آية الله الشيخ محمد السند دام ظله 22 محرم 1431 - 8/1/2010
محقّق قدير.. وباحث متبحر.. وعالم مجدّد.. تفوق في الدراستين الاكاديمية والحوزوية.. وتفانى في طلب العلم والمعرفة.. يتسابق مع الزمن بجدّ وإخلاص، نال مرتبة العلم والاجتهاد، له آراء ونظريات وتصورات علمية،أثرى الساحة الإسلامية بكتبه العلمية الرصينة، وعلى الرغم من تواضعه الشديد، له هيبة ووقار ودماثة خلق قلّ نظيرها. وهو في بلاد الغربة كان قد رأى رؤيا بأنه يدرّس في إحدى غرف الصحن الشريف. وبالفعل تحقّق الحلم بفضل الله تعالى وببركة صاحب المرقد باب مدينة علم رسول الله صلى الله عليه وآله، فدرسه الآن عامر في الصحن الحيدري الشريف في جامع عمران بن شاهين.
آية الله الشيخ محمد السند الذي التقيناه في بيته، وقد لاحظنا عليه علوّ الهمة والجدّ في العمل وشدّة الاعتناء بمحدّثه مهما كانت علميته، وعدم الجزع من السؤال واللجاجة من المقابل، وأجرينا معه حوارات مطوّلة استمرت لأيّام عدّة، واخترنا جزءً من هذا اللقاء نقدّمه لقرّائنا الكرام.
سؤالنا التقليدي كان عن بطاقته الشخصية فاجاب مشكوراً؟
محمد ابن الحاج حميد منصور سند، ولدت في بلاد البحرين في مدينة المنامة في أسرة شيعية موالية ومحبة لأهل البيت (عليهم السلام)، سنة الولادة1382هـ في شهر رجب أو جمادى، ترعرعت في وسط العاصمة حيث كانت تحيط بنا الكثير من الحسينيات والمساجد، وكانت بيئة مملوءة بالحبّ والولاء لمحمّد وآل محمد (صلوات الله عليهم).
والدي كان يزاول مهنة التجارة الحرة، وهو من طبقة ثرية، وكان لديه الكثير من المعارف على مستوى البحرين، كانت جدّة والدي المرأة الفاضلة خطيبة ذائعة الصيت في الخطابة الحسينية، وكانت تبيّن الكثير من المسائل الفقهية، وكذلك من طريق الأم كانت لدي جدّة موسوية معروفة في الخطابة النسائية.
وكان الجدّ الخامس لي من الثوار، وهو من الحركة التحريرية في بلاد البحرين، واستشهد مع أربعة ثوّار كانوا يطالبون بتحرر البحرين، وفي العائلة الكثير من أهل الأدب والشعر.
سألنا سماحته عن دراسته الأكاديمية، فتفضل قائلاً:
دخلت المدرسة الابتدائية وأنا في سن الرابعة وستة أشهر حيث كان أحد معارف والدي في وزارة التربية وساعدني على ذلك من خلال اختباري وقبل دخولي إلى المدرسة، وبالفعل دخلت الابتدائية وتفوقت فيها، وكذلك في المرحلة الثانوية، تخرّجت منها وأنا في سن الـ 15 وبتفوّق، بعدها أكملت الدراسة الجامعية في لندن،
وفي السنة الأولى من دراستي الجامعية حصلت على المرتبة الأولى، وكان من الممكن أن أتخصّص في السنة الأولى لما بذلته من جدّ واجتهاد، وبعدها فضّلت أن أدرس فوق الدبلوم، وكنت أتوق بشدة للدراسة الحوزوية، فقررت ترك الدراسة الأكاديمية والالتحاق بالدراسة الحوزية.
بالرغم من ظروف الدراسة والحياة التي كنتم تعيشونها ووصولكم إلى الدراسة في أوروبا، ما هي الأجواء التي جعلتكم تتجهون للدراسة الحوزوية؟
في الواقع كان جدّي من طرف الوالدة يستضيف في بيته العامر الكثير من الخطباء والوجهاء، وكان لذلك المجلس دور مهم في صقل شخصيتي والالتقاء برجال الدين، وكذلك في سني المراهقة كنت أتردّد على المجالس في مسجد الخواجة في البحرين، الذي كان يضمّ درس المرجع الشيخ محمد آل شبير الخاقاني، وكنت أجلس تحت منبر الخطباء، وكانت أمنيتي منذ الصغر المجيء إلى النجف الأشرف وحضور الدروس في الحوزة العلمية فيها، ولكن والدي أصرّ على إكمال دراستي الجامعية.
