الغري او الغريان

    يعتبر في طليعة الأسماء المتداولة الشائعة، لبقعة النجف عند كافة طبقات أهل الفضل والمعرفة، لكثرة وروده في معاجم الحديث، وقواميس اللغة، وكتب التاريخ، والأدب إلى جانب ما في اللغة العربية على قسميها، الدارجة، والفصحى، في التحقيق، والبحث، والشعر على اختلاف أغراضه وفنونه... بالإضافة إلى أن الكثيرين من أهالي مدينة الغري المقدسة، منذ القدم يضيفون إلى أسمائهم كلمة (الغروي) و(النجفي) ويتخذوه لقباً لهم ولعائلتهم وذراريهم، ليشعروا الآخرين والأجيال، من أنهم ينتسبون إلى بلد الغري، أما من جهة الولادة، أو من ناحية الدراسة، والتوطن والإقامة... فكما يقال على سبيل المثال: الرازي... الأصفهاني... اللبناني... السوري... نسبة إلى البلدة، كذلك النسبة إلى الغري، والنجف، وهذا ما لا مشاحة فيه ولا يفتقر إلى توضيح وشرح.

      قال ياقوت: الغريّ الحسن من كل شيء، والغريَّان: تثنية الغري وهو المطلي بالغراء.. والغري نصب كان يذبح عليه العتائر، والغريَّان طربالان وهما بناءان كالصومعتين بظاهر الكوفة قرب قبر علي بن أبي طالب (عليه السلام)، بناهما المنذر بن امرئ القيس بن ماء السماء[1]، وكان السبب في ذلك انه كان له نديمان من بني أسد فثملا فراجعا الملك ليلة في بعض كلامه فأمر وهو سكران فحُفر لهما حفيرتان في ظهر الكوفة ودفنهما حيّين، فلما أصبح استدعاهما فاخبر بالذي أمضاه فيهما فغمّه ذلك وقصد حفرتهما وأمر ببناء طربالين عليهما وهما صومعتان، فقال المنذر: ما أنا بملك إن خالف الناس أمري، لا يمر أحد من وفود العرب إلا بينهما، وجعل لهما في السنة يوم بؤس ويوم نعيم، يذبح في يوم بؤسه كل من يلقاه ويغري بدمه الطربالين[2].

    ويظهر أن احد البناءين هدم ولم يبق حتى اسمه وبقي الآخر وهو القائم المائل. وهو الوجه في تسمية البقعة باسم (الغري) بالإفراد وقد مر معن بن زائدة الشيباني بالغريين فرأى أحدهما وقد شعت وهدم فانشأ يقول:

 

لو كان شيء له أن لا يبيد على

طــــول الزمان لما بـاد الغريَّان
فــفـرق الــدهــر والأيام بـيـنـهـما
وكل إلف إلى بين وهجران[3]
 

     ونهجنا في متابعة هذا الموضوع، تبيان بعض الروايات الدينية التي جاءت بخصوص (الغري) أو (الغريان) وأن المراد منه بقعة النجف. ومن ثم عرض كلمات اللغويين، والمؤرخين، والأدباء فيه.

     روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما حضرته الوفاة قال للحسن، والحسين (عليه السلام): إذا أنا مت فأحملاني على سرير، ثم اخرجاني واحملا مؤخر السرير، فإنكما تكفيا مقدمه ثم أتيا بي الغريين، فإنكما ستريان صخرة بيضاء فاحتفروا فيها فإنكما تجدان فيها شيئاً فادفناني فيه. قال: فلما مات أخرجنا وجعلنا نحمل بمؤخر السرير، ويكفي مقدمه وجعلنا نسمع دوياً وحفيفاً حتى أتينا الغريين فإذا صخرة بيضاء تلمع نوراً.

