سماحة الشيخ علي الكوراني دام توفيقه 20 جمادى الاولى 1430 هـ
ولد الشيخ علي الكوراني في جبل عامل في لبنان وترعرع فيها، وجاء إلى النجف الأشرف الذي كان يحلم أن يدرس فيها ليشرب من نميرها الصافي لأنها كما يصفها مركز أمير المؤمنين ومصنع العلماء والأدباء تعلقت روحه بالنجف وبأجوائها وما تحمله هذه الأجواء من نفحات أمير المؤمنين (عليه السلام) على العلماء والطلاب فكانت دماثه أخلاقه وتواضعه وهدوءه بالإضافة إلى علمه، فدرس عند أساطين العلماء وأجازوه بالرواية عنهم، ودرّس فتخرج على يديه كثير من الطلبة.
استقبلنا في بيته في مدينة قم المقدسة بكل حفاوة وتكريم وأخذ يسألنا عن مدينة النجف الاشرف ووضعها العلمي والسياسي وهو كله شوق إلى تلك المدينة التي ترعرع وتعلم فيها ، وبعدها طلبنا منه البدء بأجراء اللقاء فهيأ نفسه وبدأنا اللقاء ، وقد لمسنا من سماحة الشيخ الكوراني خلال هذا اللقاء أخلاقه العالية وتواضعه وسجيته البسيطة بدون تكلف وحبه وشوقه إلى مدينة النجف الاشرف وأجوائها العلمية وعلماؤها الابرار وأناسها الطيبون
عملكم نفحه من نفحات أمير المؤمنين (عليه السلام) :
قبل أن تبدؤوا لقائكم هذا أود أن أرحب بكم كثيراً وأقول لكم إن عملكم هذا عمل مفيد وهو نفحة من نفحات أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فتوثيق حياة العلماء والطلبة الذين نهلوا من علم رسول الله صلى الله عليه واله الأطهار المبارك وعاشوا في النجف والتذكير لأي طالب بتلك الأجواء الروحانية التي تعبق بها أزقة النجف ومدارسها لشيء عظيم ومفيد فالنجف اعتبرها مصنع الشخصيات العلمية والثقافية.
البداية في جبل عامل:
ولدت في جبل عامل وفي قرية ياطر من أسرة متدينة معروفة في بلدة ياطر جنوب لبنان ، سنة 1944 ميلادي ، ووالده المرحوم الحاج محمد قاسم كوراني من وجهاء ياطر كانت فوق من مدينة صور وهذه القرية تتكون من (12) ألف نسمة وكانت قرية جميلة جداً وتعتبر كمنطقة اصطياف واستجمام لما تحمله من مناظر جميلة وأجواء واسعة وكان السيد عبد الحسين شرف الدين كثيراً ما يتردد على هذه القرية في أيام استراحته، فقد كان أبي من وجهاء هذه القرية وكان يدعو كثير من الشخصيات العلمية والثقافية للقرية عند مجيء السيد عبد الحسين شرف الدين فكانت تعقد مجالس الأدب والفضل، وفي أحد الأيام طلب والدي من السيد عبد الحسين شرف الدين أن يوجهني للدرس والعلم فقد كان والدي يحثني كثيراً على طلب العلم، فوافق السيد على طلب والدي وكان يقول علي يصلح للدرس وأنا ببركته اتجهت إلى الدرس وطلب العلم، فهيء لي درساً وبدأت الدرس صغيراً.
متى بدأتم الدرس في النجف الأشرف؟
منذ الصغر وأنا في جبل عامل كنت انظر إلى النجف بأنه مركز أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فقد كانت لي أمنية أن أدرس في النجف بل هذه أمنية كل طلاب العلم من جبل عامل فالدراسة في النجف شيء مهم وكبير عندنا، وبالفعل شجعني والدي على الذهاب إلى النجف واصطحبني إلى الشام ليودعني إلى النجف وقال لي: (أنا وهبتك لأمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام) ثم قال إذا وصلت النجف ودخلت الضريح الطاهر أمسك بالضريح وقل يا أمير المؤمنين وهبني لك والدي، فكان كلامه هذا حافزاً ومشجع لي على طلب العلم والتعلم والتفوق، وكان هذا عام 1958 فدرست المنطق والفقه وألفيه ابن عقيل وابن مالك والمعاني والبيان والرسالة العملية وكتاب الدر الثمين فيما يجب معرفته على المسلمين للسيد محسن الأمين بتعليقة السيد محسن الحكيم ثم الشرائع والنحو والكفاية وغيرها وكنت أدرس في نفس الوقت، فقد كنت أدرس في جامع الهندي 4 دروس في النحو والمنطق والمغني والمعاني والبيان.
