سماحة آية الله المحقق الشيخ باقر القرشي (قدس سره) 12 صفر 1428 - 2/3/2007
إنّه المجتهد والمؤرخ والكاتب والمحقّق الذي سبر أغوار التاريخ بتأليفاته وتحقيقاته القيّمة فقد كان مكبّاً على البحث والتقصي والكتابة، حيث صدرت له مؤلفات كثيرة أغنت المكتبة الاسلامية بعنوانات امتازت بالرصانة والدقة والعلمية في الطرح والمنهج، وقد ترجمت كتبه إلى أكثر من إحدى عشرة لغة من لغات العالم، وهي موجودة الآن في أغلب المكتبات العربية والاسلامية، وحتى في كبرى مكتبات العالم كمكتبة الكونكرس الأمريكي.
وقد أنشأ مكتبة عامرة ببناء فخم من أجل أن تقدّم خدماتها للباحثين وطلاب العلم، فكانت حياته مليئة بالمثابرة والعمل والتحقيق والتقصي والتأليف، فهو ـ رغم كبره وشيخوخته ـ تراه مكبّاً على الكتابة والتأليف، وإعطاء دروس البحث الخارج في مكتبته العامرة مكتبة الإمام الحسن (عليه السلام)، وقد التقيناه في مكتبته حيث استقبلنا بترحاب وخلق رفيع قلّ نظيره، تحدّثنا معه في مواضيع مختلفة، فحدثنا برحابة صدر وتواضع كبيرين، وهذا جانباً من تلك اللقاءات:
للعلم أثر كبير في حياة الأمم، وقد أكد الإسلام على ذلك، ولكن نرى الأمة الإسلامية منغمسة في الجهل والعصبية والفرقة؟
إنّ الإسلام أدّى ما عنى في رسالته بإشاعة العلم ونشر الفكر وتنمية العقول بين أبناء المجتمع الإسلامي، ومن ثمرات العلم والفكر الازدهار والقوة والمنعة، فإنّ الأمة إذا تسلّحت بالعلم كانت من أقوى الأمم وأكثرها شموخاً ووصولاً إلى حقوقها الطبيعية، فترفع راية الكرامة والحرية والتطوّر، كلّ ذلك بالعلم، وقد قال تعالى ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ﴾ وقال النبي (ص): (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة).
ظهر في العالم الإسلامي مفهوم التقريب بين المذاهب الإسلامية، كيف تنظرون إلى هذا المفهوم؟
إنّ أي مفهوم يجب أن يبقى على صعيد العلم والتحقيق المحض وبدون أي تعصّب، يجب أن تكون المبادئ والأفكار المطروحة مستقاة من أفكار ومبادئ الإسلام الأصيلة التي نادى القرآن العظيم بها، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ﴾، ويقول النبي الأكرم (ص): (خلّفت فيكم الثقلين...) وقال (ص): (علي مع الحق والحق مع علي)، وهذه المبادئ هي التي يؤمن بها الشيعة، ونحن تبعنا علياً والخط الرسالي الذي يمثله أهل البيت (عليهم السلام)؛ لوجود الدليل العقلي والنقلي على اتّباعهم، ولو لم يكن هناك دليل على التمسك بأهل البيت لما تمسّكنا بهم، فنحن أصحاب الدليل، وحبذا لو اجتمعت كلمة المسلمين على نهج واحد، فربّهم واحد، ودينهم واحد، وكتابهم وقبلتهم واحدة، وأئمة أهل البيت لا يختلف فيهم أحد من حيث علمهم وتقواهم، ولكن العصبية هي التي تبعد الإنسان عن التمسّك بالحقّ.
يهتم المسلمون الشيعة بذكرى الحسين، فمن أين بدأت هذه الشعائر؟
إنّ الحسين (عليه السلام) هو مصباح الإسلام وهو رائد الفكر الإسلامي، فقد بذل روحه ودمه في سبيل الله تعالى؛ لإنقاذ الإسلام من العصابة المجرمة التي انتهكت حقوق الله سبحانه، فنهج الإمام الحسين (عليه السلام) مدرسة كبرى للفكر والوعي، فالحسين (عليه السلام) غيّر مجرى التاريخ بنهضته المباركة، فبعد هداية الرسول للأمة حدث انقلاب بعد موته مباشرة، وانقلبت الأمة انقلاباً مؤسفاً، وأُبعد أهل البيت عن المسرح القيادي والسياسي للأمة، وآل الأمر إلى أبناء الطلقاء، فعانت الأمة عناءً مرّاً؛ لذلك نهض الحسين (عليه السلام) تلك النهضة المباركة، التي أدّت إلى مقتله بأفجع صورة، وسبي أهل بيت المصطى فى (ص).
