الخصال
للشيخ الجليل الأقدم
الصدوق
أبي جعفر محمد بن علي بن
الحسين بن بابويه القمي
المتوفى 381
قدم له
العلامة الجليل السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله ربّ العالمين وكفى، والصلاة على محمّد
المصطفى، وآله المستحفظين الشرفا.
وبعد: فقد اعتادت المكتبة الحيدرية ـ رعى الله
صاحبها الاُستاذ الشيخ محمّد كاظم الكتبي ـ أن تنشر الآثار الصالحة
النافعة، فهي تطالع القرّاء بين حين وآخر بنتاج فكري قيم، وثمر علمي
ناضج، خدمة منها للعلماء المؤلّفين، ومشاركة معهم في أداء رسالتهم
الّتي أودعوها تصانيفهم، فكان على دور النشر بعثها من جديد إلى أيدي
القرّاء إتماماً لمهمتهم العلمية، وتحقيقاً لغاياتهم النبيلة.
وانّها اليوم تقدّم كتاب (الخصال) من تآليف
الشيخ أبي جعفر محمّد بن عليّ الصدوق(رحمه الله)، وقد سبق أن نشرت عدة
من كتبه، وكان لي شرف تعريف المؤلّف والكتاب في مقدّماتها، وعطفاً على
ما سلف فقد طلب إليَّ الأخ الكتبي سلّمه الله تقديم هذا الكتاب، فأجبته
شاكراً له تهيئة الفرص للالتقاء مع القرّاء بين حين وآخر.
لقد افتنّ الشيخ الصدوق في تأليف كتابه (الخصال)
بإسلوبه ونهجه، بأبوابه وعناوينه، فهو كتاب واحد ولكنه البحر إن تشعبت
روافده، فبلغت زهاء الألف، وقد امتاز باسلوبه ونهجه فكان الفريد في
بابه.
وعى ما زخرت به حافظة المؤلّف، فحوى منها كلّ
نفيس، فكان بين الكتب الّتي تشاركه موضوعاً أجمعها وأوعاها، وأحسنها
ترتيباً، وأجملها تبويباً، وأكثرها مادّة، وأجمعها لصنوف الأخبار
العددية.
ولم يكد الشيخ المؤلّف يحس بالفراغ الفني في
موضوعه الخاص حتّى طمحت نفسه المتوثبة، السباقة إلى كلّ فضيلة، إلى سدّ
ذلك بتأليف لم يسبق إلى مثله.
وكان ذلك الفراغ الّذي لم يسدّه عالم قبله، هو
تأليف (يشتمل على الأعداد والخصال المحمودة والمذمومة) وهذا نوع من
التأليف لم يكتب فيه مستقلا قبل الصدوق، كما أنّ ما كتب فيه ضمن بعض
التصانيف لم يرزق العناية التامة، فكانت تعوزه الإحاطة والشمول.
وسنبحث في هذا التقديم النظام العددي في
التأليف، والنهج الموضوعي والقيمة الفنية في الكتاب، وتحقيق اسم
الكتاب، وزمن تأليفه وبعد ذلك نعرض ترجمة الشيخ المؤلّف(رحمه الله)،
كما قدّمناها آخر مرّة في كتابه عيون أخبار الرضا(عليه السلام)مع إضافة
ما جدّ بعد ذلك.
نسأل المولى جلّ اسمه أن يوفّقنا، ويجعل ذلك
خالصاً لوجهه الكريم، إنّه ولي التوفيق.
النظام العددي
في التأليف:
ولم يكن بدعاً أن يستهوي النظام العددي طائفة من
العلماء فيلتزموا به في مؤلّفاتهم، بعد أن كان مصطلحه مألوفاً لديهم
منذ المراحل الابتدائية للتعليم، فكلّهم عرف الثلاثي والرباعي والخماسي
في أبنية الأسماء والأفعال، وأ نّها تشير في أسمائها إلى واقعها
الحروفي، فإنّما سميت الأبنية الثلاثية انتزاعاً من واقع الكلمة
الأصلية، وكذلك الرباعية والخماسية.
ومن الجائز كنتيجة لاستئناسهم بالعددية، أ نّهم
استوحوا من واقعهم العلمي أساليب تفنّنوا في اخضاعها لذلك النظام; لما
رأوا من ضبط وتسهيل واعانة للطالب على الحفظ والاستظهار.
ومهما يكن السبب فقد وجدنا بين المفسّرين
والفقهاء والمحدّثين واللغويين، بل حتّى الشعراء من التزم العددية في
نتاجه الفكري.
فهذا أبو عبدالله الحسين بن أحمد بن خالويه (ت
372 هـ) ألّف كتابه في اعراب ثلاثين سورة من القرآن، وله كتاب
(العشرات) ذكر فيه الكلمات الّتي لها عشر معان(1).
وهذا محمّد بن المستنير المعروف بقطرب (ت 206
هـ) ما نظم كتابه (المثلّث) إلاّ وهو يقصد جمع ما يصح قراءته بثلاثة
أوجه.
وكذلك من حذا حذوه ونسج على منواله كابن
البطليوسي، وابن مالك، وأبي حفص البلنسي (ت 507 هـ) الّذي زاد عليهم
جميعاً في مثلثاته، حتّى قيل عنها أ نّها عشرة أجزاء، كما قيل: إنّها
شرح لمثلّث قطرب.
ولابن فارس (ت 372 هـ) صاحب (معجم مقاييس اللغة)
كتاب الثلاثة في اللغة، وهو ما يصح تصريفه من الكلمات على ثلاثة أوجه.
ومن الفقهاء أصحاب الثلاثيات أو الاثنا عشريات
أو الألفيات، وقد تكفّلت معاجم الفهرسة بذكر كتبهم، أذكر منهم على سبيل
المثال الشيخ شمس الدين محمّد بن مكي ـ الشهيد الثاني المستشهد سنة
(786 هـ) ـ له الرسالة (الألفية) في الصلاة وهي مطبوعة.
ومن المحدّثين وهم الغالب عليهم الإلتزام في
تآليفهم بالنظام العددي:
فمنهم أصحاب الثلاثيات والرباعيات والخماسيات،
وهكذا إلى العشريات، ويقصدون بذلك الأحاديث الّتي اتصل إسنادها
بالنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بثلاثة وسائط أو بأربعة أو بخمسة
وهكذا، وكان هذا اللون من التأليف لا يحصل إلاّ في أحاديث أصحاب
الأسانيد العوالي ـ قرب الاسناد ـ الّذين كانت تشد إليهم الرحال
للتحمّل عنهم لعلوّ إسنادهم، وقلّة وسائطه، كما كان علوّ الاسناد مدعاة
للفخر والإعتزاز.
ومن الخير التنبيه على أنّ البخاري صاحب الصحيح
(ت 256 هـ) والّذي بلغت أحاديث صحيحه (7397) حديثاً لم يكن فيه سوى
(22) حديثاً من الثلاثيات.
والدارمي (ت 255 هـ) لم يكن في مسنده بسنده من
الثلاثيات إلاّ خمسة عشر حديثاً.
ولعبد بن حميد (ت 249 هـ) وأحمد بن حنبل (ت 241
هـ) ثلاثيات أيضاً.
وكذلك الرباعيات للبخاري، ومسلم، والترمذي على
هذا القياس، ونحوها رباعيات التابعين لابن صصرى(2).
وهكذا في بقيّة الآحاد حتّى العشريات، فقد
ألّفوا فيها.
قال السيوطي: وممّن خرّجها قبل الثمانمائة الزين
العراقي، وبعده جماعة منهم ابن حجر، فكان أكثر ما يقع لي عالياً أحد
عشر لكون زماني بعيداً، وقد فحصت فوقع لي أحاديث يسيرة عشارية(3) .
وثمة من جمع بين عددين من الآحاد في تأليفه كأبي
العبّاس عبيدالله بن أحمد بن نهيك، وحميد بن زياد النينوائي (ت 310 هـ)
وعليّ بن أبي صالح محمّد الملقب ببزرك، فإنّهم ألّفوا كتباً باسم
الثلاث والأربع(4).
وجمهرة التأليف المراعى فيه النظام العددي كانت
على توالي الآحاد، ودون ذلك ما جاوز مرحلة الآحاد إلى العشرات إذا
استثنينا الأربعينات منها.