ذكرياتكم عن النجف؟
تولد شخصية طالب العلم في النجف بسبب وجود نفحات وعبقات من أمير المؤمنين عليه السلام، والنجف تطبع الإنسان بطابعها فتصاغ شخصية الطالب العقائدية والروحية في النجف وهذا ما أشعر به من الحنين والشوق المستمر إلى النجف وعند قدومي أول مرة إلى النجف استقبلني الشيخ محمد تقي الفقيه والشيخ جعفر الفقيه فاسقبلوني بأحسن استقبال واصطحبوني إلى المدرسة اللبنانية حين عشت سنين فيها اتابع دراستي العلمية، وقد عشت في النجف في فترة كثيرة فيها الأحداث وتسارعت الأحداث من أحداث سياسية واجتماعية ودينية وغيرها.
أبرز أساتذة الشيخ الكوراني:
في بداية حياتي وأنا في مدينة تانا درست عند الشيح سليمان، وفي النجف الاشرف حضرت عند الكثيرين وأذكر، فقد حضرت عند السيد علاء بحر العلوم وعند الشيخ محمد تقي الإيرواني، وحضرت درس الرسائل عند السيد آية الله محمد سعيد الحكيم، وحضرت البحث الخارج عند آية الله العظمى السيد الخوئي (قدس) وعند السيد محمد باقر الصدر (قدس)، ودرس الأخلاق عند السيد جواد الأمين، ودرست شرح التجريد وقسم من منظومة السبزواري عند الأستاذ محمد جمال الهاشمي، وقد حصلت على إجازات من آية الله العظمى السيد محسن الحكيم، وآية الله العظمى السيد الخوئي وأية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر.
ما هي أبرز مؤلفاتكم؟
لدي إلى الآن حوالي خمسين مؤلف فأول كتاب ألفته كان في النجف بعنوان (الشباب والدين) فقد كان يخاطب الشباب ليبتعدوا عن الشيوعية ويأتمروا بأمر الدين، وكتابي الأخير الآن والذي هو تحت الطباعة (السيرة النبوية) بصياغة جديدة ومفهوم جديد.
الحوزة العلمية في النجف تاريخ عريق فكيف تنظرون إليها؟
الحوزة العلمية في النجف الأشرف هي أقدم الحوزات وأعرقها وهي الآن تستعيد عافيتها بعد ذلك النظام المقبور إذ تحاول تنظيم نفسها وبناء مناهجها فأنا أرى الحوزة العلمية في النجف تنهض من جديد ليكون لها الدور الريادي في العالم الإسلامي، وإذا أردنا أن نعرف دور النجف وتأثير العلماء المسلمين في العراق خاصة نرى إن (ابن جبرين) العالم الوهابي يقول (إن الرافضة إذا تمكنوا في العراق ينغلق باب الدعوة) وهذا كلامهم يدل على أنهم يعرفون دور علماء النجف وتأثيرهم في العالم ككل وليس الإسلامي فقط، ونحن نرى كيف إن الدين الإسلامي ومذهب أهل البيت (عليه السلام) قد انتشر بسبب هجرة العراقيين إلى دول العالم المختلفة وأنا أؤكد على أنه يجب الاهتمام بالدرس المضمون والعمق العقلي لا أن يتركز الاهتمام على الشكل والإعلام والدعاية وأن تستمر الحوزات العلمية بنظام الإجازات فالأستاذ يختار التلاميذ والتلاميذ تختار الأستاذ ويجب أن نقنع العالم بهذا النظام، فلماذا يفرض علينا النظام الأكاديمي أنا أرى أن النظام الحوزوي أفضل ونظام الإجازات أفضل ويمكن تطبيقه حتى في العلوم العلمية والتطبيقية والهندسية وغيرها، وهذا ما تنبهت له بعض دول العالم المتطورة.
ومن فوائد النظم الحوزوية للطلبة هي مجالس المذاكرة ومجالس المباحثة، فمجالس المباحثة تفيد الطلبة الذين يدرسون في موضوع واحد يتفقهون على بحث يومياً بحيث يكون أحدهم أستاذاً وهذه المباحثة مهمة جداً لاستيعاب المطلب العلمي، وأما المذاكرة فكانت تعقد قبل المجالس الحسينية الاسبوعية فيطرح موضوع للنقاش ومسائلة الآخرين عليه ويكون هذا الموضوع متعدد الجوانب سياسياً أو اقتصادياً أو عقائدياً أو غيره وهذه الجلسات مفيدة ومربية لطلبة العلم ويا حبذا لو تستمر هذه مجالس المباحثة والمذاكرة.
ذكريات عن العلماء:
لي ذكريات عديدة ورائعة مع العلماء فقد عشت في وسطهم وبين أنديتهم، فأتذكر مرجعية السيد محسن الحكيم (رحمه الله) فقد كانت مرجعية قوية ومهيبة يرجع إليها أغلب العالم في التقليد، وكان في تلك الفترة درس للسيد الخوئي في أصول الفقه وكان من أكبر الدروس وأكثرها حضوراً للطلبة، وأتذكر الشيخ عبد الكريم الزنجاني الذي كان عالماً فاضلاً وأستاذاً مجتهداً فقد كان يصلي في الحرم جماعة، وكانت زيارته لمصر مؤثرة جداً ومهمة، وأتذكر الشيخ حسين الحلي الذي كان معروفاً بالزهد والعلم الوافر لكنه لم يرغب يوماً بالتصدي إلى المرجعية، وكان السيد محمد باقر الصدر يفتخر بأستاذه السيد الخوئي وكان يمدحه كثيراً كذلك كانت علاقته بالسيد محسن الحكيم علاقة قوية جداً وخاصة بولديه السيد مهدي والسيد محمد باقر الحكيم رحمهم الله جميعا بوافر رحمته.
