وادي السلام

يعد وادي السلام من أكبر المقابر الإسلامية في العالم اليوم، وقد ورد عن بعض الأئمة (عليه السلام) روايات عن فضل الدفن فيه وعلى ذلك شواهد جلية في السنة المأثورة وقد وصف الشاعر النجفي الشهير محمد مهدي الجواهري مقبرة الوادي الكبير الذي تتزاحم بين جنبيه ما لا يقل عن عشرة أجيال من البشر بقوله: " إنها أكبر غابة للأموات في العالم "، وقد ضمت رملة وادي السلام رفات ما لا يحصى من المؤمنين قديما وحديثا، ولا زالت تربة وادي السلام حتى يوم الناس هذا محط أنظار المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها يتمنون أن يكون هذا الوادي مثوى أجسادهم كلما مرّ ذكر الموت في مخيلتهم أو راودتهم طيوفه وبخاصة ساعة النزع الأخير.

    وتمتاز أرض النجف بارتفاعها المحصن لها من الغرق حيث " يبلغ الفرق بين منسوب ارتفاعها ومستوى منسوب نهر الفرات من جهة الشرق حوالي (75) مترا وبينها وبين مستوى أرض بحر النجف من جهة الغرب حوالي (90) مترا. والتاريخ الذي وثق فيضانات الفرات لم يخبرنا بأية موجة لفيضانات الفرات تقربت لمنطقة النجف أو لأطرافها وبذلك اكتسبت مقبرة النجف خاصية مهمة طوبغرافية الطابع تعتبر ركنا أساسيا من مقومات المقبرة المثالية التي لا تتعرض فيها رفات الموتى الى الغرق أو الانجراف بواسطة مياه الفيضانات أو السيول كما أن طبيعة الصخور في موقع المقبرة غير ملائمة للاحتفاظ بالمياه النافذة اليها من الأمطار والسيول بسبب طبيعتها الرملية ذات المسامية والنفاذية العالية وعدم قدرة الصخور في موقع المقبرة ضمن مستويات الدفن على الاحتفاظ بمياه السيول والأمطار بسبب خصائصها الفيزيائية وهو ما يعتبر من الخصائص المثالية للترب الصالحة للدفن يبرز هنا دور طار النجف ليضيف بعدا مثاليا آخر لصلاحية مقبرة النجف للدفن حيث يعتبر الطار متنفسا مائيا لسطح الهضبة ولطبقاتها العلوية على وجه الخصوص إضافة الى طبيعة الصخور الموصوفة بالصلابة المتوسطة الى الهشة بسبب ضعف تماسك مادتها الرابطة مما يساعد على عمليات حفر تلك الصخور لأغراض الدفن بالوسائل اليدوية البسيطة وبفترة زمنية منطقية تلائم متطلبات الأغراض الاجتماعية لمراسيم الدفن كما أن الصلابة الهشة والمتوسطة للصخور متوازنة مع الحد الأدنى لمتطلبات مقاومة الانهيار أثناء حفر القبر بأبعاده المعروفة دون الحاجة الى تدعيم ".

ونتيجة لقدسية المكان وللطبيعة الجيولوجية المثالية للأرض غدت مقبرة وادي السلام من أقدس المقابر وأكبرها في العالم.

     وتثبت إحصائية ترجع الى أواخر العهد العثماني أن عدد الجنائز المحمولة الى النجف الأشرف للدفن من داخل مدن العراق وخارجه تصل الى حدود 20 ألف جنازة سنويا، وأن قراء القرآن المكلفين بقراءة القرآن على قبور الموتى قد أحصوا عام 1918م فبلغوا وقتها (2000) قاريء جلّهم من طلاب الحوزة العلمية النجفية.

    ويقدر المتوسط السنوي لنقل الجنائز الى النجف الأشرف فترة العهد الملكي بحدود (17.500) جنازة بعد أن انخفض عدد الجنائز المحمولة الى النجف الأشرف من خارج العراق لأسباب لا مجال لذكرها.

     وتكشف إحصائية أثبتها مكتب استعلامات الدفن في النجف الأشرف عدد الجنائز التي أمت النجف الأشرف من خارجها خلال عام (ابتداء من الأول من تشرين الأول عام 1974م وحتى الثلاثين من أيلول عام 1975م) - رغم تضييق النظام البائد على دخول الجنائز الى العراق من خارجه لأسباب طائفية معروفة - فتبين (أنها بلغت (28171) ألف جنازة، بينها (15644) ألف جنازة للذكور و (12527) ألف جنازة للإناث).موزعة على أشهر السنة كالتالي: (2060) جنازة في شهر تشرين الأول، و(2130) جنازة في تشرين الثاني، و(2601) جنازة في كانون الأول، و(2926) جنازة في كانون الثاني، و(2360) جنازة في شباط، و(2753) في آذار، و(2691) جنازة في نيسان، و(2402) جنازة في مايس، و(2060) جنازة في حزيران، و(2178) جنازة في تموز، و(2033) جنازة في آب، و(1977) جنازة في أيلول.

     كما تبين إحصائية عام 1974م المتقدم ذكرها ان العديد من هذه الجنائز قد قدمت الى النجف الأشرف من خارج العراق، من دول عربية، وإسلامية، وغربية يقطنها مسلمون، وهذه الدول هي: دولة الكويت، والجمهورية العربية السورية، والمملكة العربية السعودية، وإيران، وفلسطين، والجمهورية اللبنانية، والمملكة المتحدة، وعمان، والجمهورية الفرنسية، والجمهورية الباكستانية، والبحرين، والجمهورية الأسبانية، والإتحاد السوفيتي.

