ثواب الأعمال

و

عقاب الأعمال

تأليف

الشيخ الصدوق أبي جعفر

محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي

المتوفى 381

 

قدم له

العلامة الجليل السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

 

الشيخ الصدوق:

هو أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي.

ولم ترفع كتب التراجم نسبه إلى ما فوق (بابويه) الأمر الّذي يدلّنا على أ نّه الشخصية الاُولى من آبائه الّذي تمتع بشهرة حتّى صارت النسبة إليه، كما يترك المجال مفتوحاً لاحتمال نسبة عدة من المحدّثين والعلماء المشهورين ينسبون إلى مثل هذا الاسم (بابويه)، أ نّهم من لحمة الشيخ الصدوق وأبناء عمومته، فانّهم أيضاً لم ترفع أنسابهم أيضاً إلى ما فوق بابويه إلاّ في واحد كما سيأتي.

ونظراً لتقارب عصورهم مع عصر الصدوق فيبدو احتمال أ نّهم جميعاً من اُسرة واحدة، ويرجعون إلى جد واحد وهو بابويه، وقد ذكرت ذلك في رسالتي (التنويه بأسماء المختومين بويه) عند ذكر أسماء الأعلام من المحدّثين المنسوبين إلى بابويه، وإن لم أجزم به.

أمّا الأشخاص المشار إليهم آنفاً ممّن نسب إلى بابويه، ولم يرفع نسبه إلى من فوقه إلاّ في واحد وهو:

1 ـ محمّد بن سليمان بن بابويه بن مهرويه المخرمي ـ كما في الإكمال ـ وفي رواية الخطيب أ نّه بابويه بن فهرويه بن عبدالله، سمع عثمان بن عبدالله بن عمرو ابن عثمان العثماني وغيره، حدّث عن ابنه عبيدالله ـ الآتي ذكره ـ وغيره، توفي سنة (307 هـ).

2 ـ عبيدالله بن محمّد بن سليمان ـ الآنف الذكر ـ أبو محمّد الدقاق، حدّث عن أبيه وجعفر الفريابي، وإبراهيم بن عبدالله بن أيوب المخرمي وغيرهم.

3 ـ أبو القاسم محمّد بن عبيدالله بن بابويه ـ الرجل الصالح ـ وهو ممّن يروي عنه أبو نصر أحمد بن الحسين بن أحمد بن عبيدالله الضبي، وهذا من مشايخ المؤلّف شيخنا الصدوق، روى عنه كما في أسانيد كتبه.

4 ـ الحسين بن إبراهيم بن بابويه، عدّه سماحة السيّد الوالد دام ظلّه من جملة مشايخ الصدوق في مقدّمة الفقيه(1) استناداً إلى ما ذكره المحدّث النوري في خاتمة المستدرك(2)، ولم نجد ذكره في أسانيد الصدوق في كتبه، نعم وردت رواية الصدوق عنه بواسطة في إسناد حديث في بشارة المصطفى(3)، حيث ذكر أنّ الصدوق يروي عن الحسين بن موسى، عن الحسين بن إبراهيم بن بابويه، عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم القمي.

5 ـ أبو الحسن عليّ بن عبدالله بن أحمد بن بابويه المذكور، وهو من شيوخ الصدوق، روى عنه في معاني الأخبار(4).

6 ـ أبو الحسن عليّ بن محمّد بن بابويه الأسواري الأصبهاني، قال ابن مندة: هو آخر الأغنياء الأتقياء، ورع ديّن، دخل شيراز وسمع من جماعة، وكتب. مات سنة (358 هـ).

7 ـ أحمد بن الحسن بن عليّ(5) بن بابويه الحنائي، حدّث عن يوسف بن موسى القطان، وحدّث عنه عمر بن أحمد بن شاهين في معجم شيوخه، وابن شاهين هذا ولد سنة (297 هـ) وأوّل ما سمع الحديث منه (305 هـ) وله إحدى عشرة سنة(6)، وتوفي سنة (385 هـ) .

8 ـ أبو الحسن عليّ بن بابويه قتيل القرامطة في الطواف بالمسجد الحرام، ذكره القطبي في كتابه الاعلام بأعلام بيت الله الحرام(7): أنّ القرامطة لمّا أغاروا على الحجاج في سنة (317 هـ) ودخلوا المسجد الحرام أيّام الموسم، وراثت خيولهم في المسجد، وقتلوا خلقاً كثيراً في المطاف قدرهم بألف وسبعمائة طائف محرم، وكان عليّ بن بابويه ممّن يطوف فلم يقطع طوافه، وجعل يقول:

ترى المحبين صرعى في ديارهم *** كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

والسيوف تقفوه إلى أن سقط ميتاً، رحمه الله تعالى(8).

9 ـ أبو الحسن عليّ بن الحسين بن بابويه الرازي، خرج لنفسه أربعين حديثاً رواها عنه أبو المجد محمّد بن الحسين بن أحمد القزويني (ت 622 هـ)بسماعه منه(9).