عشتم في مرحلة ذات تغيرات سياسية واجتماعية كثيرة ما هي إفرازات تلك المرجعية برأيكم؟
في تلك الفترة كان المد الشيوعي على أشده، وحصلت ثورة عبد الكريم قاسم عام 1958 وهذه المرحلة اعتبرها مرحلة فاصلة في تاريخ العراق الحديث، فقد كان المد الشيوعي ضد الدين حتى صرحوا (الدين أفيون الشعوب) وقد كانوا يحاربون العلماء حتى كانت هناك فترة طلبة العلوم لا يستطيعون الخروج في الليل والنهار إلا بشكل مجموعات خوفاً من تعرضهم للإهانات وما شابه ذلك، وقد وصلت بهم الدرجة إنهم كتبوا على جدار الصحن الشريف لأمير المؤمنين (عليه السلام) (من أين لك هذا) وقد تأثر بهذا المد بعض الناس فصارت هناك ردة فعل من قبل الحوزة العلمية في النجف الأشرف فتشكلت جماعة علماء النجف للرد على الشبهات التي يثيرها الشيوعيون ومطالبة الحكومة بوضع حد لهؤلاء الشرذمة.
ثم برزت حركة الشباب المسلم بقيادة عز الدين الجزائري وكانت حركة تعمل في الخفاء تشكيل يسبق تشكيل حزب الدعوة، ثم بدأ التفكير بتشكيل منظم أو حركة أو حزب بين عدة شخصيات أذكر منهم الشهيد عبد الصاحب دخيل والشهيد محمد باقر الصدر وآخرين حتى كتبت الأسس لحزب الدعوة.
وقد استمر الشيوعيون بنهجهم الخاطئ فكانت القسوة في التعامل والمجازر مما ولد اتجاهات وطنية وثورية ضدهم غير الاتجاه الديني الذي كان بوجههم في الساحة، وفي النجف مدينة العلماء طفح الكيل بتصرفاتهم وأخطاءهم حتى وصل بهم الأمر إلى الاعتداء على المراجع فجاءت الوفود من كل المحافظات تأييداً للمرجعية الدينية حتى أصدر السيد محسن الحكيم فتواه المشهورة (الشيوعية كفر وإلحاد) فكانت ضربة قاصمة لهم ورغم عداء بعض الشخصيات للمرجعية إلا أن الفتوى كانت موجهة للفكر الشيوعي لا للأفراد أو الأشخاص.
كثر في الآونة الأخيرة الحركات المهدوية ما رأيكم بهذه الحركات؟
برأيي كلما اقتربنا من الظهور ازدادت هذه الحركات، فأنا عشت في العراق وفي النجف الأشرف وأعرف طبيعة الفرد، فالفرد العراقي كله إيمان ومفعم بحب أهل البيت بدرجة كبيرة حتى الطالح منهم وقد عمل نظام البعث عن تجفيف منابع الثقافة لدى الفرد المسلم العراقي فحاول أن يفصل الناس عن المساجد وعن المرجعية وعن الثقافة بصورة عامة ولكنهم لم يستطيعوا أن ينزعوا روح الإيمان منهم، فوجد الإيمان ولكن بدون ثقافة فنرى الكثير إلى الآن يحملون عقيدة عالية ولكن بدون ثقافة دينية فلذا تأتي هذه الحركات من خلال استغلال العواطف الدينية لصالح هذه الحركات، فإذا انتشرت هذه الثقافة وهذا النضج الفكري فلا مجال لهذه الحركات.
الشعائر الحسينية ما لها وما عليها؟
سألت بروفسور في منظمة اليونسكو عن الشعائر التي نقوم بها فقال تمسكوا فيها كما هي فاليهود وغيرهم لا توجد لهم مقدسات فلذا يحاولوا أن يلغوا كل شيء مقدس ولا تقبلوا الدعوات إلى تخريب التقديس فهذا كلامه، وأنا أرى إن الشعائر الدينية بصورة عامة والشعائر الحسينية بصورة خاصة يجب أن ينظر لها من منظور قدسي، نعم يجب تهذيب بعض الشعائر والرجوع إلى العلماء الأعلام من ناحية الحلال والحرام وأن تأخذ الحكم الشرعي منهم لا من الإعلام أو الشخصيات مهما كانت.
كلمة أخيرة:
بارك الله فيكم، وأرى مشروعكم هذا بتوثيق سير العلماء والشخصيات نفحة من نفحات أمير المؤمنين (عليه السلام) فهنيئاً لكم هذا العمل وهنيئاً لكم الخدمة في هذا المكان المقدس.