لقد بدأت ذكرى الحسين بعد انتهاء المعركة وما آلت إليه، فقد اختار المختار نساء يندبن الحسين (عليه السلام) في الكوفة، وتطورت هذه الشعائر شيئاً فشيئاً، وهذا الندب والبكاء موجود منذ العهد الأموي والعباسي والفاطمي وإلى يومنا هذا.
ما هو دور النجف الأشرف العلمي والثقافي في العالم الإسلامي؟
من حقّ المسلمين جميعاً أن يفتخروا بالنجف؛ لأنها أمدّت العالم الإسلامي بالكثير من العلماء وبالفكر الخلّاق، ففي عصرها الأول كانت مركزاً من مراكز الثقافة والأدب والفقه، وقد امتازت بدراسة الفقه والحديث، وقد تخرج آلاف العلماء والفقهاء منها، وقد حافظ العلماء على الدين الحنيف، وجدّوا بالدروس، بالإضافة إلى إنّهم كانوا يراعون مصالح العالم الإسلامي بأجمعه.
إضافةً إلى رصيد النجف العلمي والديني، فهي لها رصيد أدبي كبير، فقد اهتمّ العلماء والأدباء بالأدب بشكل كبير، وقد تشكّلت عدة جمعيات تهتمّ بالشؤون الأدبية، منها جمعية الرابطة الأدبية، ومنتدى النشر، والتحرير الثقافي وغيرها، وكانت الصحف والمجلات تعيش على موائد النجف الأدبية، منها مجلة الغري والاعتدال والبيان... والذي يلحظ تلك المجلات يرى فيها ثراءً أدبياً وفكرياً منقطع النظير، نسأل الله تعالى أن يستمر هذا العطاء العلمي والأدبي.
ما هو دور العلماء والمفكرين في تجاوز الأفكار الضالة، وكيفية التصدي لها؟
للعلم والعلماء دور كبير في التصدي للأفكار والاتجاهات الفاسدة والتي تحاول إبعاد الإنسان عن فطرته، فطرة العبودية لله تعالى، ففي خمسينيات القرن الماضي وما بعده وقف العلماء والمفكرون وقفةً عظيمةً بوجه المد الشيوعي الذي اجتاح مناطق كثيرة العالم، ومنها عالمنا الإسلامي، فتصدّى له علماؤنا الأعلام، وأفتوا بكفر الشيوعية، فقد أصدر الإمام (محمد حسين كاشف الغطاء) فتوى يكفّر فيها الشيوعية ويبيّن ظلالها، وأصدر آية الله العظمى السيد (محسن الحكيم) فتواه الشهيرة (الشيوعية كفر وإلحاد)، بالإضافة إلى الإصدارات العلمية لآية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر المتمثلة بكتابيه (اقتصادنا) و(فلسفتنا)، وأصدرت أنا كتاب (العمل وحقوق العامل في الإسلام)، فكان لتلك الفتاوى والكتب وغيرها الأثر الكبير في توعية الناس لهذه الأفكار المنحرفة.
ما قصة الإذاعة الروسية في التهجّم على سماحتكم؟
بعد صدور كتابي (العمل وحقوق العامل في الإسلام) والذي كان رداً على الأفكار الماركسية، أتبعته بكتاب ثانٍ صدر لي وهو: (نظام الحكم والإدارة في الإسلام)، وكان ردّاً على نظرياتهم وتفنيدها بصورة علمية، وقد أخذ ذلك الكتاب شهرةً واسعةً في العالم، فكانت الإذاعة الروسية الناطقة باللغة العربية تتهجم عليّ وتصفني بالشيخ الرجعي، وكذلك كانت تتهجم على الكاتب العربي المصري عباس محمود العقاد، لردّه على الشيوعية بكتابه (مذهب ذوي العاهات) واصفة إياه بالذئب الأمريكي.
كانت لكم علاقة طيبة مع العلماء، مثل آية الله العظمى الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (قدس سره) والسيد عبد الأعلى والسبزواري (قدس سره)؟
كان الإمام كاشف الغطاء ثروة في فكره وأدبه، وكان جريئاً إلى حدّ لا يوصف، وكنت أجلّه إجلالاً كبيراً، وقد قدم لي كتاب (الإمام الحسن) ولم أبلغ العشرين من عمري، وعندما طبعت الجزء الثاني من الكتاب، كان قد وافاه الأجل (رحمه الله)، وقد وجدت مقدمة كتابي في جيبه وهو في المغتسل، وبعد فترة أراد بعض الورثة بيع المكتبة الخاصة به، والتي كانت مكتبة عامرة، حاول بعض التجّار من بغداد شراءها؛ لعلمهم بما تحويه من كتب قيّمة، وكنت أنا وأخي الشيخ هادي القرشي قد عملنا من أجل إثبات وقفيتها لأجل عدم بيعها، وبالفعل تمّ ذلك خلال أكثر من (6) أشهر.