ومن الواضح أنّ هؤلاء كلّهم ـ إلاّ الأخير منهم ـ ممّن يقارب عصرهم عصر الصدوق أو عصر والده كتقارب بلدانهم، فيا هل ترى وجاهة احتمال أ نّهم من ذرية بابويه جد المؤلّف، أو أ نّهم من بابويه آخر أو آخرين.

ومهما يكن الواقع فانّ بني بابويه ـ اُسرة المؤلّف ـ من بيوتات القميين المشتهرة بالعلم والفضيلة، وقد تبوأ رجال منهم مكان الصدارة والمرجعية، كما كان بيتهم حتّى القرن السادس بيت علم وحديث، ذكرت المعاجم الرجالية منهم عدة علماء ومحدّثين، أحصينا منهم ما يقرب من عشرين عالماً من بينهم شيخ الإسلام وثقة الدين، كما فيهم من تسمى باسم جدهم الأعلى (بابويه) إحياءً لذكره.

وبالرغم من كثرة البحث في تاريخ هذه الاُسرة الكريمة الباسقة أفنانها والناضجة ثمارها، فلم نقف على مبدء سكناهم في قم الحاضرة الإسلامية ومهد العلم في ذلك العصر، لكن الّذي لا نشك فيه أنّ والد المؤلّف ـ وهو الشيخ أبو الحسن عليّ بن الحسين ـ كان في قم، ومن أبرز أصحاب الشيوخ الأجلّة سعد بن عبدالله بن أبي خلف الأشعري وأبي العباس عبدالله بن جعفر الحميري صاحب قرب الاسناد، وأبي الحسن عليّ بن إبراهيم بن هاشم القمي المفسر وطبقتهم.

كما كانت له مكانة مرموقة في وسطه، بل يعد من عليّة رجالات بلده، وفي الطليعة بين أعلامهم الطائري الصيت، إن لم يكن هو الأوّل المشار إليه من بينهم، وقد أثنى عليه علماء الرجال ووصفوه بكلّ جميل مما يكشف عن عظيم قدره، وعلو كعبه.

كما ذكروا أنّ الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) (ت 260 هـ) كتب إليه كتاباً فيه ما يغني عن سرد جمل الثناء العاطر، وآيات التعظيم، جاء فيه:

(اعتصمت بحبل الله، بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله ربّ العالمين والعاقبة للمتقين، والجنة للموحدين، والنار للملحدين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، ولا إله إلاّ الله أحسن الخالقين، والصلاة على خير خلقه محمّد وعترته الطاهرين).

وفيه: (أمّا بعد، اُوصيك يا شيخي ومعتمدي وفقيهي أبا الحسن عليّ بن الحسين القمي وفّقك الله لمرضاته، وجعل من صلبك أولاداً صالحين برحمته).

وفيه: (فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن عليّ، وأمر جميع شيعتي بالصبر، فانّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، والسلام عليك وعلى جميع شيعتنا ورحمة الله وبركاته).

والّذي يلفت النظر في فقرات هذا الكتاب، خطاب الإمام(عليه السلام) لأبي الحسن ابن بابويه بالشيخ، ولابدّ أن يكون من باب: شيّخه تشييخاً دعاه شيخاً تبجيلا وتعظيماً(10)، وإلاّ فلا مجال للقول بأنّ ابن بابويه كان حين صدور الكتاب شيخاً في السن، أي من الخمسين إلى الثمانين، كما هو معنى الشيخ على ما حكاه ابن سيّدة في المخصص وغيره.

ولو كان شيخاً لعدّ من المعمّرين، إذ أنّ وفاة الإمام العسكري(عليه السلام) كانت سنة (260 هـ)، وعاش أبو الحسن ابن بابويه بعد الإمام(عليه السلام) ما يقرب من سبعين عاماً حيث كانت وفاته سنة (328 هـ)، ولم يذكر أ نّه كان من المعمّرين الّذين تجاوزوا المائة وناهزوا المائة وخمسين مثلا، ولم يذكر في ترجمته ما يشير إلى ذلك ولو من بعيد.

على أ نّه لو كان من المعمّرين الّذين تجاوزوا المائة وناهزوا المائة وخمسين مثلا، لأشار ولده الشيخ الصدوق إلى ذلك في كتابه إكمال الدين في باب التعمير والمعمّرين، وما يناسب ذلك من أبواب الكتاب، فلابدّ إذن من أن يكون المعني بالشيخ هو التبجيل والتعظيم، ولعلّ في مخاطبته بالكنية ما يشعر بذلك مضافاً إلى وصفه بالمعتمد والفقيه، فهو من الشيوخ شأناً، وإن لم يكن منهم سناً.

وممّا يسترعي الانتباه أنّ هذا الكتاب لم يروه ولده الصدوق في تضاعيف كتبه الّتي وصلت إلينا على كثرة الأبواب المناسبة لذكره، كما لم يذكره القدماء من أصحابنا.