متى بدأتم بالدراسة الحوزوية؟
في بداية الثمانينات سنة 1400هـ صممت على ترك الدراسة الأكاديمية بالرغم من تفوقي فيها؛ وذلك للالتحاق بالدراسة الحوزوية، وكنت أتمنى التوجه إلى حوزة النجف الأشرف، ولكن بسبب الأوضاع السياسية في العراق ونظام البعث جعلني أتوجه إلى حوزة قم في إيران، وكنت في شوق إلى الدراسة الحوزوية،فأقبلت عليها برغبة وولع كبير وبنهم وحب للدرس، فدرست المقدمات والسطوح العالية، وقد طويتها في ثلاث سنوات ونصف، فقد كثفت ساعات الدراسة بحيث لم يكن لدي تعطيل، وعلاوة على ذلك كنت أتلقى دروساً خاصة من أجل اختصار الوقت واستيعاب سريع للدروس، فمثلا في ألفية ابن مالك درست عدة كتب منها شرح ابن عقيل وشرح ابن الناظم وشرح السيوطي وقطر الندى وجامع المقدمات وعلم البلاغة والمطول في علم البلاغة والمغني، وفي مرحلة السطوح درست كتاب القوانين ومباحث الألفاظ بأكمله، وأصول الفقه، والحلقة الثالثة للشهيد محمد باقر الصدر، بعدها درست اللمعة، وقد درست المنهج القديم التقليدي والمتطور والبديل بكثافة، وقد درست كتاب الكفاية والرسائل مرتين، وكنت أنظم دروسي حسب ساعات اليوم، في الصباح وبعد الظهر دروس، وفي المساء مباحثة، بحيث كان مجموع ساعات الدرس في اليوم ما يقارب 12 ساعة إلى أن دخلت مرحلة البحث الخارج عند الكثير من الأعلام.
ابرز اساتذة سماحة السند في مراحل الدراسة؟
في العلوم العربية درست عند عملاق مدرسة النجف الأشرف الشيخ محمد علي المدرس الأفغاني، فقد درست عنده المقدمات والسيد رزاق جمال الدين في الأدب، ودرست على السيد محمد جمال الطهراني كتاب القوانين وعند الشيخ الاشتهاردي درس اللمعة، ودرس الكفاية والمكاسب على يد الشيخ القاييني والشيخ الكاظمي، أمّا الرسائل فعند السيد فاطمي ابهري.
وأما في البحث الخارج فقد تتلمذت على يد آية الله العظمى السيد محمد روحاني (قدس سره)، فكنت لا أنقطع عنه يوماً،وكنت ملازماً له حتى في أيام العطل،إذ أعدّه عبقري زمانه، وكذلك حضرت عند آية الله الميرزا هاشم آملي، وحضرت بحث السيد الكلبايكاني، وعند السيد الفاني، وعند الشيخ الوحيد الخراساني، وهما خريجا مدرسة النجف الأشرف، وكذلك عند الشيخ جواد التبريزي.
وقد درست الفلسفة وعلم الكلام والعقائد عند الشيخ جواديآملي، والشيخ يحيى الأنصاري، والشيخ حسن زادهآملي.
حادثة تتذكرونها في مرحلة الدراسة؟
قصة طريفة ومفيدة حدثت لي حينما صممت على ترك دراستي الأكاديمية في لندن والتوجه للدراسة الحوزوية، فقد كان عميد الكلية التي أدرس فيها يهودياً،وعند سماعه تركي الدراسة طلب لقائي، وكان منجذباً لي نتيجة تفوقي العلمي والأخلاقي، وكانت جلسة مطولة بادرني فيها بالسؤال: لماذا تريد الذهاب إلى تلك الدروس القديمة البالية المتخلفة؟
فقلت له:أنت لا تعرف ديننا حتى تطلق هذه الأحكام، والأجدر بك أن تعرف ديننا بعد ذلك لك الحق في الحكم على تلك الدروس والعلوم، بعدها قال لي: سنحقق لك ما تريد من رسوم الجامعة إلى السكن، وكلّ ما تطلبه من ملذات وماديات سنوفره لك، ثمّ حاول أن يغريني بشتى الوسائل، حتى أخذ يبكي ويطلق دموع التماسيح، ولكني رفضت، وبعدها طلب مني جلسة أخرى وبنفس الحديث وحاول اغرائي وإقناعي بشتى الوسائل، ولكنّي رفضت؛ لأني كنت قد صممت على الدراسة الحوزوية.