     كما تكشف إحصائيات استقيتها مباشرة من مكتب استعلامات الدفن التابع لبلدية النجف الأشرف أن معدل أعداد الجنائز التي أمت مدينة النجف الأشرف في عام 2002م أي قبل سقوط النظام البائد في 9/4 /2003م كانت بمعدل 70 جنازة يوميا من مختلف محافظات العراق، بينما انعدمت أو تكاد الجنائز الواردة من خارج العراق بسبب المنع الحكومي المفروض عليها، فقد كان يتطلب السماح بدخول جنازة عراقي توفي خارج العراق الى موافقة خاصة من وزارة الخارجية العراقية التي يتطلب استحصالها أياما، ثم ينتهي الأمر بالرفض عادة إلاّ ما ندر وبشكل استثنائي،وخلال تلك الفترة الحرجة المؤلمة الحزينة على أهل المتوفى وأحبابه تبقى الجنازة مطروحة بانتظار الموافقة الخارجية المنتظرة التي لا تأتي غالبا، مما يضطر الأهل إن وجدوا أو الجيران أو الأحباب والأصدقاء الى دفن الجنازة في بلاد الغربة، ولذلك فقد انتشرت مقابر العراقيين في أرجاء المعمورة وبخاصة مقابر المعارضين منهم الذين قدر الله لهم أن يلتحقوا ببارئهم خارج عراقهم الحبيب بمن فيهم العديد من رموز العراق الوطنية والثقافية والعلمية.وكأن الله قدر لهم أن يعيشوا الغربة مرتين، مرة قبل الممات وأخرى بعده، رغم وصايا غالبيتهم الملحة بأن يدفنوا في تربة بلدهم وفي النجف الأشرف خاصة.

     ولقد زرت بعض هذه المقابر الكئيبة في لندن وطرابلس الغرب ودمشق وطهران وقم وغيرها حيث دفن لي فيها أهل وأقارب لقراءة الفاتحة على أرواحهم وأرواح ساكنيها من جيرانهم الغرباء فوجدتها موحشة غريبة كغربتهم، مؤلمة كآلامهم ومعاناتهم، متشوقة للمسة حب وحنان كتشوقهم لأهليهم ووطنهم زمن الغربة القسرية الموجعة، فإنا لله وإنا اليه راجعون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين.

     أما معدلات أعداد الجنائز التي أمّت النجف الأشرف بعد سقوط النظام البائد أي في أعوام 2003م و2004م و2005م فقد قاربت معدلاتها حسب أقوال المعنيين في مكتب استعلامات الدفن وغيره المائة جنازة يوميا.

    وقد لاحظ موظفو مكتب استعلامات الدفن والمتتبعون أن أعداد الجنائز تزداد بشكل ملحوظ أيام محاكمة صدام حسين وأعوانه، وهي ظاهرة تستدعي الوقوف عندها طويلا.

    كما لاحظوا كثرة أعداد صرعى عمليات القتل الإرهابي والتفجيرات التي أمت وتؤم النجف الأشرف جنائزها هذه الأيام بوتائر متصاعدة، إضافة لتزايد أعداد مجهولي الهوية منهم ممن وجد مقطوع الرأس مثلا وغيره مما اضطر المؤمنون من أهل الخير والإحسان الى استحداث مقبرة خاصة بهم تحمل قبورها أرقاما خاصة، لكل رقم منها ملف خاص يحتوى على صورة للقتيل ما أمكن مع كل ما يمكن أن يدل على صاحب القبر من أشيائه الخاصة ومقتنياته متى وجدت معه،عسى أن يتم التعرف بواسطتها على ساكنه القبر الغريب المجهول بطريقة ما مستقبلا.

     ومن الواضح أن بيانات مكتب استعلامات الدفن لم تثبت إلاّ من وصلت جنازته الى النجف وسجلت في مكتب استعلامات الدفن أما أعداد الذين لم يعثر لهم على أثر نتيجة تطاير أجسادهم في الهواء أو تبعثر لحومهم وعظامهم نتيجة شدة التفجيرات، كما لم تتناول هذه البيانات من لم يطرق باب مكتب استعلامات الدفن لأسباب شتى يأتي في مقدمتها أن التسجيل ليس إلزاميا بل يخضع لرغبة أو حاجة ذوي المتوفى لمساعدة المكتب على دفن المتوفى أما من لم يرغب منهم باستحصال المعونة، فيبقى خارج نطاق التسجيل في المكتب وخارج أرقامه ضمنا،  ويأتي من جملة أسباب عدم تسجيل الوفاة في المكتب أن العديد من ذوي المتوفى له متعهد خاص يتولى دفن موتى أسرته أو قبيلته أو مدينته أو ما شاكل مما يكفيه مؤنة خدمات مكتب الدفن فلا يحتاجه، إضافة الى رغبة وجود أعداد غير قليلة باتت تدفن موتاها خارج تربة وادي السلام في النجف الأشرف لأسباب شتى منها صعوبة النقل في الظروف الاستثنائية ومنها الوضع الاقتصادي ومنها وجود مدافن خاصة لأسر معينة ومنها الرغبة وغيرها ففي كربلاء المقدسة والبصرة وبغداد مقابر كبيرة بدأت تتسع باطراد وفي الكثير من القصبات والأقضية والنواحي ومراكز المدن مقابر.

    ومما يلفت النظر حقا بعد الارتفاع الكبير في أعداد ضحايا التفجيرات الطائفية الإرهابية، تصاعد نسب الوفيات بسبب مرض السكر والسرطانات المنتشرة بكثرة هذه الأعوام، وهو ما يستدعي من المهتمين بالشؤون الصحية وبخاصة وزارة الصحة معالجته سريعا والتركيز عليه.