وأقدم مصدر حكى عنه ـ فيما أعلم ـ هو كتاب الاحتجاج لأبي منصور أحمد ابن عليّ الطبرسي اُستاذ الحافظ ابن شهرآشوب السروي (ت 588 هـ)، حكاه عنه البحراني في لؤلؤة البحرين(11)، ولم أجده في مطبوع الاحتجاج.

ورواه بصورة مختصرة الحافظ ابن شهرآشوب في المناقب(12)، وذكره مفصّلا القاضي المرعشي في مجالس المؤمنين(13)، والخوانساري في الروضات(14)، والنوري في خاتمة المستدرك(15) وغيرهم من المتأخّرين.

ذكر الشيخ النجاشي في رجاله(16) أبا الحسن ـ والد المؤلّف ـ ووصفه بقوله:

شيخ القميين في عصره، ومتقدّمهم وفقيههم وثقتهم، كان قدم العراق واجتمع مع أبي القاسم بن روح(رحمه الله)، وسأله مسائل ثمّ كاتبه بعد ذلك على يد عليّ بن جعفر الأسود(17) يسأله أن يوصل رقعة إلى الصاحب(عليه السلام) ويسأله فيها الولد، فكتب إليه: «قد دعونا لك بذلك، وسترزق ولدين ذكرين خيّرين».

وذكر الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة(18) أنّ عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه كانت تحته بنت عمه محمّد بن موسى بن بابويه، فلم يرزق منها ولداً، فكتب إلى الشيخ أبي القاسم بن روح(رضي الله عنه) أن يسأل الحضرة أن يدعو الله أن يرزقه أولاداً فقهاء، فجاء الجواب: «أنك لا ترزق من هذه وستملك جارية ديلمية وترزق منها ولدين فقيهين».

وفي لفظ الصدوق ـ مؤلّف الكتاب ـ قال: حدّثنا أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الأسود، قال: سألني عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه(رحمه الله) بعد موت محمّد بن عثمان العمري(رضي الله عنه) (وكانت وفاته سنة 305 هـ) أن أسأل أبا القاسم الروحي أن يسأل مولانا صاحب الزمان(عليه السلام) أن يدعو اللهعز وجل أن يرزقه ولداً ذكراً، قال: فسألته فأنهى ذلك، فأخبرني بعد ذلك بثلاثة أيّام إنّه قد دعا لعليّ بن الحسين، وأ نّه سيولد له ولد مبارك ـ كذا ـ ينفعه اللهعز وجل به وبعده أولاده.

قال أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الأسود(رضي الله عنه): وسألته في أمر نفسي أن يدعو الله لي أن يرزقني ولداً ذكراً، فلم يجبني إليه وقال: ليس إلى هذا سبيل، قال: فولد لعليّ بن الحسين(رضي الله عنه) محمّد بن عليّ (مؤلّف الكتاب) وبعده أولاد، ولم يلد لي شيء.

وهكذا تم للشيخ ـ والد المترجم له ـ ما كان يصبو إليه من الدعاء بالولد الصالح، كما تم له بعد ذلك حصول الأثر، فملك الجارية ورزق منها أوّل مولود ذكر كان هو شيخنا ـ المترجم له ـ أبا جعفر محمّد بن عليّ الصدوق، ولعلّ في اختيار والده لاسمه ما يشعر بأ نّه من بركات دعاء صاحب هذا الاسم وهو صاحب الأمر (عجل الله فرجه الشريف)، وكانت ولادته بعد سنة (305 هـ) الّتي هي سنة وفاة العمري وأولى سني سفارة الروحي، ولعلّها كانت سنة (306 هـ) كما استقر بها السيّد الوالد دام ظلّه واستدلّ عليها، وأياً ما كان فقد ولد شيخنا الصدوق ببركة دعوة الناحية المقدّسة.

ومن الطبيعي أن يكون لتلك الدعوة أثرها في تقويم شخصيته، وتكوين مؤهلاته العلمية، حتّى توقّع الناس ظهور أثرها بيناً في تاريخه، فكان الأمر كما أملوا، وكانوا بعد ولادته ونشأته يرجعون جلّ تلك الظواهر من مميزاته إلى أثر تلك الدعوة الصالحة الّتي بارك بها الإمام(عليه السلام) وليد أبي الحسن عليّ بن موسى بن بابويه، كما كان المؤلّف نفسه يفتخر بذلك ويقول: أنا ولدت بدعوة صاحب الأمر (عجل الله فرجه الشريف)(19).

وقال في ذيل حديثه الآنف عن ابن الأسود: وكان أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الأسود(رحمه الله) كثيراً ما يقول إذا رآني أختلف إلى مجلس شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد(رضي الله عنه)، وأرغب في كتب العلم وحفظه، ليس بعجب أن تكون لك هذه الرغبة في العلم وأنت ولدت بدعاء الإمام(عليه السلام)(20).