فطائفة معدودة في الإثنا عشر، والأربعة عشر،
والثلاثين، أمّا التأليف في الأربعين فهو كثير جدّاً، حتّى تفنّن بعض
العلماء في ذلك، فكتب الأربعين عن الأربعين، وزاد بعضهم فكتب الأربعين
من الأربعين عن الأربعين(5).
وأمّا من تجاوز هذا العدد فربّما كانوا قلّة
بالنسبة إلى من ألّف في الأعداد السابقة، وليس ثمة ما يستحق الاهتمام
بذكره إلاّ الكتب (الألفية)، فإنّها على اختلاف موضوعاتها كثيرة جدّاً.
ولم نقرأ من تجاوز الألف إلاّ عن بعض الكتب
الأدبية الّتي تجاوزت الألف بواحد كألف ليلة وليلة، وألف نهار ونهار،
وألف جارية وجارية ونحوها.
أمّا من وقف على عتبة الألفين في تأليفه، فلم
نقرأ ذلك إلاّ عن الشيخ أبي عليّ محمّد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي
(ت381 هـ) فإنّ له كتاب ألفي مسألة (ذكره النجاشي).
والإمام جمال الدين ابن المطهر الّذي سمتت به
همته لتأليف كتاب (الألفين)(6).
وقد لا أكون مجحفاً إذا ما قلت إنّ اخضاع
المؤلّفات الحديثية أو الفقهية، بل وحتّى التفسير واللغة لقانون النظام
العددي ليس فيه كبير عناء إذا ما كانت وحدة الموضوع محفوظة، وهي الّتي
تجمع بين آحاد العدد.
كما لا أكون مغالياً إذا ما قلت أنّ فضيلة
المؤلّف وقدرته، تظهران عندما يلتزم تأليف كتاب خاص في فن من الفنون،
ثمّ يحشد فيه جمهرة كبيرة من الأشتات العددية بقدر ما يحتاج إليه في
كتابه وهو ينظّمها تنظيماً دقيقاً مبتدءاً من الآحاد إلى العشرات إلى
المئين والآلاف، مستوحياً من مادّة الآثار عناوين تلتقي عند موضوعه
العام، كما نرى ذلك في كتابنا (الخصال) الّذي امتاز من بين التآليف
العددية بنهجه الموضوعي وقيمته الفنية.
النهج الموضوعي
والقيمة الفنية في الكتاب:
لقد أفصح المؤلّف في خطبة كتابه عن نهجه في
تأليفه، كما أبان عن السبب الداعي إلى ذلك فقال:
(أمّا بعد فإنّي وجدت مشايخي وأسلافي رحمة الله
عليهم، قد صنّفوا في فنون العلم كتباً، وغفلوا عن تصنيف كتاب يشتمل على
الأعداد والخصال المحمودة والمذمومة، ووجدت في تصنيفه نفعاً كثيراً
لطالب العلم والراغب في الخير، فتقرّبت إلى الله جلّ اسمه بتصنيف هذا
الكتاب طالباً لثوابه، وراغباً في الفوز برحمته، وأرجو أن لا يخيبني
فيما أمّلته ورجوته منه بتطوّله ومنّه، إنّه على كلّ شيء قدير).
وفي هذه السطور أخبرنا عن شعوره بالحاجة لسدّ
الفراغ الفني في التأليف من ناحية النظام العددي، كما كشف عن اعتقاده
بأنّ في سدّ ذلك الفراغ كثير نفع لطالب العلم والراغب في الخير.
وهذان العاملان هما المحفز الأوّل والأخير في
بعث قلمه على تأليف كتاب (الخصال) وفي استجابته لنداء المسؤولية الّتي
يشعر بها، وكانت غايته المثلى من سدّ ذلك الفراغ، واسداء النفع العام
هو التقرّب إلى الله جلّ اسمه طلباً لثوابه ورغبة في الفوز برحمته، وهي
غاية شريفة نبيلة تنبىء عن نفس خيّرة وضمير طاهر تحب الخير وتعمل من
أجله، وتدعو الناس إلى فعله، شأن أصحاب الرسالات المصلحين، وأتباعهم
الصادقين المؤمنين.
وإذا رجعنا إلى الكتاب نفسه نستجوبه عن قيمته
الفنية، فنجده مجموعة أحاديث وآثار اشتملت على الأعداد، اختارها
المؤلّف فأحسن الاختيار، وبوّبها فأجمل في التبويب، فجمع أشتاتها،
ونسّق مجموعها في سلك عناوين عددية في أبواب متسلسلة، تحت كلّ عنوان
موضوع يناسبه، وفيه حديث أو أكثر تتخلّل ذلك آيات شريفة، وحكم بالغة،
ومواعظ نافعة، وأحكام دينية، ومسائل علمية، ونكات مستطرفة، وأبيات
مستجادة.
فكان الكتاب بمجموعه بمثابة موسوعة ضمّت ما
تشتهيه النفوس الخيّرة الصالحة وغيرها، إذ يستهوي الّتي ران على قلوبها
فأخطأت الطريق.
ولكن ليس هذا كلّ شيء في قيمته الفنّية، بل هناك
مميزات اُخرى كتعقيباته على بعض الأحاديث إمّا لحل مشكل، أو تفسير
غريب، أو زيادة ايضاح.
وقد أحصيت ـ عاجلا ـ من التحقيقات العلمية في
هذا الكتاب، فكانت تناهز الستّين سوى غيرها من سائر الايضاحات الّتي
عقّب بها المؤلّف بعض أحاديث كتابه.
وهذا أيضاً ليس هو كلّ شيء في تمييز كتابنا على
أمثاله من المؤلّفات العددية في الأخلاق، بل الّذي أراه ـ وقد لا أكون
مغالياً ـ هو انفراده بالاسلوب والمنهج على طول الخطّ ـ إن صح التعبير
ـ من بدئه إلى ختامه على كثرة أبوابه وعناوينه.
وقد يدهش القارئ إذا ما أخبرته أنّ العناوين
الّتي سلكها المؤلّف في نظام العدد ناهزت الألف، فقد أحصيت له (970)
عنواناً ـ وربّما زاغ عن بصري بعضها ـ فوزّعها بين 24 باباً، كان نصيب
الأبواب الخمسة الاُولى هو النصيب الأوفر من تلك العناوين، وحصة تلك
الأبواب الخمسة هي كما يلي مرتبة على نسبة ارتفاع النصيب:
الباب الثالث: وهو أكثر الأبواب نصيباً لكثرة
الثلاثيات العددية الّتي وصلت إلى المؤلّف، فبلغ مجموع عناوينه حسب
موضوعاته (233) موضوعاً.
الباب الرابع: فقد ضم (131) موضوعاً.
الباب الثاني: وفيه (110) مواضيع.
الباب الأوّل: وفيه (107) مواضيع.
والباب الخامس: وفيه (94) موضوعاً.
وهكذا تنخفض النسبة، وتتضاءل الأرقام في نسبة
العناوين في سائر الأبواب الاُخرى، فنجد أعلاها الباب السابع وفيه (66)
موضوعاً، وأدناها الباب السابع عشر إذ ليس فيه إلاّ موضوع واحد.
وهذا العدد الكبير من العناوين ليس بمقدور كلّ
مؤلّف أن يستوفيه برصف أحاديث عددية تتناسب ومكانها العددي، وهي مع ذلك
لا تخرج عن موضوع الكتاب العام.
وقد قرأنا لمؤلّفين سابقين على الصدوق ومتأخّرين
عنه، طرقوا أبواب النظام العددي في موضوع الخصال المحمودة والمذمومة،
لكنّهم لم يقطعوا الشوط الّذي قطعه الصدوق(رحمه الله).
وأذكر على سبيل المثال من المتقدّمين الشيخ أبا
جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي المتوفى سنة (274 هـ)، أو سنة (280
هـ) ـ صاحب كتب (المحاسن) ـ فإنّه سلك الطريقة العددية في كتابه
(الأشكال والقرائن) وهو أحد كتب المحاسن، فذكر في الأبواب الثمانية
الاُولى من ذلك الكتاب أحاديث مرتبة على توالي الآحاد، مبتدءاً من باب
الثلاثة ومنتهياً بباب العشرة.
