العلامة د. السيد محمد بحر العلوم (رحمه الله) 18 جمادى الثانية 1429 ـ 2008/6/22
علّامة فاضل، وزعيم سياسي بارز.. ومناضل إسلامي.. اختار لنفسه حياة صعبة وشاقّة في مقارعة الظلم والاستبداد ولتحقيق المبادئ التي نادى من أجلها ..
وكان هذا كفيلاً بتقديم تضحيات جسيمة أبعدته عن الوطن لعقود من الزمن بعد أن حُكم عليه بالإعدام.. ومن ثمّ إعدام شقيقيه العلمين البارزين السيد علاء والسيد عزالدين وأبنائهما ظلماً وعدواناً..
ذلك هو الابن البار لمدينة العلم والعلماء.. مدينة الفكر والأدب.. مدينة باب علم النبي (ص) الدكتور الأديب والمفكر الإسلامي السيد محمد بحر العلوم (دام توفيقه)، والذي قابلنا بمكتبه بمعهد العلمين بأخلاق وهمّة عالية على الرغم من كبر سنّه، فقد كان همّه ـ كما أخبرنا ـ بناء قاعدة من المثقفين والأكاديميين القياديين؛ لأجل لقيادة هذا المجتمع الذي تدنّت فيه إلى حدٍّ كبير مستويات الابداع والقيادة، وما هذا المعهد إلّا ثمرة جهود السنيين لخلق هذه النخبة وبثّها في المجتمع، فكان لقاءً مثمراً، ولمرات عدّة حفظناها في ذاكرة الأرشيف الثقافي، وخلال لقاءاتنا المتكررة بهذه الشخصية وحضور المجلس الاسبوعي الذي كان يعقده في مكتبه لمسنا منه البساطة في التعامل بدون تكلّف، وطيبة القلب، والاهتمام بالضيوف والقادمين لحضور المجلس، فكان يقوم لكلّ شخص صغيراً أو كبيراً، يعرفه أو لا يعرفه، ويهتم به ويمسّيه بالخير، وهذه ومضات من هذا اللقاء.
قبل أن أبدأه بالسؤال، بادر قائلاً:
بدايةً أشكر القائمين على هذا المشروع الوثائقي، والذي سيكون له بعد مدة من الزمن أثر مهم؛ لأنّه تسجيل وتوثيق لحياة بعض الشخصيات المهمة، أعتقد أنّ هذه الالتفاتة لها الأثر في تدعيم الناحية الثقافية والتي ستؤدي بالتأكيد إلى دعم النهضة العلمية والفكرية التي تشهدها النجف خاصة.
بعد هذه الحياة الطويلة الشاقة ماذا تحب أن تقول؟
حياة محمّد بحر العلوم ليست معقّدة، لكنّها طويلة الامتداد للمتحدث إذا أراد استقصاء كل المفاصل التي مررت بها، من دور الطفولة إلى دور الشيخوخة وقد تجاوزت الثانية والثمانين من العمر، صحيح أنّها كانت حياة متعبة وشاقّة، ولكنّها كانت لي حياة مثمرة ورائعة، تلمست فيها طموحاتي وما يعمل من أجله أيّ إنسان يختار حياته ويرسم طريقه، مسيرة لا تخلو من مطبات وعثرات ومشقّات، وأشكر الله تعالى إنّي قد سجلت في حياتي شيئاً من العمل الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، وأسأله أن يعفيني من العثرات التي مرت عليّ، حيث لا يخلو منها أيّ إنسان، فنحن غير معصومين.
النشأة العلمية للسيد محمد بحر العلوم؟
كأيّ بيت علمي وأدبي في النجف الأشرف، وفي جوٍّ مقيّد بالالتزامات الاجتماعية والدينية ولدت في تلك الأجواء الأسرية في 27 ربيع الثاني 1347هـ الموافق 7 تموز 1927هـ، وكنت أول مولود ذكر يعيش لوالدي بعد أخوين توفيا، وكان والدي كثير الاهتمام بي، وكان يصحبني إلى ديوان الأسرة، وكنت ألحظ الحنان من غالبية الأقرباء والأصحاب، فقد كنت أشعر بأنّي أعيش بين مجموعة من الأشخاص الذين يحاولون إسعادي رغم صغر سنّي.