قال أبو عبدالله بن سورة(رحمه الله): كلّما روى أبو جعفر ـ مؤلّف الكتاب ـ وأبو عبدالله الحسين ابني عليّ بن الحسين شيئاً يتعجب الناس من حفظهما، ويقولون لهما: هذا الشأن خصوصية لكما بدعوة الإمام لكما، وهذا أمر مستفيض في أهل قم(21).

ومن الغريب ما ذكره دوايت م دونلدسن في كتابه عقيدة الشيعة(22) أنّ المؤلّف ولد بخراسان أثناء زيارة والده لمشهد الرضا، ولم نقف على مستند يثبته، وقد تابعه على ذلك صاحب المنجد في الأدب والعلوم(23).

وأغرب من ذلك ما ذكره الدكتور محمّد مصطفى حلمي (اُستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف بكلية الآداب بجامعة القاهرة) في تعليقه على كتاب توفيق التطبيق(24) حيث قال: وقد ترك في صباه خراسان عام سنة (355 هـ ـ 966 م) إلى بغداد ... الخ.

فمع الاغماض عمّا ذكر من كونه بخراسان، إلاّ أنّ الدكتور زعم أ نّه ترك خراسان في صباه سنة (355 هـ) إلى بغداد، ولو بحث قليلا عن ولادته لعلم أ نّه حين ورد بغداد سنة (355 هـ) كان قد ناهز الخمسين من عمره، فكيف يصح قوله في صباه؟!

نشأ المترجم له تحت رعاية أبيه الّذي سبق أن وقفنا على شيء من مكانته، والّذي اشتهر بعلمه وتمسّكه بدينه، وعرف بورعه وتقواه، ورجعت إليه الشيعة في كثير من الأقطار، وأخذوا عنه أحكامهم، ولم يمنعه سمو مقامه في العلم من اتخاذ وسيلة لمعاشه، وركائز تضمن الرفعة عمّا في أيدي الناس، شأن الأحرار في الدنيا، فكانت له تجارة يديرها غلمانه ويشرف عليهم بنفسه، فيعتاش مما يرزقه الله من فضله، ولم يشأ أن يثري على حساب الغير، أو يكون اتّكالياً في رزقه(25).

وليس من شك أن أباه أولاه عناية كبيرة، ورعاه رعاية صالحة، لأ نّه أمله في هذه الحياة الدنيا، ورسالته الباقية بعده، نتيجة البشارة الّتي حبي بها من الناحية المقدّسة، فكان الفتى الكامل آية في الحفظ والذكاء يحضر مجالس الشيوخ ويسمع منهم ويروي عنهم، فقد اختلف إلى مجلس شيخه محمّد بن الحسن بن الوليد ـ وكان من أكابر الشيوخ وأعاظم العلماء ـ وهو حدث السن.

وأدرك من أيّام أبيه أكثر من عشرين عاماً اقتبس خلالها من أخلاقه وآدابه ومعارفه وعلومه ما سما به على أقرانه، حتّى روى عنه جميع مصنّفاته، وهي مائتا كتاب فيما يذكره ابن النديم في فهرسته(26).

قال: قرأت بخطّ ابنه محمّد بن عليّ على ظهر جزء: قد أجزت لفلان ابن فلان كتب أبي عليّ بن الحسين وهي مائتا كتاب، وكتبي وهي ثمانية عشر كتاباً.

ومع الأسف الشديد ضياع تلك الثروة العلمية الضخمة، فلم نعثر إلاّ على أسماء ما يقارب من عشرين كتاباً ذكرها الشيخ النجاشي والشيخ الطوسي في فهرستيهما، ولم يبق منها إلاّ كتاب الاخوان الّذي يعرف بمصادقة الاخوان، ونسب اشتباهاً إلى ولده مؤلّف هذا الكتاب، ونصوصاً من رسالته الّتي كتبها إلى ابنه.

فممّا يكشف عن مزيد عناية الأب بتربية ابنه، رسالته الّتي كتبها لأجله لخص له فيها كثيراً من الاُصول الحديثية، فاختصر الطريق بطرح الأسانيد والجمع بين النظائر، والاتيان بالخبر مع قرينه حتّى قيل أ نّه أوّل من ابتكر ذلك في رسالته إلى ابنه، وكثير ممّن تأخّر عنه يحمد طريقته فيها، ويعوّل عليها في مسائل لا يجد النص عليها، لثقته وأمانته وموضعه من الدين والعلم، وهذه الرسالة من مصادر كتاب (من لا يحضره الفقيه) نقل عنها المؤلّف كثيراً، وصرّح بذلك.

والّذي يسترعي الانتباه كثرة مرويات المؤلّف عن طريق أبيه كثرة تفوق مروياته عن كلّ من شيوخه الآخرين، ممّا يدلّنا على مدى استعداده الذهني، والنبوغ المبكّر الّذي كان له أكبر الأثر في قابليته الجيدة لكلّ ما يقرأ ويسمع.