ومن المتأخّرين الشيخ أبا الفتح محمّد بن عليّ
الكراجكي (ت 449 هـ) ـ صاحب كتاب (كنز الفوائد)، وغيره ـ فإنّه جارى
الصدوق في مضمار الخصال العددية، فألّف كتابه (معدن الجواهر ورياضة
الخواطر)، ولكنّه لم يتجاوز فيه باب ما جاء في عشرة.
فهذه الإستدامة في التسلسل العددي، والإستمرارية
في النظام، والكثرة في العدد، والوفرة في الحشد، رفعت كتاب الخصال إلى
قمة الكتب العددية في الأخلاق، فكتب له التوفيق والخلود منذ أكثر من
ألف سنة وحتّى يومنا الحاضر، وسيبقى خالداً حياً ما دام طالب علم وراغب
في الخير.
ماهو اسم
الكتاب:
لم يصرّح المؤلّف في مقدّمة كتابه ـ وقد مرّت ـ
أ نّه سمّاه (الخصال)، وإنّما ورد في المقدّمة في عرض نهجه انّه لم يجد
في تصانيف مشايخه وأسلافه رحمهم الله تصنيفاً (يشتمل على الأعداد
والخصال المحمودة والمذمومة).
ولكنّه(رحمه الله) في إحالته في كتبه الاُخرى
على هذا الكتاب سمّاه بالخصال، وكأ نّه انتزعه من واقع الكتاب وصلب
موضوعه فاشتهر بذلك.
ولم يكن اسم (الخصال) من مستحدثات الشيخ
الصدوق(رحمه الله)، كما كان نفس الكتاب بمنهجه الخاص من مبتكراته، بل
كانت التسمية به سبقت عهد الصدوق، فهذا أبو الحسن ابن شاذان ـ الراوي
عن الإمام الجواد(عليه السلام) ـ له كتاب في الإمامة سمّاه (الخصال)،
وابن سريج الشافعي (ت 306 هـ) سمّى كتابه في فروع الفقه الشافعي
(الخصال)، وأبو الحسن عليّ بن مهدي الأصبهاني (ت 330 هـ) ـ كما في
الإيضاح ـ سمّى كتابه الّذي جمع فيه الأشعار والحكم والأمثال (الخصال)
وذكره ياقوت في معجمه، وذكر أنّ وفاته كانت قبل الثلاثمائة(7)، وأبو
بكر محمّد المالكي القرطبي (ت 381 هـ) ـ وهي سنة وفاة الصدوق ـ سمّى
كتابه في فروع المالكية (الخصال).
ولو افترضنا أنّ الشيخ الصدوق(رحمه الله) رأى
بعض تلك الكتب أو سمع بها، أو تلقّى عن مؤلّفيها، فانّ ذلك لا يعني
أ نّه وضع كتابه (الخصال) مقتبساً منهم لتفاوت الموضوع، واختلاف
المنهجية والأسلوب.
ولم نر ـ فيما بحثنا ـ عن المؤلّفين المتأخّرين
الّذين سمّوا كتبهم باسم (الخصال) من جارى الشيخ الصدوق في خصاله، أو
شاركه في نهج كتابه.
فانّ لأبي ذرّ الهروي (ت 434 هـ) كتاب (الخصال)
في فروع الفقه الحنفي، وللطرسوسي (ت 746 هـ) أيضاً كتاب (الخصال) في
نفس الموضوع، ولابن كاس الحنفي (الخصال الكبيرة).
وللحسن بن الحسين التالشي (خصال السلف في آداب
السلف والحلف)، وللسخاوي (الخصال الموجبة للضلال).
ولابن حجر (الخصال المكفّرة للذنوب المقدّمة
والمؤخّرة).
ولمحمّد بن يبقى (الخصال) في الفقه.
ولابن الدجاج الخولاني (ت 430 هـ) (الخصال).
ولابن رويدة الأهوازي الحداد (الخصال) في
الإمامة(8).
والظاهر من عناوين كتبهم أ نّها لا تلتقي وكتاب
(الخصال) للصدوق في النهج الّذي انفرد به، فهي تختلف عنه موضوعاً
وأسلوباً وإن شاركته في الاسم.
زمن تأليف
الخصال:
من الواضح أنّ كتاب (الخصال) لم يكن من أوائل
تآليف الشيخ الصدوق(رحمه الله)، إذ أنّ موضوعه يقضي أن يكون نتيجة
اطلاع واسع وخبرة تامة بالأحاديث، وممارسة للتأليف والتصنيف في فنون من
العلم وأبوابه، ويمكننا تأييد ذلك باستقراء كتبه الّتي أحال عليها في
كتاب الخصال لمعرفة سبقها الزمني ـ عادة ـ عليه، وقد فحصت كتابنا فوجدت
فيه أسماء اثني عشر كتاباً أحال عليها المؤلّف، من الخير أن نعرض
فهرستها أمام القارئ:
ففي باب الاثنين أحال على كتابه (النبوة) وهو
كتاب في تسعة أجزاء، أحال على الجزء الرابع منه في باب الخمسة، وأحال
عليه دون تعيين الجزء في باب الإثنى عشر.
وفي باب الاثنين أيضاً أحال على كتابه (المعرفة
في الفضائل)، وفي الباب نفسه أيضاً أحال على كتابه (مقتل الحسين(عليه
السلام)).
وكذلك فيه أيضاً أحال على كتابه (فضائل جعفر بن
أبي طالب).
وفي باب الثلاثة أحال على كتابه (معاني الأخبار)
وكذا في باب الستّة.
وإنّ في هذا الكتاب حوالات على كتابيه (علل
الشرايع) و (التوحيد) وفيهما ذكر عدة من الكتب لجميعها السبق الزمني
عادة.
وفي باب الثلاثة أيضاً أحال على كتابه (إثبات
المعراج).
وفي الباب نفسه أحال على كتابه (وصف قتال الشراة
المارقين)، وهذا الكتاب لم يذكر في فهارس مصنّفاته، ولولا ذكر المؤلّف
له لذهب كأمثاله ممّا لم نعلم عنه شيئاً.
وفي باب الخمسة أحال على كتابه (تفسير القرآن).
وفي الباب نفسه أيضاً أحال على كتابه (صفات
الشيعة) وكذا في باب السبعة.
وفي أبواب الإثنى عشر أحال على كتابه (إكمال
الدين وإتمام النعمة) وإذا رجعنا إلى كتابه (الإكمال) نجد فيه الحوالة
على عدة من كتبه منها الحوالة على: كتاب الغيبة، وكتاب السر المكتوم
إلى الوقت المعلوم، وكتاب عقاب الأعمال، وكتاب عيون أخبار الرضا(عليه
السلام)، وكتاب النص على الأئمة الإثنى عشر بالإمامة، وكتاب إبطال
الغلو والتفويض، وكتاب مولد فاطمة(عليها السلام)، وكتاب مدينة العلم،
وهذا وحده في عشرة أجزاء أكبر من كتابه من لا يحضره الفقيه، سوى ما
اشترك في الإحالة عليه مع كتابنا هذا ككتاب النبوة، والمعرفة.
وفي أبواب الخمسة عشر أحال على كتابه (فضائل
رجب).
وفي أبواب الأربعين وما فوقها أحال على كتابه
(التوحيد)، وفيه أيضاً إحالات على كتب اُخرى تقدم اسم بعضها، ومما لم
يسبق ذكره كتاب الدلائل والمعجزات، وكتاب العظمة.
والّذي يلفت النظر في إحالات كتاب (التوحيد) أنّ
منها الإحالة على كتابنا هذا (الخصال) كما في ص 333، وهو من الدور
الظاهر في الحوالة، وستأتي الإشارة إلى وجه ذلك.
ولم يكن كتاب (التوحيد) هو الوحيد الّذي أحال
فيه المؤلّف على كتابه الخصال، بل أحال عليه أيضاً في كتابه (عيون
أخبار الرضا(عليه السلام))(9) وكذلك في كتابه (من لا يحضره
الفقيه)(10).
