عظيم لا كالعظماء
لئن كان جميع العظماء يرتبطون بمناسبات تاريخية معينة فترتسم فيهم ملامح من أحداث عصر خاص وتتجلى فيهم سمات من أحوال بيئية معلومة فإن العظيم حقاً هو الذي يشمخ بشخصيته وتفكيره وليشتمل على آفاق وأبعاد تتخطى عصره وبيئته إلى منفسح الزمان الأرحب.
ذلك هو الخلود في الأرض بأتم معانيه، على أن أولئك الخالدين كثيراً ما يتعرضون لآفة خطيرة وهي أن تحجرهم الأذهان في مجرد تماثيل محاطة بهالة من التقديس والتبجيل، لكن دون أن يوقف بنفاذ بصيرة وعمق عند المعاني الحية النابضة في تلك التماثيل بل تلك الرموز الموقدة أبداً شعلة الوحي.
وسيدنا الإمام علي بن أبي طالب (ع) هو من أفذاذ العظماء الذين تجاوزت عظمتهم حد الارتباط بمناسبات تاريخية معينة فأرسلوا أضواء جلت آفاقاً وأبعاداً رائعة في معارج الشوق الإنساني فإذا هم حاضرون أبداً لا يغيب لهم حضور، وإذا هم لا يحتملون أن يحجروا في تماثيل لأنهم أبداً يأخذون من الحياة ويعطونها، يسيرون في موكبها ويدفعون بها إلى السير نحو الأعدل والأجمل. ومن ثم لم يكن الإنسان أن يعرف الإمام علي بمعنى المعرفة إلا وجد نفسه تطالبه بأن يكون إنساناً أكمل، فالإمام علي وإن أصبح علم دين وطائفة فلا لدين هو ولا لطائفة بل للناس أجمعين، وما أجدر المنظمات العالمية التي تحتفل بعمالقة التراث الإنساني وفي مقدمتها منظمة الأونيسكو أن تفي لهذا العملاق حقاً وجب.
أما أنا فيقصر بي طموحي في موقفي هذا عن أن أصور لكم ولو بعض جوانب من عظمة الإمام علي فمتى كان للصدفة أن تسع البحر؟
في رأيي أن سر عظمة الإمام علي يتصل بهذه الحقيقة إنه كان من الحكام القلائل المعدودين الذين تولوا السلطة وجمعوا إليها علماً وشجاعة واستقامة سيرة وحكموا بموجب مبادئ وأخلاق لم يتزحزحوا عنها وإن تنكر لها ولهم العصر.
فهو مثال الحاكم الذي كان همه تطبيق المبادئ والأخلاق الواجب تطبيقها ثم فليكن نجاح نقي من الانتهاز، أو لا يكن ذلك أن غايته ليست مجرد النجاح وإنّما هي ممارسة رسالة.
وإذا كان بعض الناس يفهم بالسياسة الخطة التي تؤدي إلى النجاح ويفهم بالنجاح مجرد ما يوصل إلى الحكم، فالامام علي بريء من هذا الفاهم والمفهوم، لأن همه الأول كان ممارسة رسالة، وذلك الهم هو الذي قرن بينه وبين فكرة المثل الأعلى في الحكم، وفي الحكمة أيضاً فخلد ما دام البشر يرون نقصاً في الأمور الكائنة ويتوقفون إلى الأحق والأفضل.
ومذ كان الحكم عنده ممارسة رسالة فان رأس الصفحات التي تحلي بها الزهد.
راض عليه نفسه حتى أصبح طبيعة له ولم يتخذه زهده تفرج على الدنيا بل زهد عفة وتنزه وفعل لإصلاح الدنيا!
ولا بدع حين يعبر لنا الإمام عن زهده إن نسمعه يذكر (والكلمة له) Sمنهاج المسيح عيسى بن مريم (ع)".