ولا غرابة في نتائج الاحصاء والمقارنة الّتي تثبت أنّ الأب ـ وهو المنبع الأوّل من منابع ثقافة وليده المرجّى ـ بذل أقصى جهده في سبيل تثقيف ولده، وإسماعه أكبر عدد من مروياته، حتّى كان أكثر ما يرويه الولد هو عن طريق شيخه الأوّل ومربّيه الأكمل، والده أبي الحسن(رحمه الله).

وللتدليل على ذلك خذ مثلا كتاباً من كتب المؤلّف(رحمه الله)، ونظّم احصاءاً شاملا لمروياته عن كلّ من شيوخه، فستخرج بنتيجة أنّ للأب السهم الأوفر من تلك الروايات.

وهذا كتابه (من لا يحضره الفقيه) لمّا كان هو أكبر كتبه وأكثرها رواية، فقد اختصر أسانيده مقتصراً على ذكر من ينتهي إليه سند الرواية، وكان هو الراوي الأوّل، ووضع في آخره مشيخة ذكر فيها إسناده إلى اُولئك الرواة الّذين ورد الحديث عنهم في الكتاب، ولم يعرف طريق المصنّف إليهم.

ومن هذه المشيخة يستطيع الباحث كشف حقيقة ما قلناه عن كثرة رواياته عن أبيه على قصر المدة الّتي عايشه فيها، حتّى فاقت رواياته ما يرويه عن أشهر شيوخه الآخرين، وأكثرهم ملازمة زمنية، لتأخّر وفاته عن وفاة والد المؤلّف المذكور، كابن الوليد مثلا الّذي مات سنة (343 هـ) أي بعد وفاة عليّ بن الحسين ابن بابويه بنحو خمسة عشر عاماً.

فالباحث يجد المؤلّف ذكر في المشيخة (215) راوياً روى عنهم في كتابه من طريق أبيه، بينما روى عن (124) راوياً من طريق شيخه محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، وعن (50) راوياً من طريق محمّد بن عليّ ماجيلويه، وعن (39) راوياً من طريق محمّد بن موسى بن المتوكل، وهؤلاء من أشهر شيوخه الّذين اشتهر بالتلمذة عليهم والأخذ عنهم، وعرف بشدة الاتصال بهم.

وهكذا تتضاءل النسبة في مروياته عن سائر شيوخه الآخرين الّذين هم دون هؤلاء شهرة أو أقل اتصالا بهم.

وكذلك تكون نتائج الاحصاء عند المقارنة بين مروياته في سائر كتبه الاُخرى، فهذان كتابا (معاني الأخبار والأمالي) نجد المؤلّف يكثر الرواية عن طريق أبيه فيهما، حتّى فاق ما يرويه عن طريقه سائر ما يرويه عن باقي شيوخه، فله في كتاب المعاني ما يناهز المائتين، وفي كتاب الأمالي ما يقرب من (160) حديثاً، بينما نجد جميع ما يرويه عن طريق شيخه محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد في الكتابين معاً، لا يبلغ ما يرويه عن أبيه في كتاب المعاني وحده.

أمّا إذا نظرنا إلى الأحاديث الّتي يرويها عن شيخه محمّد بن موسى بن المتوكّل، فجميع ما ورد عن طريقه في الكتابين معاً لا يبلغ (120) حديثاً، وعلى هذا القياس تتضاءل أيضاً نسبة مروياته عن سائر شيوخه الآخرين في هذين الكتابين(27).

وثمّة ظاهرة في مؤلّفات هذا الشيخ الجليل لها قيمتها، هي توريخه السماع غالباً مع ذكر المكان ممّا يزيد في قيمة السند والرواية.

فانّا إذا رجعنا إلى كتب المؤلّف(رحمه الله)، نجده يمتاز في أسانيده عن شيوخه الكثيرين بتحديد زمان سماعه، والمكان الّذي سمع فيه غالباً، وهذه الظاهرة كما أوقفتنا على منهج المؤلّف، دلّتنا على ما أنار لنا جوانب من تاريخه أهملها مؤرّخوه.

فهو لم يقتصر في أخذه عن مشايخ بلده فحسب، بل رحل إلى كثير من البلدان طلباً للحديث واستزادة في العلم، وسمع الكثير من شيوخ العلم في مختلف الحواضر العلمية، وربّما حدّث هو في بعض تلك البلاد، فسمع منه أشياخ البلد على حداثة سنّه.

وقد ذكر شيوخه سماحة سيّدي الوالد دام ظلّه، فأنهى عددهم إلى أكثر من مائتي شيخ، اقتبسنا منهم العلويين خاصة، فذكرناهم في مقدّمة كتابه (التوحيد) مع بسط تراجمهم فكانوا سبعة(28).