وعلى ضوء هذه الحوالات يمكننا تحديد زمن تأليف
(الخصال)، وأنّه كان قبل السبعينات، إذ أ نّه دخل إيلاق في سنة (368
هـ) وهناك اجتمع مع الشريف أبي عبدالله الملقّب (بنعمة) وكان معه من
مصنّفاته مائتي كتاب وخمسة وأربعين كتاباً وقف عليها الشريف المذكور،
وهو الّذي اقترح عليه تصنيف كتابه (من لا يحضره الفقيه) فكتبه له.
ولمّا أحال في كتابه (من لا يحضره الفقيه) على
كتاب (الخصال)، ظهر أ نّه كتبه قبله، وإذا رجعنا إلى كتابه (إكمال
الدين) الّذي أحال عليه في كتابنا هذا في (أبواب الإثني عشر) نجد أنّ
زمن تأليفه كان في سنة (354 هـ) إذ ابتدأ فيه عند البيت الحرام في سنة
حجّه وهي سنة (354 هـ) فيكون زمن تأليف (الخصال) بقانون الحوالة قبل
سنة (368 هـ) وهي سنة تأليف (من لا يحضره الفقيه) وبعد سنة (354 هـ)
وهي سنة تأليف (إكمال الدين).
ولكن يبدو لي بعد استقراء إحالات المؤلّف في
كتبه الّتي عندي عدم اطراد قانون الحوالة ـ وهو تأخر المحوّل فيه عن
المحوّل عليه زمناً ـ في جميع ما أحال فيه وعليه، لأ نّا وجدنا الحوالة
الدورية في عدة من كتبه.
ولنلاحظ فيما يتعلّق بكتابنا وكتاب التوحيد، حيث
لا يمكن معرفة السبق الزمني في التأليف، إذ أحال المؤلّف في كلّ منهما
على الآخر.
كما لا يمكن معرفة ذلك أيضاً بالنسبة إلى كتابنا
هذا وكتاب معاني الأخبار، إذ أحال في الخصال على كتاب المعاني، وأحال
في المعاني(11) على كتابه علل الشرائع، وأحال في علل الشرائع(12) على
كتاب عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، وأحال في العيون(13) على كتابه
هذا (الخصال).
وهناك شواهد اُخرى للدور الظاهر في الحوالة بين
كتابي علل الشرائع وإكمال الدين، إذ نجد في كلّ منهما الإحالة على
الآخر.
فبماذا نفسّر هذا الدور في الحوالة؟
ولعلّ القول بالاشتراك الزمني عند التأليف، أو
الإلحاق بالسابق عند تأليف اللاحق خصوصاً في الدور المضمر كما يقول
المنطقيون، ما يدفع الإشكال ويرفع الإيهام.
وحيث انتهينا من عرض النظام العددي في التأليف،
وبيان النهج الموضوعي والقيمة الفنية في الكتاب، وتحقيق اسم الكتاب،
ومعرفة زمان تأليفه، تبيّن لنا انّ الكتاب بمجموعه يدلّ على طول باع
المؤلّف وسعة اطلاعه، يزخر بما فيه من آراء ناضجة، ونظرات صائبة،
وانتقاء صحيح، واحاطة وشمول، فكان نتيجة لذلك سجلا حافلا يضمّ معلومات
قيّمة لها أعظم الأثر في المجال التهذيبي، ينتفع بها طالب العلم
والراغب في الخير، وتكفل تعاليمها تهذيب النفس من أدران الشوائب،
وتخليصها من كلّ ما يحيق بها من شبه وشكوك، وما يدنسها من رين المادّة.
وكما فيها الترغيب لسبل الخير، كذلك فيها
التحذير من صفات ذميمة، وعوارض سيّئة تكاد أن تنحط بالإنسانية عن
مستواها الرفيع إلى صف البهيمية العجماء.
هذا آخر ما تيسّر لنا من التعريف بكتاب الخصال،
ولنعرض ترجمة مؤلّفه الّذي كان عملاقاً بين مؤلّفي عصره في جودة
الانتاج مع وفرة العدد، حتّى كأ نّه وقد بارك الله له في عمره، فعاش
سبعة عقود ونصف، كذلك بارك الله له في تصانيفه وكتبه حتّى ألّف نحواً
من ثلاثمائة مصنّف.
الشيخ الصدوق
مؤلّف الكتاب:
هو أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن
بابويه القمي.
ولم ترفع كتب التراجم نسبه إلى ما فوق (بابويه)
الأمر الّذي يدلّنا على أ نّه الشخصية الاُولى من آبائه الّذي تمتع
بشهرة حتّى صارت النسبة إليه، كما يترك المجال مفتوحاً لاحتمال نسبة
عدة من المحدّثين والعلماء المشهورين ينسبون إلى مثل هذا الاسم
(بابويه)، أ نّهم من لحمة الشيخ الصدوق وأبناء عمومته، فإنّهم أيضاً لم
ترفع أنسابهم أيضاً إلى ما فوق بابويه إلاّ في واحد كما سيأتي.
ونظراً لتقارب عصورهم مع عصر الصدوق، فيبدو
احتمال أ نّهم جميعاً من اُسرة واحدة، ويرجعون إلى جد واحد وهو بابويه،
وقد ذكرت ذلك في رسالتي (التنويه بأسماء المختومين بويه) عند ذكر أسماء
الأعلام من المحدّثين المنسوبين إلى بابويه، وإن لم أجزم به.
أمّا الأشخاص المشار إليهم آنفاً ممّن نسب إلى
بابويه، ولم يرفع نسبه إلى من فوقه إلاّ في واحد وهو:
1 ـ محمّد بن سليمان بن بابويه بن مهرويه
المخرمي ـ كما في الإكمال ـ ، وفي رواية الخطيب أ نّه بابويه بن فهرويه
بن عبدالله، سمع عثمان بن عبدالله بن عمرو ابن عثمان العثماني وغيره،
حدّث عن ابنه عبيدالله ـ الآتي ذكره ـ وغيره، توفي سنة (307 هـ).
2 ـ عبيدالله بن محمّد بن سليمان ـ الآنف الذكر
ـ أبو محمّد الدقاق، حدّث عن أبيه، وجعفر الفريابي، وإبراهيم بن
عبدالله بن أيوب المخرمي وغيرهم.
3 ـ أبو القاسم محمّد بن عبيدالله بن بابويه ـ
الرجل الصالح ـ وهو ممّن يروي عنه أبو نصر أحمد بن الحسين بن أحمد بن
عبيدالله الضبي، وهذا من مشايخ المؤلّف شيخنا الصدوق، روى عنه كما في
أسانيد كتبه.
4 ـ الحسين بن إبراهيم بن بابويه، عدّه سماحة
السيّد الوالد دام ظلّه من جملة مشايخ الصدوق في مقدّمة الفقيه(14)
استناداً إلى ما ذكره المحدّث النوري في خاتمة المستدرك، ولم نجد ذكره
في أسانيد الصدوق في كتبه، نعم وردت رواية الصدوق عنه بواسطة في إسناد
حديث في بشارة المصطفى(15) حيث ذكر أنّ الصدوق يروي عن الحسين بن موسى
عن الحسين بن إبراهيم بن بابويه، عن عليّ ابن إبراهيم بن هاشم القمي.
5 ـ أبو الحسن عليّ بن عبدالله بن أحمد بن
بابويه المذكر، وهو من شيوخ الصدوق، روى عنه في معاني الأخبار(16).
6 ـ أبو الحسن عليّ بن محمّد بن بابويه الأسواري
الأصبهاني، قال ابن مندة: هو آخر الأغنياء الأتقياء، ورع ديّن، دخل
شيراز وسمع من جماعة، وكتب، مات سنة (358 هـ).
7 ـ أحمد بن الحسن بن عليّ(17) بن بابويه
الحنائي، حدّث عن يوسف بن موسى القطان، وحدّث عنه عمر بن أحمد بن شاهين
في معجم شيوخه، وابن شاهين هذا ولد سنة (297 هـ) وأوّل ما سمع الحديث
منه (305 هـ) وله إحدى عشرة سنة(18)، وتوفي سنة (385 هـ) .