الدراسة الحوزوية وبدايتها للسيد بحر العلوم؟
كان والدي كثير الاهتمام بتربيتي، وعند بلوغي خمس سنوات بدأ بتعليمي الدروس وحفظ القرآن والكتابة، وبعد ثلاث سنوات ألزمني بحفظ ألفية ابن مالك، وكان يقسو علي إذا لم أحفظ في كل يوم عشر أبيات من هذه الألفية، وكنت أشعر بأنّه يكلفني أكثر من طاقتي، لذا شكوت لبعض الأقرباء، بعدها استعاض عن ذلك بأن أحفظ عشر أبيات من المعلقات السبع العلويات، وفي التاسعة من العمر درست في الكتاتيب عند المرحوم الشيخ مرزة في مكتبه الكائن في فضوة المشراق، وكان يساعده الشيخ موسى الذي كان يختص بالطلاب العرب، وكان قاسياً للغاية، فإذا لاحظ بأنّ الطالب لم يحفظ الدرس ولم يحسن الكتابة فيضربه (الفلقة) ويجعل جمع من الطلاب تنشد شعر (بلغ العلى بكماله...) عند الضرب حتى لا يسمع أحد الصراخ من شدة الضرب.
بعدها درست عند الشيخ علي الأديب العلوم والجغرافيا والرياضيات، وكان والدي لا يحبّذ دخولي المدارس الرسمية. وفي سن الثالثة عشر دخلت إلى مدرسة منتدى النشر التي أشرف على تأسيسها المرحوم المصلح الشيخ محمد رضا المظفر، وكانت هذه المدرسة تجمع بين الدروس الحديثة والدروس الحوزوية.
بعد مدّة من الزمن بدأت الدراسة الحوزوية فدرست الأجرومية والتبصرة للعلامة الحلي، وواصلت دروس العربية والمعاني والبيان والبلاغة والمنطق والفقه وأصول الفقه، وكان أبرز أساتذتي ـ والذي أكن له كل الفضل والاحترام والتبجيل ـ هو المرحوم آية الله الشيخ حسين الحلي، وأقولها بحقّ: إذا كنا نملك شيئاً من الثقافة والعلم أنا وأخوتي الشهيدين السيد علاء الدين والسيد عزالدين فالفضل يعود للشيخ حسين الحلي (طاب ثراه).
أسرة آل بحر العلوم من الأسر العلمية في النجف الأشرف ما هي جذورها؟
أسره آل بحر العلوم من الأسر الدينية والعلمية والاجتماعية، ولها وجودها الشاخص في النجف الأشرف؛ لأنها من الأسر التي امتدّ وجودها في مدينة الزعامة والعلم إلى القرن الثاني عشر، حيث مؤسس الأسرة المرحوم السيد محمد مهدي الطباطبائي الحسني الملقب بـ(بحر العلوم)، وامتدّت زعامة هذه الأسرة عبر ثلاثة قرون، تناوب عليها أولاد السيد محمد مهدي وذريته من ولده الوحيد السيد رضا آل بحر العلوم، وقد نشأت في هذه الأسرة شخصيات علمية وأدبية واجتماعية كتب عنها المرحوم السيد محمد صادق بحر العلوم والمرحوم السيد حسين بحر العلوم في مقدمته لكتاب الفرائد الرجالية للسيد محمد مهدي بحر العلوم.
نسب السيد بحر العلوم من جهة الأم؟
والدتي العلوية بنت آية الله العظمى السيد محمد باقر الطباطبائي الحجّة أحد مراجع كربلاء في القرن الثالث عشر الهجري، وهي أسرة معروفة في كربلاء بوجودها العلمي والاجتماعي والأدبي، وآثارها معروفة.