أمّا البلاد الّتي رحل إليها فأوّلها الري، وقد التمسه أهلها للإقامة بينهم، وزاد في اقناعه باجابتهم ما طلبوا وجود الأمير ركن الدولة البويهي، وما كان عليه من رعاية العلماء وإكرامهم والقيام بشؤونهم، ولم نعثر على تحديد تاريخ هجرته إلى الري، إلاّ أنّ في أسانيده ما يشير إلى وجوده بقم في رجب سنة (239 هـ) حيث سمع بها من الشريف أبي يعلى حمزة بن محمّد الزيدي العلوي(29)، كما إنّا نجده يحدّث عن سماعه في الري من أبي الحسن محمّد بن أحمد الأسدي المعروف بابن جرادة البردعي في رجب سنة (347 هـ)(30).

وأ نّه لم تنقطع صلته بوطنه الأوّل قم، فربّما دخلها إمّا لزيارة المشهد فيها أو للقاء الشيوخ، كما يظهر من مقدّمة كتابه إكمال الدين حين صرّح بوجوده بقم، وذلك بعد عودته من زيارته للمشهد الرضوي، وكانت زيارته الاُولى سنة (352 هـ) فقد اجتمع بقم بالشيخ نجم الدين أبي سعيد محمّد بن الحسن بن محمّد بن أحمد ابن عليّ بن الصلت القمي، وكان قد ورد من بخارى فذاكره في أمر الغيبة وسأله أن يصنّف فيها كتاباً(31).

وقد خرج إلى خراسان قاصداً زيارة الإمام الرضا(عليه السلام) في طوس سنة (352هـ) فاستأذن الأمير البويهي ركن الدولة فأذن له، ولمّا خرج من عنده استدعاه ثانياً وسأله أن يدعو له عند المشهد(32)، فكانت تلك الزيارة هي اُولى زياراته الثلاث، فقد زار المشهد ثانياً سنة (367 هـ) بعد موت الأمير البويهي المذكور بسنة، كما زار المشهد ثالثاً في سنة (368 هـ) في طريقه إلى بلاد ما وراء النهر.

وفي سنة (352 هـ) في شعبان كان في نيسابور في طريقه إلى المشهد الرضوي، فسمع في ذلك التاريخ أبا الطيب الرازي(33)، وابن عبدوس النيسابوري(34)، وأبا سعيد المعلم(35)، والحسين بن أحمد البيهقي، وكان سماعه منه في داره(36).

وقد سمع في نيسابور من شيوخ آخرين لم نعثر على تاريخ سماعه منهم، فلا ندري هل في سفره هذا أم في أسفاره الّتي بعد ذلك، وكان منهم أبو نصر الضبي وقال عنه: وما لقيت أنصب منه(37)، وبلغ من نصبه أ نّه كان يقول: اللّهمّ صلِّ على محمّد فرداً، ويمتنع من الصلاة على آله، ومن عبدالله بن محمّد بن عبدالوهاب السجزي(38)، وأحمد بن إبراهيم الخوزي(39).

وفي مروالروذ سمع من رافع بن عبدالملك، ومحمّد بن عليّ بن الشاه الفقيه المروذي في داره، كما سمع في سرخس أبا نصر محمّد بن أحمد بن إبراهيم بن تميم السرخسي الفقيه، كلّ ذلك في طريقه إلى خراسان في أسفاره إليها.

ولمّا عاد من خراسان في سنته تلك (352 هـ) توجّه إلى بغداد في طريقه إلى الحجّ فدخلها في تلك السنة، وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن(40)، وقد سمع ببغداد من جماعة منهم أبو الحسن عليّ بن ثابت الدواليبي(41)، والشريف النسّابة أبو محمّد الحسن بن محمّد بن يحيى العلوي المعروف بابن أخي طاهر بداره طرف سوق العطش، كما أجاز له ممّا صح عنده من حديثه(42).

ويبدو أ نّه لم يتجاوز بغداد في سفره هذا، لكنه في سنة (354 هـ) حجّ بيت الله الحرام، فسمع بالكوفة من محمّد بن بكران النقاش(43)، ومن أحمد بن هارون الفامي في مسجد الكوفة(44)، ومن الحسن بن محمّد بن سعيد الهاشمي الكوفي(45)، وهؤلاء قد أرّخ سماعاته منهم، وأ نّها في سنة (354 هـ).

أمّا الّذين لم يؤرّخ سماعاته منهم، وصرّح بسماعه منهم في الكوفة، فهم عليّ ابن عيسى المجاور في مسجد الكوفة، وأبو القاسم الحسن بن محمّد بن السكوني المذكر الكوفي، ومحمّد بن عليّ بن الفضل الكوفي في مسجد أميرالمؤمنين(عليه السلام)في الكوفة، وعليّ بن الحسين بن شقير الهمداني في منزله بالكوفة(46)، وغيرهم ممّن لم يسمّهم، فقد ذكر في نوادر كتابه الفقيه(47) أ نّه سمع رجلا من أهل المعرفة باللغة في الكوفة.