8 ـ أبو الحسن عليّ بن بابويه قتيل القرامطة في
الطواف بالمسجد الحرام، ذكره القطبي في كتابه الإعلام بأعلام بيت الله
الحرام(19): أنّ القرامطة لمّا أغاروا على الحجاج في سنة (317 هـ)
ودخلوا المسجد الحرام أيّام الموسم، وراثت خيولهم في المسجد، وقتلوا
خلقاً كثيراً في المطاف قدرهم بألف وسبعمائة طائف محرم، وكان عليّ بن
بابويه ممّن يطوف فلم يقطع طوافه، وجعل يقول:
ترى المحبين صرعى في ديارهم *** كفتية الكهف لا
يدرون كم لبثوا
والسيوف تقفوه إلى أن سقط ميتاً، رحمه الله
تعالى(20).
9 ـ أبو الحسن عليّ بن الحسين بن بابويه الرازي،
خرج لنفسه أربعين حديثاً رواها عنه أبو المجد محمّد بن الحسين بن أحمد
القزويني (ت 622 هـ) بسماعه منه(21).
ومن الواضح أنّ هؤلاء كلّهم إلاّ الأخير منهم
ممّن يقارب عصرهم عصر الصدوق أو عصر والده كتقارب بلدانهم، فيا هل ترى
وجاهة احتمال أ نّهم من ذرية بابويه جد المؤلّف، أو أ نّهم من بابويه
آخر أو آخرين.
ومهما يكن الواقع فانّ بني بابويه ـ اُسرة
المؤلّف ـ من بيوتات القميين المشتهرة بالعلم والفضيلة، وقد تبوأ رجال
منهم مكان الصدارة والمرجعية، كما كان بيتهم حتّى القرن السادس بيت علم
وحديث، ذكرت المعاجم الرجالية منهم عدة علماء ومحدّثين، أحصينا منهم ما
يقرب من عشرين عالماً من بينهم شيخ الإسلام وثقة الدين، كما فيهم من
تسمى باسم جدهم الأعلى (بابويه) إحياءً لذكره.
وبالرغم من كثرة البحث في تاريخ هذه الاُسرة
الكريمة الباسقة أفنانها والناضجة ثمارها، لم نقف على مبدء سكناهم في
قم الحاضرة الإسلامية ومهد العلم في ذلك العصر، لكن الّذي لا نشك فيه
أنّ والد المؤلّف ـ وهو الشيخ أبو الحسن عليّ بن الحسين ـ كان في قم،
ومن أبرز أصحاب الشيوخ الأجلّة سعد بن عبدالله بن أبي خلف الأشعري،
وأبي العباس عبدالله بن جعفر الحميري صاحب قرب الاسناد، وأبي الحسن
عليّ بن إبراهيم بن هاشم القمي المفسّر وطبقتهم.
كما كانت له مكانة مرموقة في وسطه، بل يعد من
علية رجالات بلده، وفي الطليعة بين أعلامهم الطائري الصيت إن لم يكن هو
الأوّل المشار إليه من بينهم، وقد أثنى عليه علماء الرجال ووصفوه بكل
جميل، ممّا يكشف عن عظيم قدره، وعلو كعبه.
كما ذكروا أنّ الإمام الحسن العسكري(عليه
السلام) (ت 260 هـ) كتب إليه كتاباً فيه ما يغني عن سرد جمل الثناء
العاطر، وآيات التعظيم، جاء فيه:
(اعتصمت بحبل الله، بسم الله الرحمن الرحيم،
والحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، والجنة للموحّدين، والنار
للملحدين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، ولا إله إلاّ الله أحسن
الخالقين، والصلاة على خير خلقه محمّد وعترته الطاهرين).
وفيه: (أمّا بعد، اُوصيك يا شيخي ومعتمدي وفقيهي
أبا الحسن عليّ بن الحسين القمي، وفّقك الله لمرضاته، وجعل من صلبك
أولاداً صالحين برحمته).
وفيه: (فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن عليّ، وأمر
جميع شيعتي بالصبر، فانّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة
للمتقين، والسلام عليك وعلى جميع شيعتنا ورحمة الله وبركاته).
والّذي يلفت النظر في فقرات هذا الكتاب خطاب
الإمام(عليه السلام) لأبي الحسن بن بابويه بالشيخ، ولابدّ أن يكون من
باب شيّخه تشييخاً دعاه شيخاً تبجيلا وتعظيماً(22)، وإلاّ فلا مجال
للقول بأنّ ابن بابويه كان حين صدور الكتاب شيخاً في السن، أي من
الخمسين إلى الثمانين، كما هو معنى الشيخ على ما حكاه ابن سيّده في
المخصص وغيره.
ولو كان شيخاً لعدّ من المعمّرين، إذ أنّ وفاة
الإمام العسكري(عليه السلام) كانت سنة (260 هـ)، وعاش أبو الحسن ابن
بابويه بعد الإمام(عليه السلام) ما يقرب من سبعين عاماً حيث كانت وفاته
سنة (328 هـ)، ولم يذكر أ نّه كان من المعمّرين الّذين تجاوزوا المائة
وناهزوا المائة وخمسين مثلا، ولم يذكر في ترجمته ما يشير إلى ذلك ولو
من بعيد.
على أ نّه لو كان من المعمّرين الّذين تجاوزوا
المائة وناهزوا المائة وخمسين مثلا لأشار ولده الشيخ الصدوق إلى ذلك في
كتابه إكمال الدين في باب التعمير والمعمّرين، وما يناسب ذلك من أبواب
الكتاب، فلابدّ إذن من أن يكون المعني بالشيخ هو التبجيل والتعظيم،
ولعلّ في مخاطبته بالكنية ما يشعر بذلك مضافاً إلى وصفه بالمعتمد
والفقيه، فهو من الشيوخ شأناً، وإن لم يكن منهم سناً.
وممّا يسترعي الانتباه أنّ هذا الكتاب لم يروه
ولده الصدوق في تضاعيف كتبه الّتي وصلت إلينا على كثرة الأبواب
المناسبة لذكره، كما لم يذكره القدماء من أصحابنا.
وأقدم مصدر حكى عنه ـ فيما أعلم ـ هو كتاب
الاحتجاج لأبي منصور أحمد ابن عليّ الطبرسي، اُستاذ الحافظ ابن شهرآشوب
السروي (ت 588 هـ)، حكاه عنه البحراني في لؤلؤة البحرين(23)، ولم أجده
في مطبوع الاحتجاج.
ورواه بصورة مختصرة الحافظ ابن شهرآشوب في
المناقب(24)، وذكره مفصّلا القاضي المرعشي في مجالس المؤمنين(25)،
والخوانساري في الروضات(26)، والنوري في خاتمة المستدرك(27) وغيرهم من
المتأخّرين.
ذكر الشيخ النجاشي في رجاله(28) أبا الحسن ـ
والد المؤلّف ـ ووصفه بقوله:
شيخ القميين في عصره، ومتقدّمهم وفقيههم وثقتهم،
كان قدم العراق واجتمع مع أبي القاسم بن روح(رحمه الله)، وسأله مسائل
ثمّ كاتبه بعد ذلك على يد عليّ بن جعفر الأسود(29) يسأله أن يوصل رقعة
إلى الصاحب(عليه السلام) ويسأله فيها الولد، فكتب إليه: قد دعونا لك
بذلك، وسترزق ولدين ذكرين خيّرين.
وذكر الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة(30) أنّ عليّ
بن الحسين بن موسى بن بابويه كانت تحته بنت عمّه محمّد بن موسى بن
بابويه، فلم يرزق منها ولداً، فكتب إلى الشيخ أبي القاسم بن روح(رضي
الله عنه) أن يسأل الحضرة أن يدعو الله أن يرزقه أولاداً فقهاء، فجاء
الجواب: إ نّك لا ترزق من هذه، وستملك جارية ديلمية، وترزق منها ولدين
فقيهين.
وفي لفظ الصدوق ـ مؤلّف الكتاب ـ قال: حدّثنا
أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الأسود، قال: سألني عليّ بن الحسين بن موسى
بن بابويه(رحمه الله) بعد موت محمّد بن عثمان العمري(رضي الله عنه)
(وكانت وفاته سنة 305 هـ) أن أسأل أبا القاسم الروحي أن يسأل مولانا
صاحب الزمان(عليه السلام) أن يدعو الله عز وجل أن يرزقه ولداً ذكراً،
قال: فسألته فأنهى ذلك، فأخبرني بعد ذلك بثلاثة أيّام انّه قد دعا
لعليّ بن الحسين، وأ نّه سيولد له ولد مبارك ـ كذا ـ ينفعه الله عز وجل
به وبعده أولاده.
