دكة القضاء في مسجد الكوفة

يعتبر القضاء من المناصب الإلهية ولا يستطيع أن يقوم به إلا من كان مؤيداً بروح قدسية أو من يأخذ بعلم وأمانة عن مؤيد بتلك الروح لأنه قرين الحكومة الإلهية التي بيّنها الله سبحانه وتعالى في قوله: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ص/26، وقد بين ذلك أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في الكثير من كلماتهم وحددوا صفات القاضي ومن يجب عليه القضاء.

فقد ذكر الكليني رحمه الله في باب ان الحكومة إنّما هي للإمام (عليه السلام) بعض الأخبار الدالة على المراد منها عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي أو وصي نبي(1) والإمام أمير المؤمنين باعتباره النموذج الأكمل في النوع الإنساني بعد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أفاض عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من نوره وعلمه مما جعله لذلك العلم باباً وقد توجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتاج القضاء تخصيصاً له بهذه المزية لئلا يقول قائل ويتأول مفترٍ بأن بابية العلم غير القضاء فكان هذا التاج (على اقضاكم) فقد وردت هذه العبارة في صحاح ومسانيد الفريقين بعدّة الفاظ منها:


أقضى أمتي علي بن أبي طالب(2) أقضى أمتي وأعلم أمتي بعدي علي(3): أعلم بالسنة والقضاء بعدي علي بن أبي طالب(4) علي أقضى أمتي بكتاب الله، فمن أحبني فليحبه؛ فإن العبد لا ينال ولايتي إلا بحب علي (عليه السلام)(5) كما أن الصحابة نصو على أعلمية الإمام علي (عليه السلام) بالقضاء فعن عبد الله بن مسعود: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب(6) وعن عمر: أقضانا علي(7) عن عمر: كنا أمرنا إذا اختلفنا في شيء أن نحكم علياً(8) وصرح الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) نفسه بأن لا تعجزه قضية وان له أن يقضي على كل ملة بكتابها: قال (عليه السلام): لو ثني لي الوساد لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل الزبور بزبورهم، وأهل القرآن بقرآنهم، حتّى يزهر كل كتاب من هذه الكتب ويقول: يا رب إن علياً قضى بقضائك(9) وقال مولانا الإمام الصادق (عليه السلام): كان علي (عليه السلام) يقول: لو اختصم إلي رجلان فقضيت بينهما، ثم مكثا أحوالاً كثيرة، ثم أتياني في ذلك الامر لقضيت بينهما قضاءً واحداً؛ لأن القضاء لا يحول ولا يزول أبداً(10).

لذلك كان (عليه السلام) يعد نفسه مسؤولاً عن صحة عمل الجهاز القضائي وسلامته، وحينئذٍ لم يكن يكتفي بلغة الموعظة وتحذير القضاة من تضييع حقوق
 

المجتمع، بل كان يمارس الإشراف المباشر على عمل القضاة، بل يراقب أحكامهم أيضاً. ونظراً لما يحظى به الجهاز القضائي من موقع ممتاز في إصلاح شؤون المجتمع، كان الإمام يحرص على ممارسة القضاء والفصل في القضايا من خلال موقع (دكة القضاء) برغم ما عليه من مهام ومسؤوليات وهذه الدكة التي ما زالت آثارها شاخصة في وسط مسجد الكوفة من خلال ذكر جملة من القضايا التي جرت عندها في عصر الإمام (عليه السلام).

أما الدكة: فهي المكان المرتفع الذي يقعد عليه والجمع دكك كغرفة وغرف والدكان مثله(11).

وورد أن الدكة تستعمل لجلوس الشيوخ للتعليم، فقد جاء أن محمد بن عبد الله بن محمد البغوي (المتوفى 317 هـ) اجتاز فسمع صوت مستملي فسأل عنه فقيل ابن صاعد فقال: (والله لا أبرح من موضعي حتّى أملي من ها هنا، فصعد الدكة، وجلس وراء أصحاب الحديث، فأملى ستة عشر حديثاً، من ستة عشر شيخاً(12).

وفي الكوفة ما تزال لفظة الدكة شائعة الاستعمال وتطلق على المساحات المستطيلة والمربعة التي تحيط باسطوانات ومحاريب جامع الكوفة ومنها: دكة القضاء التي كان يجلس عليها الإمام علي ليقضي بين الناس، وأن دكة القضاء كانت بناءً في جامع الكوفة يشبه الحانوت يجلس عليها أمير المؤمنين (عليه السلام) للقضاء والحكم وكانت هنالك اسطوانة قصيرة كنت عليها الآية: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسانِ) النحل: 90.


(1) الكافي ج7 ص 406.

(2) المعجم الصغير: 1/ 201.

(3) الأمالي للصدوق: 642/ 870.

(4) كفاية الطالب: 332.

(5) تاريخ دمشق: 42/ 241/ 8753.

(6) المستدرك على الصحيحين: 3/ 145/ 4656، 339.

(7) صحيح البخاري: 4/ 1629/ 4211.

(8) المناقب لابن شهرآشوب: 2/ 30 وص364.

(9) الإرشاد: 1/ 35.

(10) الأمالي للمفيد: 287/ 5.

(11) مجمع البحرين 5/ 766، وفي المصباح 1/ 212: الدكة المكان المرتفع يجلس عليه وهو المسطبة (معرب). ويقول الفيروزآبادي: الدكة بالفتح والدكان بالضم بناء يسطح أعلاه للمقعد (قاموس – دك).

(12) المنتظم 6/ 228 (حيدر آباد الدكن 1357 هـ) وقد جاء ذكر السدة بمثابة موضع لجلوس الشيخ: الفخري (لابن الطقطقي)/ 23، وذكرنا في حديثنا عن جامع الكوفة ان السدة تمثل موضعاً آخر، راجع (ابواب جامع الكوفة).