      ويقول ياقوت الحموي بهذا الصدد: - الغريان تثنية الغري، وهو المطلى بالغراء ممدود. وهو الغراء الذي يطلى به. والغري فعيل بمعنى مفعول. والغري الحسن من كل شيء يقال رجل غري الوجه، إذا كان حسناً مليحاً. فيجوز أن يكون الغري مأخوذاً من كل واحد من هذين. والغري نصب كان يذبح عليه العتائروالغريان طربلان، وهما بناءان كالصومعتين بالكوفة قرب قبر علي بن أبي طالب (عليه السلام). إلى أن قال بعد حديث طويل:

      وأن الغريين بظاهر الكوفة، بناهما المنذر بن امرئ القيس بن ماء السماء، وكان السبب في ذلك أنه كان له نديمان من بني أسد، يقال لأحدهما خالد بن نضلة، والآخر عمرو بن مسعود، فثملا فراجعا الملك ليلة في بعض كلامه فأمر وهو سكران فحفر لهما حفيرتان في ظهر الكوفة، ودفنهما حيين. فلما أصبح استدعاهما فأخبر بالذي أمضاه فيهما فغمه ذلك، وقصد حفرتهما وأمر ببناء طربالين عليهما، وهما صومعتان. فقال المنذر: ما أنا بملك إن خال الناس أمري. لا يمر أحد من وفود العرب إلا بينهما وجعل لهما في السنة  يوم بؤس، ويوم نعيم. يذبح في يوم بؤسه كل من يلقاه، ويغرى بدمه الطربالين فإن رفعت له الوحش طلبتها الخيل، وإن رفع طائر أرسل عليه الجوارح، حتى يذبح ما يعن ويطليان بدمه. ولبث بذلك برهة من دهره، وسمى أحد اليومين يوم البؤس وهو  اليوم الذي يقتل فيه ما ظهر له من إنسان وغيره، وسمي الآخر يوم النعيم يحسن فيه إلى كل من يلقى من الناس ويحملهم ويخلع عليهم.

وبعد أن ذكر قصة طويلة عن المنذر قال:

     وروى الشرقي، قال: الغري الحسن من كل شيء. وإنما سميا الغريين لحسنهما. وكان المنذر قد بناهما على صورة غريين كان بعض ملوك مصر بناهما. وقرأت على ظهر كتاب شرح سيبويه للمبرد، بخط الأديب عثمان بن عمر الصقلي النحوي الخزرجي ما صورته: وجدت بخط أبي بكر السراج، رحمه الله على ظهر جزء من أجزاء كتاب سيبويه، أخبرني أبو عبد الله اليزيدي، قال: حدثني ثعلب، قال: مر معن بن زائدة بالغريين فرأى أحدهما وقد شعث وهدم فأنشأ يقول:

           ****

لو كان شيء له أن لا يبيد على  

 طول الزمان لما باد الغريان 

            ****

ففرّق الدهر والأيام بينهما

  وكل ألف إلى بين وهجران

            ****

     ويظهر من نصوص بعض كتب السير والتاريخ، أن أحد البناءين هدم أمر بهدمه المنصور لكنز توهم أنه تحتهما فلم يجد شيئاً، ولم يبق حتى اسمه، وبقي الآخر وهو القائم المائل كما في بعض الأحاديث والقائم المنحني كما في بعض آخر، وهو الوجه في تسمية البقعة باسم (الغري) بالأفراد.

وقال أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني المتوفى 110هـ، وهو آخر من مات من الصحابة، يذكر الغريين:

             ****

الا طرقتنا بالغريين بعد ما    

 كللنا على شحط المزار جنوب

             ****

أتوك يقودون المنايا وإنما    

  هدتها بأولانا إليك ذنوب

             ****

 ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له  

 من الله في دار القرار نصيب

              ****

    وروي أن الفرزدق نزل بالغريين، فعراه بأعلى ناره ذئب فأبصره مقعياً يصيء، ومع الفرزدق مسلوخة فرمى إليه بيده فأكلها، فرمى إليه بما بقي فأكله، فلما شبع ولّى عنه فقال:

             ****

 وليلة بتنا بالغريين ضافنا      

 على الزاد موشي الذراعين أطلس

             ****

 تلمسنا حتى أتانا ولم يزل    

   لدن فطمته أمه يتلمس

             ****

 فلو أنه إذا جاءنا كان دانيا    

    لألبسته لو أنه يتلبس

             ****

   ولكن تنحى جنبة بعدما دنا    

   فكان كقاب القوس أو هو أنفس

             ****

فقاسمته نصفين بيني وبينه      

 بقية زاد والركائب نعس

             ****

  وكان ابن ليلى إذ قرى الذئب زاده

  على طارف الظلماء لا يتعبس.