قال أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الأسود(رضي الله
عنه):وسألته في أمر نفسي أن يدعو الله لي أن يرزقني ولداً ذكراً، فلم
يجبني إليه وقال: ليس إلى هذا سبيل، قال: فولد لعليّ ابن الحسين(رضي
الله عنه) محمّد بن عليّ ـ مؤلّف الكتاب ـ وبعده أولاد، ولم يلد لي
شيء.
وهكذا تم للشيخ ـ والد المترجم له ـ ما كان يصبو
إليه من الدعاء بالولد الصالح، كما تم له بعد ذلك حصول الأثر، فملك
الجارية ورزق منها أوّل مولود ذكر، كان هو شيخنا ـ المترجم له ـ أبا
جعفر محمّد بن عليّ الصدوق، ولعلّ في اختيار والده لاسمه ما يشعر
بأ نّه من بركات دعاء صاحب هذا الاسم وهو صاحب الأمر (عجل الله فرجه
الشريف)، وكانت ولادته بعد سنة (305 هـ) الّتي هي سنة وفاة العمري
وأولى سني سفارة الروحي، ولعلّها كانت سنة (306) كما استقر بها السيّد
الوالد دام ظلّه واستدلّ عليها، وأياً ما كان فقد ولد شيخنا الصدوق
ببركة دعوة الناحية المقدّسة.
ومن الطبيعي أن يكون لتلك الدعوة أثرها في تقويم
شخصيته، وتكوين مؤهلاته العلمية، حتّى توقّع الناس ظهور أثرها بيناً في
تاريخه، فكان الأمر كما أملوا، وكانوا بعد ولادته ونشأته يرجعون جلّ
تلك الظواهر من مميزاته إلى أثر تلك الدعوة الصالحة الّتي بارك بها
الإمام(عليه السلام) وليد أبي الحسن عليّ بن موسى بن بابويه، كما كان
المؤلّف نفسه يفتخر بذلك ويقول: أنا ولدت بدعوة صاحب الأمر (عجل الله
فرجه الشريف)(31).
وقال في ذيل حديثه الآنف عن ابن الأسود: وكان
أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الأسود(رحمه الله) كثيراً ما يقول إذا رآني
أختلف إلى مجلس شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد(رضي الله عنه)،
وأرغب في كتب العلم وحفظه: ليس بعجب أن تكون لك هذه الرغبة في العلم،
وأنت ولدت بدعاء الإمام(عليه السلام)(32).
قال أبو عبدالله بن سورة(رحمه الله): كلّما روى
أبو جعفر ـ مؤلّف الكتاب ـ وأبو عبدالله الحسين ابني عليّ بن الحسين
شيئاً، يتعجب الناس من حفظهما، ويقولون لهما: هذا الشأن خصوصية لكما
بدعوة الإمام لكما، وهذا أمر مستفيض في أهل قم(33).
ومن الغريب ما ذكره دوايت م دونلدسن في كتابه
عقيدة الشيعة(34) أنّ المؤلّف ولد بخراسان أثناء زيارة والده لمشهد
الرضا، ولم نقف على مستند يثبته، وقد تابعه على ذلك صاحب المنجد في
الأدب والعلوم(35).
وأغرب من ذلك ما ذكره الدكتور محمّد مصطفى حلمي
ـ اُستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف بكلية الآداب بجامعة القاهرة ـ في
تعليقه على كتاب توفيق التطبيق حيث قال: وقد ترك في صباه خراسان عام
سنة (355 هـ ـ 966 م) إلى بغداد ... الخ(36).
فمع الاغماض عمّا ذكر من كونه بخراسان، إلاّ أنّ
الدكتور زعم أ نّه ترك خراسان في صباه سنة (355 هـ) إلى بغداد، ولو بحث
قليلا عن ولادته لعلم أ نّه حين ورد بغداد سنة (355 هـ) كان قد ناهز
الخمسين من عمره، فكيف يصح قوله في صباه؟!
نشأ المترجم له تحت رعاية أبيه الّذي سبق أن
وقفنا على شيء من مكانته، والّذي اشتهر بعلمه وتمسكه بدينه، وعرف بورعه
وتقواه، ورجعت إليه الشيعة في كثير من الأقطار، وأخذوا عنه أحكامهم،
ولم يمنعه سمو مقامه في العلم من اتخاذ وسيلة لمعاشه، وركائز تضمن
الرفعة عمّا في أيدي الناس، شأن الأحرار في الدنيا، فكانت له تجارة
يديرها غلمانه ويشرف عليهم بنفسه، فيعتاش ممّا يرزقه الله من فضله، ولم
يشأ أن يثرى على حساب الغير، أو يكون اتّكالياً في رزقه(37).
وليس من شك أنّ أباه أولاه عناية كبيرة، ورعاه
رعاية صالحة، لأ نّه أمله في هذه الحياة الدنيا، ورسالته الباقية بعده،
نتيجة البشارة الّتي حبي بها من الناحية المقدّسة، فكان الفتى الكامل
آية في الحفظ والذكاء، يحضر مجالس الشيوخ ويسمع منهم ويروي عنهم، فقد
اختلف إلى مجلس شيخه محمّد بن الحسن بن الوليد ـ وكان من أكابر الشيوخ
وأعاظم العلماء ـ وهو حدث السن.
وأدرك من أيّام أبيه أكثر من عشرين عاماً، اقتبس
خلالها من أخلاقه وآدابه ومعارفه وعلومه ما سما به على أقرانه، حتّى
روى عنه جميع مصنفاته، وهي مائتا كتاب فيما يذكره ابن النديم في
فهرسته.
قال: قرأت بخطّ ابنه محمّد بن عليّ على ظهر جزء:
(قد أجزت لفلان ابن فلان كتب أبي عليّ بن الحسين وهي مائتا كتاب، وكتبي
وهي ثمانية عشر كتاباً)(38).
ومع الأسف الشديد ضياع تلك الثروة العلمية
الضخمة، فلم نعثر إلاّ على أسماء ما يقارب من عشرين كتاباً ذكرها الشيخ
النجاشي والشيخ الطوسي في فهرستيهما، ولم يبق منها إلاّ كتاب الأخوان
الّذي يعرف بمصادقة الأخوان، ونسب اشتباهاً إلى ولده مؤلّف هذا الكتاب،
ونصوصاً من رسالته الّتي كتبها إلى ابنه.
فممّا يكشف عن مزيد عناية الأب بتربية ابنه،
رسالته الّتي كتبها لأجله لخص له فيها كثيراً من الاُصول الحديثية،
فاختصر الطريق بطرح الأسانيد والجمع بين النظائر، والإتيان بالخبر مع
قرينه حتّى قيل أ نّه أوّل من ابتكر ذلك في رسالته إلى ابنه، وكثير
ممّن تأخّر عنه يحمد طريقته فيها، ويعوّل عليها في مسائل لا يجد النص
عليها، لثقته وأمانته وموضعه من الدين والعلم، وهذه الرسالة من مصادر
كتاب من لا يحضره الفقيه نقل عنها المؤلّف كثيراً، وصرّح بذلك.
والّذي يسترعي الانتباه كثرة مرويات المؤلّف عن
طريق أبيه كثرة تفوق مروياته عن كلّ من شيوخه الآخرين، ممّا يدلّنا على
مدى استعداده الذهني والنبوغ المبكّر الّذي كان له أكبر الأثر في
قابليته الجيدة لكلّ ما يقرأ ويسمع.
ولا غرابة في نتائج الإحصاء والمقارنة الّتي
تثبت أنّ الأب ـ وهو المنبع الأوّل من منابع ثقافة وليده المرجّى ـ بذل
أقصى جهده في سبيل تثقيف ولده وإسماعه أكبر عدد من مروياته، حتّى كان
أكثر ما يرويه الولد هو عن طريق شيخه الأوّل ومربّيه الأكمل، والده أبي
الحسن(رحمه الله).