نشأتم في ظل أسرة علمية ودينية عريقة، وترعرعتم بين الأعلام، فما تأثير ذلك على حياتكم العلمية؟
بالفعل نشأت في جو علمي وأدبي غاية في الرصانة والالتزام، بحيث كنا كشباب لا يسمح لنا أن نذهب بمفردنا إلى أماكن الترفيه التي يذهب لها الشباب عادة، مثل متنزه شاطئ الفرات أو غيره بدون أن يكون لنا مرافق، وكنا صراحة نتضايق من ذلك، حيث كنّا نريد أن نمارس حياتنا بدون مراقبة، وبالحقيقة لمسنا فوائد هذا التصرف عندما أصبح لنا أولاد، حيث فهمنا انّ آباءنا كان كلّ همهم الحفاظ علينا حتى لا نقع في مهاوي الشهوات.
ولذا، كنت أسير على خطى والدي الذي كان معروفاً بزعامة شيعية ومكانة علمية في أهله؛ حيث كان الواجهة لأسرة آل بحر العلوم وقد تولّى ديوان الأسرة الذي كان مفتوحاً لأجل العلم ولقضاء حوائج الناس وحل مشاكلهم، وكان والدي يحرص على أن يحضر المجالس الشعبية ومناسبات الناس؛ لذا كان والدي محبوباً ومقدراً بين الأوساط النجفية وغيرها؛ ولأنه أيضاً كان مدير أعمال عمّه المرحوم السيد علي بحر العلوم وعضو مجلس الأعيان والذي ساهم بثورة العشرين وحكم عليه بالإعدام، ثم نفي إلى جزيرة في الهند، وتوسّط لهما الشيخ خزعل زعيم المحمرة وعادا إلى العراق.
متى بدأ توجهكم السياسي:
في الأربعينات من القرن الماضي كنّا مجموعة من الشباب المثقف والواعي والمتطلع للنهوض بالواقع الاجتماعي والسياسي للبلد، مثل السيد مهدي الحكيم، والسيد عبدالصاحب دخيل، وطالب الرفاعي وغيرهم، فاتفقنا على تشكيل لجنة التبليغ والإرشاد بدون أن نعلن عن اسم هذه اللجنة، وكنا سابقاً نعقد مجلساً في الصحن الحيدري الشريف في ليالي الجمع يحضره عدد كبير من الشباب، وبعد المحاضرة تلقى كلمة من قبل أحدنا تكون كلمة إصلاحية توجيهية، واستمرّ العمل على هذا المنوال حتى مطلع الخمسينيات، فصار هذا التجمّع معروفاً بالنجف باسم (حركة الشباب) وأصبح لنا مكان نلتقي فيه، وقد أدينا أدواراً مهمة في كثير من الأحداث التي مرت على العراق والمنطقة، ونظّمنا المظاهرات والاعتصامات، وقد كان لنا موقف وطني في انقلاب 1952 بمصر حيث دعمنا ذلك وأيدناه، وطلبنا من الدول العربية الاقتداء بهذا الموقف، وبقينا في عقد الخمسينات نتابع القضايا العربية والإسلامية، ونثير تلك القضايا في مناسباتنا الدينية، وبسبب ذلك التوجّه والتطلّع صار يُشار لنا بأننا وجود شبابي متحمس، فكنّا بذلك واجهة للتوجّه السياسي.
فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي من الفترات المهمة والحرجة في تاريخ العراق والمنطقة؟
هذا صحيح، ففي تلك المدة كنّا نعيش المشاكل السياسية، وبدأنا بإثبات وجود لنا في الساحة النجفية، فكثير من القضايا التي حدثت في تلك الفترة كمعركة السويس ومعارك العراق والانقلابات وبعض الحوادث في المنطقة كان لنا دور نشط من خلال تفعيل العمل السياسي وترجمته إلى واقع ملموس، من خلال المهرجانات والتظاهرات السليمة والكتابات وغيرها، وجاءت ثورة عبدالكريم قاسم، في بادئ الأمر رحّبنا بها لأنها استبدلت الملكية بالجمهورية، وقد أيّد العلماء والمراجع هذه العملية التي عُدّت ثورة على طبيعة الحكم بالعراق، ولكن الأوضاع الاستثنائية التي حصلت بعد الثورة من استفزازات وحوادث جمة حاولت تغيير وجه العراق الديني والوطني.
فيما بعد، حصلت سلسلة الانقلابات بعد عبدالكريم قاسم حيث تدهورت أوضاع الشعب العراقي من سيء إلى أسوأ، وجاء حكم عبدالسلام عارف الذي كان حكماً طائفياً بغيضاً، إلى أن وصلت السلطة إلى البعثيين بانقلاب أسود. كنت أنا والسيد محمدباقر الحكيم نقيم الاحتفالات في مدن العراق، وخصوصاً في النجف وكربلاء، ومن خلال الخطابة نوجّه رسائل توجيهية وإرشادية إلى الشعب العراقي.
وفي عام 1969 صدرت الأوامر علينا وكذلك على السيد مهدي الحكيم بإلقاء القبض والحكم بالإعدام، فعندها غادرنا العراق.. وبعدها بدأت الاعتقالات الجماعية والتهجير القسري ومحاربة الشيعة بعقائدهم وشعائرهم، وقد شجبت المرجعية الدينية هذه الأعمال الإرهابية وتلك المواقف الهدّامة في العراق.
هل كان عملكم منحصراً داخل الأجواء الحوزوية ؟
بالعكس، كنا منفتحين على أكثر طبقات المجتمع، وخاصة تلك التي تحمل الشعور الوطني، فقد اتصلنا حتى بالعشائر من خارج النجف، وكان لهذه العشائر مواقف مشرّفة، وكانت تلك العشائر دائماً تحت خط المرجعية، كما حصل في المثنى والقادسية وأبي صخير وغيرها، أمّا على صعيد الشباب فعند لقاءنا بالمرجع الأعلى السيد محسن الحكيم كمجموعة من المتحمسين أذكر منهم د. محمد مكية ود.كاظم شبر و د.محمد حسين آل ياسين والسيد ضياء بحر العلوم وعدد كبير من الشخصيات العراقية، فقد وجّه سماحته على تأسيس جامعة تضمّ الشباب الذين يتطلعون إلى مستقبل أفضل. وقد طلب السيد الحكيم (رحمه الله) من الحضور أن يكون طلاب هذه الجامعة رجال المستقبل، وأن يسعوا لتحقيق هذا الأمل الكبير، وطلب منهم تحمل هذه المسؤولية الكبيرة، ووعد بأنّ المرجعية ستدعم تلك الجهود بكلّ قوة.
كيف تقرؤون الواقع السياسي في العراق اليوم، وما هي الخطوات لخروج العراق من عنق الزجاجة؟
يجب أن نهيّئ خطاً وطنياً وإسلامياً أصيلاً تدعمه المرجعية الدينية في النجف الأشرف من خلال العمل على تهيئة نخب سياسية من العراقيين للوصول إلى السلطة، من أجل تحقيق الهدف الأسمى لآمال العراقيين، والوقوف بوجه الطائفية المقيتة التي ولدت نظام المحاصصة، تلك العقبة الكوؤد، فيجب أن نضع نصب أعيننا مصلحة العراق والوطن فوق كلّ اعتبار.
كان في حديث العلامة الدكتور السيد محمد بحر العلوم جوانب في غاية الأهمية حول تاريخ العراق، ولكن لخصوصية العتبة العلوية المقدسة وللحفاظ على حياديتها لم ننقلها.