كما سمع بعد منصرفه من الحجّ بفيد ـ وهو اسم مكان منتصف الطريق تقريباً بين مكة والكوفة ـ من أبي عليّ أحمد بن جعفر البيهقي(48)، وسمع ممّن يثق به من أهل المدينة في شأن وادي مهزور، والظاهر أنّ سماعه منه كان بها، راجع الفقيه(49).

ولمّا قفل راجعاً إلى الري، ومرّ في طريقه بهمدان سمع بها من الفضل بن الفضل بن العبّاس الكندي وأجازه(50)، ومن القاسم بن محمّد بن أحمد بن عبدويه الزاهد السراج الهمداني(51).

وفي سنة (367 هـ) توجّه لزيارة المشهد الرضوي ثانياً، حيث أملى المجلس الخامس والعشرين من أماليه في يوم الجمعة (13) ذي الحجة من تلك السنة، وعاد إلى الري في سنة (378 هـ) حيث أملى المجلس السابع والعشرين في يوم الجمعة غرة المحرم سنة (368 هـ) بها.

وفي شهر رجب توجّه لزيارة المشهد الرضوي ثالثاً، ومرّ في طريقه بنيسابور فأملى عدة مجالس من أماليه، منها في دار الشريف أبي محمّد يحيى بن محمّد العلوي الأفطسي المعروف بشيخ العترة وسيّد السادة، المجلس التاسع والثمانين في يوم الأحد غرة شعبان من تلك السنة.

وأملى بنيسابور عدة من مجالسه، آخرها ما أملاه يوم الجمعة (12) شعبان، وهو المجلس الثالث والتسعون، وسافر إلى طوس لزيارة المشهد، فكان بها يوم الثلاثاء (17) شعبان حيث أملى المجلس الرابع والتسعين، وهكذا بقي في المشهد الرضوي حتّى ختم أماليه بالمجلس (97) يوم الخميس 19 شعبان من سنة (368 هـ).

وتوجّه إلى بلاد ما وراء النهر، فدخل بلخ وسمع بها جماعة من شيوخ الحديث، منهم الحسين بن محمّد الأشناني، وعبيدالله بن أحمد الفقيه وقد أجازه، وطاهر بن محمّد بن يونس بن حيوة الفقيه، ومحمّد بن سعيد بن عزيز السمرقندي وغيرهم.

وورد سرخس، فسمع محمّد بن أحمد بن تميم السرخسي الفقيه، كما دخل سمرقند وسمع بها عبد الصمد بن عبد الشهيد، وعبدوس بن عليّ الجرجاني، ووصل إلى إيلاق ـ وهي كورة تتاخم كور الشاش وهما من أعمال سمرقند ـ فأقام بها، وسمع الحديث من محمّد بن الحسن بن إبراهيم الكرخي الكاتب، ومحمّد بن عمرو بن عليّ بن عبيدالله البصري.

وفي مدّة إقامته بها اجتمع بالشريف أبي عبدالله محمّد بن الحسن العلوي المعروف بنعمة، وسمع كلّ منهما من الآخر، ووقف الشريف المذكور على أكثر مصنّفات الصدوق الّتي كانت معه فنسخها، كما سمع منه أكثرها، ورواها عنه كلّها، وكانت مائتي كتاب وخمسة وأربعين كتاباً(52).

ودخل فرغانة، وسمع بها من محمّد بن جعفر البندار الشافعي، وإسماعيل بن منصور بن أحمد القصار، وتميم بن عبدالله بن تميم القرشي وغيرهم.

وهكذا نرى المؤلّف وهو في سن الشيخوخة ـ إذ قد تجاوز الستين ـ لا يزال يطوي المسافات الشاسعة في طلب الحديث وسماعه وإسماعه، ومعه من مصنّفاته (245) كتاباً.

وأكبر الظنّ أ نّه لم يسافر بعد سفره إلى ديار ما وراء النهر في سنة (368 هـ) حتّى توفى سنة (381 هـ) بالري، إذ لم نعثر على ما يشير إلى ذلك، ولا شك أ نّه كان في اُخريات أيّامه بالري، حيث أقام بها بعد أن قطع المسافات الشاسعة، وطاف كثيراً من البلدان النائية في سبيل سماع الحديث وإسماعه.

لم يتلهف لماضي تمنّى رجوعه، كما لم يتوجّع لحادث يخشى وقوعه، بالرغم من تقدّم سنه في الشيخوخة، ومضافاً إلى مكانته الإجتماعية، وصلاته الوثيقة برجال الحكم في الري، فانّه لو أراد أن ينعم بظلال الحياة الوارق كغيره من القابعين في بيوتهم; لكان ذلك من أيسر ما يروم، لكنّه العالم الّذي عرف لذة العلم، فهو لا يأنس إلاّ بكتابه، ولا يطربه إلاّ صرير قلمه، ولا يرى الكرامة والسعادة إلاّ بين المحابر والدفاتر.