وللتدليل على ذلك خذ مثلا كتاباً من كتب
المؤلّف(رحمه الله)، ونظّم احصاءاً شاملا لمروياته عن كلّ من شيوخه،
فستخرج بنتيجة أنّ للأب السهم الأوفر من تلك الروايات.
وهذا كتابه من لا يحضره الفقيه لمّا كان هو أكبر
كتبه وأكثرها رواية، فقد اختصر أسانيده مقتصراً على ذكر من ينتهي إليه
سند الرواية، وكان هو الراوي الأوّل، ووضع في آخره مشيخة ذكر فيها
إسناده إلى اُولئك الرواة الّذين ورد الحديث عنهم في الكتاب ولم يعرف
طريق المصنّف إليهم، ومن هذه المشيخة يستطيع الباحث كشف حقيقة ما قلناه
عن كثرة رواياته عن أبيه على قصر المدة الّتي عايشه فيها، حتّى فاقت
رواياته ما يرويه عن أشهر شيوخه الآخرين وأكثرهم ملازمة زمنيّة، لتأخّر
وفاته عن وفاة والد المؤلّف المذكور، كابن الوليد مثلا الّذي مات سنة
(343 هـ) أي بعد وفاة عليّ بن الحسين بن بابويه بنحو خمسة عشر عاماً.
فالباحث يجد المؤلّف ذكر في المشيخة (215)
راوياً روى عنهم في كتابه من طريق أبيه، بينما روى عن (124) راوياً من
طريق شيخه محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، وعن (50) راوياً من طريق
محمّد بن عليّ ماجيلويه، وعن (39) راوياً من طريق محمّد بن موسى بن
المتوكل، وهؤلاء من أشهر شيوخه الّذين اشتهر بالتلمذة عليهم والأخذ
عنهم، وعرف بشدة الإتصال بهم.
وهكذا تتضاءل النسبة في مروياته عن سائر شيوخه
الآخرين الّذين هم دون هؤلاء شهرة أو أقل اتصالا بهم.
وكذلك تكون نتائج الاحصاء عند المقارنة بين
مروياته في سائر كتبه الأخرى، فهذان كتابا معاني الأخبار والأمالي، نجد
المؤلّف يكثر الرواية عن طريق أبيه فيهما حتّى فاق ما يرويه عن طريقه
سائر ما يرويه عن باقي شيوخه، فله في كتاب المعاني ما يناهز المائتين،
وفي كتاب الأمالي ما يقرب من (160) حديثاً، بينما نجد جميع ما يرويه عن
طريق شيخه محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد في الكتابين معاً، لا يبلغ
ما يرويه عن أبيه في كتاب المعاني وحده، أمّا إذا نظرنا إلى الأحاديث
الّتي يرويها عن شيخه محمّد بن موسى بن المتوكّل، فجميع ما ورد عن
طريقه في الكتابين معاً لا يبلغ (120) حديثاً، وعلى هذا القياس تتضاءل
أيضاً نسبة مروياته عن سائر شيوخه الآخرين في هذين الكتابين(39).
وثمّة ظاهرة في مؤلّفات هذا الشيخ الجليل لها
قيمتها، هي توريخه السماع غالباً مع ذكر المكان ممّا يزيد في قيمة
السند والرواية.
فإنّا إذا رجعنا إلى كتب المؤلّف(رحمه الله)،
نجده يمتاز في أسانيده عن شيوخه الكثيرين بتحديد زمان سماعه، والمكان
الّذي سمع فيه غالباً، وهذه الظاهرة كما أوقفتنا على منهج المؤلّف،
دلّتنا على ما أنار لنا جوانب من تاريخه أهملها مؤرّخوه.
فهو لم يقتصر في أخذه عن مشايخ بلده فحسب، بل
رحل إلى كثير من البلدان طلباً للحديث واستزادة في العلم، وسمع الكثير
من شيوخ العلم في مختلف الحواضر العلمية، وربّما حدّث هو في بعض تلك
البلاد، فسمع منه أشياخ البلد على حداثة سنّه.
وقد ذكر شيوخه سماحة سيّدي الوالد دام ظلّه،
فأنهى عددهم إلى أكثر من مائتي شيخ، اقتبسنا منهم العلويين خاصة،
فذكرناهم في مقدّمة كتابه (التوحيد) مع بسط تراجمهم فكانوا سبعة(40).
أمّا البلاد الّتي رحل إليها فأوّلها الري، وقد
التمسه أهلها للإقامة بينهم، وزاد في اقناعه باجابتهم ما طلبوا وجود
الأمير ركن الدولة البويهي، وما كان عليه من رعاية العلماء وإكرامهم
والقيام بشؤونهم، ولم نعثر على تحديد تاريخ هجرته إلى الري، إلاّ أنّ
في أسانيده ما يشير إلى وجوده بقم في رجب سنة (239 هـ) حيث سمع بها من
الشريف أبي يعلى حمزة بن محمّد الزيدي العلوي(41)، كما إنّا نجده يحدّث
عن سماعه في الري من أبي الحسن محمّد بن أحمد الأسدي المعروف بابن
جرادة البردعي في رجب سنة (347 هـ)(42)، وأ نّه لم تنقطع صلته بوطنه
الأوّل قم، فربّما دخلها إمّا لزيارة المشهد فيها أو للقاء الشيوخ، كما
يظهر من مقدّمة كتابه إكمال الدين حين صرّح بوجوده بقم، وذلك بعد عودته
من زيارته للمشهد الرضوي، وكانت زيارته الاُولى سنة (352 هـ) فقد اجتمع
بقم بالشيخ نجم الدين أبي سعيد محمّد بن الحسن بن محمّد بن أحمد بن
عليّ بن الصلت القمي، وكان قد ورد من بخارى فذاكره في أمر الغيبة وسأله
أن يصنّف فيها كتاباً(43).
وقد خرج إلى خراسان قاصداً زيارة الإمام
الرضا(عليه السلام) في طوس سنة (352 هـ) فاستأذن الأمير البويهي ركن
الدولة فأذن له، ولمّا خرج من عنده استدعاه ثانياً وسأله أن يدعو له
عند المشهد(44)، فكانت تلك الزيارة هي اُولى زياراته الثلاث، فقد زار
المشهد ثانياً سنة (367 هـ) بعد موت الأمير البويهي المذكور بسنة، كما
زار المشهد ثالثاً في سنة (368 هـ) في طريقه إلى بلاد ما وراء النهر.
وفي سنة (352 هـ) في شعبان كان في نيسابور في
طريقه إلى المشهد الرضوي، فسمع في ذلك التاريخ أبا الطيب الرازي(45)،
وابن عبدوس النيسابوري(46)، وأبا سعيد المعلم(47)، والحسين بن أحمد
البيهقي، وكان سماعه منه في داره(48).
وقد سمع في نيسابور من شيوخ آخرين لم نعثر على
تاريخ سماعه منهم، فلا ندري هل في سفره هذا أم في أسفاره الّتي بعد
ذلك، وكان منهم أبو نصر الضبي وقال عنه: وما لقيت أنصب منه، وبلغ من
نصبه أ نّه كان يقول: اللّهمّ صلِّ على محمّد فرداً، ويمتنع من الصلاة
على آله(49)، وعبدالله بن محمّد بن عبدالوهاب السجزي(50)، وأحمد بن
إبراهيم الخوزي(51).
وفي مرو الروذ سمع من رافع بن عبدالملك، ومحمّد
بن عليّ بن الشاه الفقيه المروذي في داره، كما سمع في سرخس أبا نصر
محمّد بن أحمد بن إبراهيم بن تميم السرخسي الفقيه، كلّ ذلك في طريقه
إلى خراسان في أسفاره إليها.
ولمّا عاد من خراسان في سنته تلك (352 هـ) توجّه
إلى بغداد في طريقه إلى الحجّ فدخلها في تلك السنة، وسمع منه شيوخ
الطائفة وهو حدث السن(52)، وقد سمع ببغداد من جماعة منهم أبو الحسن
عليّ بن ثابت الدواليبي(53)، والشريف النسّابة أبو محمّد الحسن بن
محمّد بن يحيى العلوي المعروف بابن أخي طاهر بداره طرف سوق العطش، كما
أجاز له ممّا صح عنده من حديثه(54).