أما السيد السبزواري، فهذا العالم الرباني الجليل كنت دائماً أستشيره حول كتاباتي، وآخذ برأيه، وقد كتب لي مقدمات لبعض كتبي، وكان يساهم في كتبي مساهمات كبيرة من الناحية المادية ومن ناحية إبداء الرأي.
علاقة الشيخ القرشي بالشيخ الأزهري محمود أبو رية؟
في الحقيقة كان الشيخ محمود أبو رية من علماء الأزهر الكبار، وكان مرشحاً لنيل مشيخة الأزهر، وقد كانت بيني وبينه مكاتبات فيما يخصّ الإسلام والمسلمين، وقد طلب مني التكلّم مع آية الله العظمى السيد محسن الحكيم من أجل زيارة النجف ومقابلته وزيارة العتبات المقدسة، وقد أجاب السيد الحكيم بالترحاب لهذه الزيارة، وكذلك فقد رحب وجهاء النجف بذلك، وقد أبدى الحاج محمد رشاد عجينة استعداده لتحمّل جميع نفقات السفر، وكان الأستاذ محمد علي البلاغي مديراً لمصرف الرافدين آنذاك، فرحبوا بهذه الزيارة، إلا أن الشيخ أبو رية وعلى أثر كتابه (أضواء على السنة المحمدية) و(أبو هريرة شيخ المضيرة) الذي أحدث ضجّةً كبيرةً في مصر؛ لما فيه من وضوح الحق بأفضلية أهل البيت (عليهم السلام)، فقد تم الاعتداء على الشيخ أبو رية أثناء خروجه من جامع الأزهر، وقد مات اثر ذلك الاعتداء.
بعض كتب الشيخ لها قصة أو سبب في كتابتها؟
صحيح، لبعض الكتب سبب في تأليفها، فقد أصابني مرض عضال فالتجأت إلى مسلم بن عقيل (عليه السلام)، ونذرت لله إذا شفيت أن أكتب كتاب (البطل الخالد مسلم بن عقيل) وبالفعل عافاني الله تعالى وكتبت ذلك الكتاب.
وكذلك حصل لي حادث مع ولدي محمد حسين، إذ اعتقله النظام البعثي، وبقى سنتين في دائرة الأمن، فنذرت لله تعالى تأليف كتاب عن العباس (عليه السلام) إذا خرج ولدي من السجن، وبعد أيام قلائل خرج ولدي، فألّفت كتاب (حياة أبي الفضل العباس عليه السلام).
المضايقات التي تعرض لها الشيخ في زمن النظام البائد؟
تعرّضت لكثير من المضايقات من أول مجيء البعث إلى الحكم، ولكن بعد أحداث (1991) دعيت من قبل الأمن لمقابلة صدام مع وفد من أهالي النجف، ولكنني رفضت ولم أذهب، وبعد سنة دعيت أيضاً للذهاب وقد طلب مني أحد الفضلاء الذهاب لمقابلة صدام وشرح الأوضاع، وبالفعل ذهبت وقابلت صدام، وقد تحدثت إليه بأنّ ما أقدمت عليه الحكومة من هدم الحسينيات والجوامع واعتقال الشباب هو في غير محلّه، وهذا يجرّ الويل على الحكومة، وأخبرته أنّ الأهالي في النجف تنتظر أبناءها المعتقلين.
موقف أو حادثة عالقة في ذاكرتكم؟
كثيرة هي المواقف والذكريات التي مررت بها، وأذكر هذه الحادثة إني ذهبت إلى إيران للزيارة قبل سقوط الشاه بأربع سنوات، وجاءني شخص أعرفه في إيران وطلب مني أن أوصل هذه الرسالة إلى السيد الخميني (قدس سره)، وبالفعل أخذتها منه، وعند عودتي سلمت الرسالة إلى السيد الخميني، وحينما رآها تجمع من كان حول السيد، وكأنّ شيئاً غير طبيعي قد حدث، وعندما سألتهم عن الأمر، قال: هذه الرسالة خطرة جداً؛ لأنّ فيها أسراراً رهيبةً، ولو علم الشاة بذلك لمزقك إرباً؛ لذلك قرّرت من ذلك الحين أن لا أحمل رسالة إلى أحدٍ مهما كان شأنه.