أمير المؤمنين (عليه السلام) وزاره وأوصى بزيارته.

وهذا الإظهار الذي سمعت عنه كان لخواص الشيعة وكان الصحابي إذ يستنصحه الإمام الصادق (عليه السلام) لزيارة جده يسأله: أتأذن لي أن أخبر أصحابنا بالكوفة فيجيب الإمام بالموافقة فاشتهر بين الشيعة ظهوره.

أما الإظهار للعامة من المسلمين فكان في أيام داود العباسي المتوفى سنة 133 هـ حيث أصلحه وعمل عليه صندوقاً، ويعد اشتهار إظهاره من خلال زيارة الإمام الصادق (عليه السلام) مع صفوان الجمال وبيانه (عليه السلام) ما للزيارة من الفضل، إضطرب العباسيون لذلك فأراد أبو جعفر الدوانيقي الخليفة في حينه أن يتبين الحال بحفر القبر.

سأل أحمد بن عيسى بن يحيى الحسن بن يحيى في حديث قبر علي (عليه السلام) عن حديث صفوان الجمال: فقال: نعم أخبرني مولى لنا من موالي لبني العباس قال قال لي أبو جعفر المنصور: خذ معك معولاً وزنبيلاً وأمض معي. قال: فأخذت ما قال وذهبت معه ليلاً حتّى أتى الغري فإذا قبر فقال: أحفر فحفرت حتّى بلغت اللحد فقلت: هذا قبر قد ظهر. فقال: طم ذلك، هذا قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) إنما أردت أن أعلم(9).

وخرج هارون يوماً للصيد وأرسل الصقور والكلاب على الضباء بجانب الغريين فجاولتها ساعة ثم لجأت الضباء إلى الأكمة فرجعت الكلاب والصقور عنها فسقطت في ناحية ثم هبطت الضباء من الأكمة فهبطت الصقور والكلاب ترجع إليها فتراجعت الضباء إلى  الأكمة فانصرفت عنها الصقور والكلاب ففعلت ذلك ثلاثاً فتعجب هارون وسأل شيخاً من بني أسد ما هذه الأكمة؟ قال: لي الأمان؟ قال: نعم. قال: فيها قبر الإمام علي بن أبي طالب. فتوضأ هارون وصلى ودعا ثم أظهر الصادق موضع قبره بتلك الأكمة(10).

وقد نظم هذه القصة السماوي في إرجوزته المعروفة فقال:

         فلاذ بين الربوات البيض      وما انبرى الفهد مع التحريض

بل انثنى من دونهن واقفا      فظنه من قد رآه خائفا

  ثم عدا الجؤذر والفهد عطف      فعاود الجؤذر والفهد وقف

       وهكذا فاستغرب الرشيد      من صنع فهد لم يزل يصيد

    ثم دعا شيوخ تلك الناحية      فقال: هذه الربوات ما هي

   فقال هذا جدث بين عمك      من لحمه مختلط بلحمك

 قبر أمير المؤمنين المرتضى      قد زاره جل بنيه ومضى

      وافيتهم أنا ووافاهم أبي      وجملة من قدماء العرب

     فاعتقد الرشيد في كلامه      وزاد ما شاء في إكرامه

         ثم بنى فيه قبة إبتداءا      وضم فيها حبرة خضراءا

       وعرف الناس بتلك التربة      وربما صلى هناك قربة(11)

 


(1) أصول الكافي ج1 ص379.

(2) أصول الكافي ج1 ص 380، فرحة الغري ص 63.

(3) فرحة الغري ص 70.

(4) فرحة الغري ص70.

(5) كان أمير المؤمنين (عليه السلام) سمي قصر الإمارة الخبال وحين جاء إلى  الكوفة قال: قصر الخبال لا تسكنوني فيه واستأجر دار بن أخته جعدة بن هبيرة المخزومي وهي بيته الموجود الآن وجايز أن يسكن أهل العدل في مساكن الظالمين. وعن سعد بن عمر عن غير واحد ممن حضر أبا عبد الله ورجل يقول قد بنيت دار صالح ودار عيسى بن علي ذكر دور العباسيين فقال رجل: أرنا الله عزوجل خراباً أو خربها بأيدينا فقال له أبو عبد الله: لا تقل كذا بل يكون مساكن القائم وأصحابه أما سمعت الله يقول: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الأَمْثالَ) سورة إبراهيم/ 45، تفسير العياشي 2/ 252.

(6) فرحة الغري ص 103 .

(7) فرحة الغري ص 92.

(8) فرحة الغري ص 37.

(9) فرحة الغري ص 118.

(10) الخرايج والجرايح ص 21، بحار ج42 ص224، إرشاد القلوب ص435، فرحة الغري ص119، رسول، مقتل الإمام علي (عليه السلام) ص221.

(11) وشي الشرف ص16.