ويبدو أ نّه لم يتجاوز بغداد في سفره هذا، لكنه
في سنة (354 هـ) حجّ بيت الله الحرام، فسمع بالكوفة من محمّد بن بكران
النقاش(55)، ومن أحمد بن هارون الفامي في مسجد الكوفة(56)، ومن الحسن
بن محمّد بن سعيد الهاشمي الكوفي(57)، وهؤلاء قد أرّخ سماعاته منهم،
وأ نّها في سنة (354 هـ).
أمّا الّذين لم يؤرّخ سماعاته منهم، وصرّح
بسماعه منهم في الكوفة فهم عليّ ابن عيسى المجاور في مسجد الكوفة، وأبو
القاسم الحسن بن محمّد بن السكوني المذكر الكوفي، ومحمّد بن عليّ بن
الفضل الكوفي في مسجد أميرالمؤمنين(عليه السلام)في الكوفة، وعليّ بن
الحسين بن شقير الهمداني في منزله بالكوفة(58)، وغيرهم ممّن لم يسمّهم،
فقد ذكر في نوادر كتابه الفقيه أ نّه سمع رجلا من أهل المعرفة باللغة
في الكوفة(59).
كما سمع بعد منصرفه من الحجّ بفيد ـ وهو اسم
مكان منتصف الطريق تقريباً بين مكة والكوفة ـ من أبي عليّ أحمد بن جعفر
البيهقي(60)، وسمع ممّن يثق به من أهل المدينة في شأن وادي مهزور،
والظاهر أنّ سماعه منه كان بها(61).
ولمّا قفل راجعاً إلى الري، ومرّ في طريقه
بهمدان، سمع بها من الفضل بن الفضل بن العبّاس الكندي وأجازه(62)، ومن
القاسم بن محمّد بن أحمد بن عبدويه الزاهد السراج الهمداني(63).
وفي سنة (367 هـ) توجّه لزيارة المشهد الرضوي
ثانياً، حيث أملى المجلس الخامس والعشرين من أماليه في يوم الجمعة (13)
ذي الحجة من تلك السنة، وعاد إلى الري في سنة (378 هـ) حيث أملى المجلس
السابع والعشرين في يوم الجمعة غرة المحرم سنة (368 هـ) بها.
وفي شهر رجب توجّه لزيارة المشهد الرضوي ثالثاً،
ومرّ في طريقه بنيسابور، فأملى عدة مجالس من أماليه، منها في دار
الشريف أبي محمّد يحيى بن محمّد العلوي الأفطسي المعروف بشيخ العترة
وسيّد السادة المجلس التاسع والثمانين في يوم الأحد غرة شعبان من تلك
السنة.
وأملى بنيسابور عدة من مجالسه، آخرها ما أملاه
يوم الجمعة (12) شعبان، وهو المجلس الثالث والتسعون، وسافر إلى طوس
لزيارة المشهد، فكان بها يوم الثلاثاء (17) شعبان حيث أملى المجلس
الرابع والتسعين، وهكذا بقي في المشهد الرضوي حتّى ختم أماليه بالمجلس
(97) يوم الخميس (19) شعبان من سنة (368 هـ).
وتوجّه إلى بلاد ما وراء النهر، فدخل بلخ وسمع
بها جماعة من شيوخ الحديث، منهم الحسين بن محمّد الأشناني، وعبيدالله
بن أحمد الفقيه وقد أجازه، وطاهر بن محمّد بن يونس بن حيوة الفقيه،
ومحمّد بن سعيد بن عزيز السمرقندي وغيرهم.
وورد سرخس، فسمع محمّد بن أحمد بن تميم السرخسي
الفقيه، كما دخل سمرقند وسمع بها عبد الصمد بن عبد الشهيد، وعبدوس بن
عليّ الجرجاني، ووصل إلى إيلاق ـ وهي كورة تتاخم كور الشاش وهما من
أعمال سمرقند ـ فأقام بها، وسمع الحديث من محمّد بن الحسن بن إبراهيم
الكرخي الكاتب، ومحمّد بن عمرو بن عليّ بن عبيدالله البصري.
وفي مدّة إقامته بها اجتمع بالشريف أبي عبدالله
محمّد بن الحسن العلوي المعروف بنعمة، وسمع كلّ منهما من الآخر، ووقف
الشريف المذكور على أكثر مصنّفات الصدوق الّتي كانت معه فنسخها، كما
سمع منه أكثرها، ورواها عنه كلّها، وكانت مائتي كتاب وخمسة وأربعين
كتاباً(64).
ودخل فرغانة، وسمع بها من محمّد بن جعفر البندار
الشافعي، وإسماعيل بن منصور بن أحمد القصار، وتميم بن عبدالله بن تميم
القرشي وغيرهم.
وهكذا نرى المؤلّف وهو في سن الشيخوخة ـ إذ قد
تجاوز الستين ـ لا يزال يطوي المسافات الشاسعة في طلب الحديث وسماعه
وإسماعه، ومعه من مصنّفاته (245) كتاباً.
وأكبر الظنّ أ نّه لم يسافر بعد سفره إلى ديار
ما وراء النهر في سنة (368 هـ) حتّى توفى سنة (381 هـ) بالري، إذ لم
نعثر على ما يشير إلى ذلك، ولا شك أ نّه كان في اُخريات أيّامه بالري،
حيث أقام بها بعد أن قطع المسافات الشاسعة، وطاف كثيراً من البلدان
النائية في سبيل سماع الحديث وإسماعه لم يتلهّف لماضي تمنى رجوعه، كما
لم يتوجّع لحادث يخشى وقوعه، بالرغم من تقدّم سنه في الشيخوخة، ومضافاً
إلى مكانته الإجتماعية، وصلاته الوثيقة برجال الحكم في الري، فانّه لو
أراد أن ينعم بظلال الحياة الوارف كغيره من القابعين في بيوتهم; لكان
ذلك من أيسر ما يروم، لكنّه العالم الّذي عرف لذة العلم، فهو لا يأنس
إلاّ بكتابه، ولا يطربه إلاّ صرير قلمه، ولا يرى الكرامة والسعادة إلاّ
بين المحابر والدفاتر.
فلا غرابة إذا ما أنتج عقله النتاج القيّم،
وأثمر علمه الكثير الطيب، فهو في نحو سبعة عقود ونصف من أعوام الحياة
الّتي عاشها، غذّى المكتبة الإسلامية في فنون العلم والآداب نحواً من
ثلاثمائة مصنّف(65)، وقيل أكثر من ذلك.
وقد ذكر سماحة سيّدي الوالد دام ظلّه في رسالته
حياة الشيخ الصدوق تفصيل أسماء آثاره، مع الإشارة إلى ما وصلت إلينا
نسخته، وهو يبلغ العشر بالنسبة إلى ما حفظ اسمه واندثر رسمه، ومجموعها
(220) كتاباً ورسالة، أمّا ما بقي فقد استأثر به التاريخ، فلم يسمح
حتّى باسمه.
وقد ذكرت في مقدّمة كتاب التوحيد(66) تفصيل
آثاره الباقية مع الإشارة إلى المخطوط والمطبوع منها، وأنّ فيها وفيما
بقي من أسماء كتبه الاُخرى، الّتي سجلها أصحاب الفهارس وما لم
يسجّلوها(67) لدلالة على جودة البضاعة ووفور الرصيد العلمي; حتّى
تفجّرت تلك العقلية عن مئات من المصنّفات في فنون الآداب والعلوم
الإسلامية.
فألّف في التفسير والفقه، والحديث، والكلام،
والعقائد، والتاريخ، والرجال، والأخلاق، والآداب الشرعية، والدعاء،
والزيارات، سوى ما كتبه في أجوبة المسائل الواردة إليه من سائر البلاد
الإسلامية كمصر، وبغداد، والكوفة، والبصرة، وواسط، والمدائن، ونيسابور،
وقزوين، أو ما كتبه في جواب مسائل شخصية; كجوابه إلى أبي محمّد الفارسي
في شهر رمضان وغيره.
(وَآخِرُ دَعْوَانا أنِ الحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ
العَالَمِينَ)
محمّد مهدي السيّد حسن
الموسوي الخرسان
|