ما الاجازات التي حصلتم عليها؟
لم أكن أطمع في الإجازات المكتوبة فقد تعلّمت من أستاذتي الكبار وهو شعاري: الإجازة لا تخلق شيئاً غير موجود، ولا الشيء الموجود إذا أثبتّ وجوده يحتاج إلى إجازة مدونة، ولكني حصلت على شهادات شفوية كثيرة من أساتذتي وبمحضر الدرس العام من السيد الروحاني والميرزا، ثم الآملي ومن السيد الفاني، والشيخ التبريزي، والشيخ الوحيد الخراساني.
أول كتاب قمتم بتأليفه؟
أول كتاب ألّفته كان عام 1412هـ وهو (دعوى السفارة في الغيبة الكبرى)ويقع في جزأين، ثم توالت بعدها مؤلفاتي.
لو تحدثنا عن الاجتهاد والمجتهد فمن برأيكم يطلق عليه هذا اللقب؟
الفقيه أو المجتهد هو الذي له بناء علمي في الساحة العلمية والحوزوية وليس الذي توثقه ورقة، ـ بالرغم من عدم نكران أهيمتهاـ فالمجتهد هو الذي لديه نظريات علمية وابتكارات وآراء في القضايا العلمية على وفق أصول علمية صحيحة، أتذكر كلمة للميرزا النائيني وهي في غاية الروعة:
اعلموا انّ الذي يديم الحوزة العلمية ليس الاجتهاد، والذي يزيد عمر الحوزة العلمية ليس المجتهدين، الذي يديم عمر الحوزة العلمية التحقيق، الذي يديم عمر الحوزات العلمية هم المحققون، وهذا ما أكده اية الله السيد الروحاني قال: التحقيق وراء الاجتهاد وانّ صمام الأمان للشيعة والتشيع وللحوزات العلمية هو التحقيق، وإذا هبط المستوى العلمي ـ لا سمح الله ـ فهذا أكبر ضربة للحوزات العلمية، فلا يكفي الدراسة والاجتهاد، وإنما يجب الإنجاز وبحث آفاق للحوار والبحث والتقصي.
لقد درستم الدراسة الأكاديمية والدراسة الحوزوية، فكيف تقيّمون كلّاً منهما؟
نظام الحوزة نظام حر، فالنظام الدراسي والتعليمي الحوزي هو نظام يعتمد على الإنجاز والإبداع، فالذي يثبت وجود العالم والمحقّق هو إنجازاته العلمية.
الآن النظام الأكاديمي العالمي بدأ ينحو إلى النظام الحر في التعليم، وهو نفسه النظام الحوزوي، ومع الأسف نشاهد البعض يحاول أن يفرض النظام الأكاديمي في بعض الحوزات أو المدارس الدينية، وهو نظام بال وقد تحرّرت منه كبرى جامعات العالم، فمثلاً قد يكون الطالب غير جيد من الناحية العلمية الدراسية، ولكنه قد يبرز في الجانب الإداري، وهكذا فالحوزة لا تقيّد الطالب، بل تفتح له ابواب التفوق والاختيار.
المرجعية الدينية في النجف الأشرف؟
المرجعية وبحمد الله تعالى ذات بصيرة نافذة في المجالات كافة، وقد رأينا دورها بوضوح في آرائها القانونية في المشهد السياسي العراقي، ومع احترامي للكتل والأحزاب السياسية الشيعية وغيرها، وما كانت تلتفت هذه الأحزاب إلى هذه المنعطفات القانونية لولا رشادة المرجعيات الدينية في النجف الأشرف، ولكن مع الأسف الكثير ولحد الآن لا يقدّر دور المرجعية وعمقها العلمي.