وإذا كان الحكم ممارسة رسالة، وأنه لكذلك فما يصح أن تقوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على البطش والإرهاب، Sوأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سيفاً ضارياً تغتنم أكلهم، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع، وإياك والدماء وسفكها بغير حلها، لا تقوين سلطانك بسفك دم حرام".. كلمات أوصى بها الإمام قائده الأشتر النخعي حين ولاه على مصر، ولا نغالي إذا قلنا هي كلمات خالدة يصح أن يكتبها كل حاكم في لوح قلبه.
والثروة لم تكن شاناً شخصياً في نظر الإمام، أتاه مرة عن عامله في البصرة إنه دعي إلى مأدبة فكتب إليه: وقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت بها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان القصاع، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم إلى عائلهم (يعني فقيرهم) مجفو وغنيهم مدعو.
وهكذا كان الإمام يرى أن تراقب الدولة ولاتها وإن يقل الحكام من قبول الدعوة إلى المآدب التي تقام لهم ولا سيما إذا كان الداعون في مجتمع يضم فقراء هم أحوج إلى المال المهدور من المآدب.
بل كان الإمام يرى أبعد وأعمق من ذلك Sما اغتنى إلا بفقير فقير.. ما وجدت زيادة (يعني في الثورة) إلا وإلى جانبها حق مضيع".
فلمس ما بين وجود الثروة ووجود الفقر علاقة سببية، وألمح إلى المسؤولية القانونية والخلقية التي تترتب على أغنياء المجتمع أمام معوزيه، فكان طليعة وسابقاً إلى إثارة قضية عصرنا الكبرى العدالة الاجتماعية.
وفي سياسة الإمام علي واجتماعياته نزعة لا ترتوي من التأكيد عليها لشدة حاجتها إليها في عصرنا بالذات. كان الإمام يعلق الأهمية العظمى في السياسة والاجتماع على أخلاق الحاكم وأخلاق المواطن، فالسياسة الفاضلة والمجتمع الفاضل شرطهما الأول لا شرط قبله الأخلاق الفاضلة وليس هذا الرأي من البداهة بمقدار ما نتصور نحن الذين تعودنا إذا بحثنا اليوم في السياسة والاجتماع أن نصرف الهم إلى الأنظمة والقوانين.
ففي اختبارات التاريخ ما يثبت أن قوانين وأنظمة رديئة مع حكام ومواطنين صالحي الأخلاق والضمائر هي خير من قوانين وأنظمة ممتازة مع حكام ومواطنين لا أخلاق لهم ولا ضمير.. ذلك لأن القوانين والأنظمة يمكن الاحتيال عليها وتجريدها من كل جدوى إذا فسد الحاكم وفسد المواطنون.
وكما علق الإمام الأهمية العظمى على الأخلاق في السياسات والاجتماعيات جعل من الأخلاق حجر الأساس في حياة الفرد بينه وبين نفسه وبين خالقه. (احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك) إنها القاعدة الذهبية التي لا يصلح بدونها فرد ولا نظام حكم ولا مجتمع.
وبعد فعلى الإنسان أن يعيش حياة داخلية تأملية يغترف فيها من موارد نفسه التي صفاها ونقاها، ويستقي من ينبوع الاتصال بين نفسه وبين الله والقيم العليا، وهذا ما كان يسميه الاستغفار وله عنده ستة أصول: Sالندم على ما مضى، العزم على ترك العود إليه أبداً، أداء الحقوق إلى المخلوقين، أداء فرائض الله، التخلي عن كل ما جمع المرء بالسحت (أي الحرام) إمائة الجسم بألم الطاعة كما أبطر بحلاوة المعصية".
وأخيراً إن هذا الإنسان الذي ألزمه الإمام علي هذا الالزام كله هو في نظره حر، ولا يصح إلا أن يكون حراً ليصبح أن يكون ملزماً أي مسوؤلاً.
فمن وصيته لابنه الحسن: (لا تكن عبداً وقد جعلك الله حراً) وحتى علاقة الإنسان بخالقه لا يرضاها الإمام علاقة عبودية ولا علاقة استغلال واستثمار. (إن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة الدينار (في لغة العصر الدولار) وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار.
اللهم انفعنا بدروس إمامنا العظيم واجعلنا أبداً من الأحرار بيننا وبين نفسنا وبيننا وبينك!