             ****

      ومر أبو طاهر سليمان بن الحسن الجنابي، في جيشه بالغري، وبالحاير، فلم يعرّج على واحد منهما ولا دخل ولا وقف.

     وقد جاء ذكر (الغري) وأنها مدفن الإمام أمير المؤمنين (ع) في الأدب العربي بصورة مبسوطة أودعها الشعراء في قصائدهم خلال القرون المتمادية، وتراهم في أشعارهم يحنون إليها ويتشوقون إلى معاهدها، ويتمنون لشم تربتها المقدسة، والتوطن والمجاورة بها، من حيث الفضل والقداسة والبركة والرحمة والمغفرة والإحسان والمحبة، والفضيلة المتجمعة فيها لتضمنها البدن المعظم.

     وإليك بعض الشواهد من الشعر القديم على سبيل المثل، لا على سبيل الانتقاء والاختيار وعلى سبيل الإحصاء والجمع، ذلك لأن تأليف وجمع ما ورد عن اسم الغري، والنجف، والمشهد، ووادي السلام... كناية وتصريحاً لتعجز عن جمعه دواوين ضخمة ..

     قال أبو محمد سفيان بن مصعب العبدي الكوفي... من الشعراء المجيدين والمكثرين ومن حملة الحديث ورواة نوادره، وفي طليعة رجال الرواية، ومن أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وزميل السيد الحميري المولود سنة 105 والمتوفى 178هـ. وكان السيد الحميري، يقول: أنا أشعر الناس إلّا العبدي، في قصيدته البائية.

 

             ****

يا راكبا جسرة تطوي مناسمها      

 ملاءة البيد بالتقريب والجنب

             ****

تقيد المغزل الأدماء في صعد   

وتطلح الكاسر الفتحاء في صبب

             ****

بلغ سلامي قبراً بالغري حوى  

 أو في البرية من عجم ومن عرب

             ****

واجعل شعارك لله الخشوع به  

وناد خير وصي صنو خير نبي

             ****

وقال أبو علي دعبل بن علي بن رزين بن عثمان بن عبد الرحمن بن عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، المقتول ظلماً وعدواناً سنة 246هـ:

             ****

  سلام بالغداة وبالعشي            

 على جدث بأكناف الغري

             ****

 ولا زالت عزالى النوء تزجي     

  إليه صبابة المزن الروي

             ****

 ألا يا حبذا ترب بنجد    

 وقبر ضم أوصال الوصي

             ****

وصي محمد بأبي وأمي  

 وأكرم من مشى بعد النبي

             ****

الصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن عباد بن أحمد ابن إدريس الطالقاني، المتوفى 358هـ وكان في طليعة الأمراء والفقهاء، والمحدثين، والشعراء، والفصحاء، والبلغاء. افرد غير واحد من رجال التأليف كتاباً في ترجمته. فقد ذكر الغري في أرجوزتين له، قال في واحدة:

             ****

  يا زائراً قد قصد المشاهدا

  وقطع الجبال والفدافدا

             ****

 فأبلغ النبي من سلامي    

 ما لا يبيد مدة الأيام

             ****

  حتى إذا عدت لأرض الكوفة  

   البلدة الطاهرة المعروفة

             ****

 وصرت في الغري في خير وطن  

  سلم على خير الورى أبي الحسن

             ****

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------------

[1] تاج العروس م 10 /648.

[2] معجم البلدان: 4/ 196 ــ 200.

[3] المصدر السابق: 4 / 196 ــ 200.