فلا غرابة إذا ما أنتج عقله النتاج القيّم، وأثمر علمه الكثير الطيب، فهو في نحو سبعة عقود ونصف من أعوام الحياة الّتي عاشها، غذّى المكتبة الإسلامية في فنون العلم والآداب نحواً من ثلاثمائة مصنّف(53)، وقيل أكثر من ذلك.

وقد ذكر سماحة سيّدي الوالد دام ظلّه في رسالته «حياة الشيخ الصدوق» تفصيل أسماء آثاره مع الإشارة إلى ما وصلت إلينا نسخته، وهو يبلغ العشر بالنسبة إلى ما حفظ اسمه واندثر رسمه، ومجموعها (220) كتاباً ورسالة، أمّا ما بقي فقد استأثر به التاريخ، فلم يسمح حتّى باسمه.

وقد ذكرت في مقدّمة كتاب التوحيد تفصيل آثاره الباقية مع الإشارة إلى المخطوط والمطبوع منها، وأنّ فيها وفيما بقي من أسماء كتبه الاُخرى، الّتي سجلها أصحاب الفهارس وما لم يسجّلوها، لدلالة على جودة البضاعة ووفور الرصيد العلمي; حتّى تفجّرت تلك العقلية عن مئات من المصنّفات في فنون الآداب والعلوم الإسلامية.

فألّف في التفسير، والفقه، والحديث، والكلام، والعقائد، والتاريخ، والرجال، والأخلاق، والآداب الشرعية، والدعاء، والزيارات، سوى ما كتبه في أجوبة المسائل الواردة إليه من سائر البلاد الإسلامية كمصر، وبغداد، والكوفة، والبصرة، وواسط، والمدائن، ونيسابور، وقزوين، أو ما كتبه في جواب مسائل شخصية; كجوابه إلى أبي محمّد الفارسي في شهر رمضان وغيره.

 

ثواب الأعمال ـ عقاب الأعمال:

لقد تفنّن العلماء في معالجة النفوس واصلاحها بشتى وسائل التهذيب، واتخذ كلّ فريق سبيلا يؤدّي منه رسالته، ويدعو فيها إلى ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان التأليف من السبل الناجحة الّتي تؤدّي إلى الغاية مع طول الزمن، ما دام للكتاب أثر بين الناس.

وكان شيخنا الصدوق(رحمه الله) ممّن اختار سبيل التأليف فأكثر فيه، وامتاز بكثرة مؤلّفاته، وقد حالفه التوفيق في قسم منها احتفظت الأيام بنسخته.

فما من كتاب من كتبه تلك إلاّ وقد تلقّاه الناس بالقبول، وتداولوا نسخته إقبالا عليه، ولعلّ في روحية المؤلّف واخلاصه في التأليف سر ذلك القبول وهذا الإقبال.

وها نحن اليوم على أبواب كتابين من كتبه هما كتاب: (ثواب الأعمال) وكتاب: (عقاب الأعمال) ويعدان من نفائس كتب الترغيب والترهيب، ألّفهما شيخنا الصدوق(رحمه الله) على نحو النهج الّذي سلكه غير واحد من العلماء، جرياً وراء التأثير على القلوب، واجتهاداً في امتلاك الوجدان وصيد العواطف; لتصحيح سلوك الإنسان واصلاحه، وتوجيهه نحو الخير، والانحياش به عن الرذائل والمعاصي، واقتراف الآثام والجرائم.

وهذا اللون من التأليف ـ أعني موضوع الترغيب والترهيب ـ نجده عند جميع المسلمين مقبولا، وقد أكثر العلماء من التأليف فيه.

فخصّ بعضهم تأليفه بالترغيب فقط، فكتب في ثواب الأعمال مثلا كتاباً خاصاً، وجعل ذلك اسم كتابه، وقد عثرت على أسماء اثنى عشر كتاباً في ذلك، هي على النحو التالي:

1 ـ ثواب الأعمال لأبي جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، من أصحاب الإمامين الجواد والهادي(عليهما السلام)، وهو أحد كتبه المحاسن.

2 ـ ثواب الأعمال لأبي جعفر محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، من أصحاب الإمام الجواد(عليه السلام)، رواه عنه سعد بن عبدالله الحميري المتوفى حدود سنة (300 هـ)(54).

3 ـ ثواب الأعمال لأبي الفضل سلمة بن الخطّاب البراوستاني الأزدوقاني ـ نسبة إلى قرية من سواد الري ـ رواه عنه سعد بن عبدالله الحميري الآنف الذكر، وأحمد بن إدريس (ت 306 هـ)، ومحمّد بن الحسن الصفّار وغيرهم(55).

4 ـ ثواب الأعمال لأبي عبدالله محمّد بن حسان الرازي الزيدي ـ الزبني ـ رواه عنه أحمد بن إدريس (ت 306 هـ) الآنف الذكر(56).

5 ـ ثواب الأعمال لأبي محمّد جعفر بن سليمان القمي، رواه عنه محمّد بن الحسن بن الوليد (ت 343 هـ)(57).

6 ـ ثواب الأعمال لأبي حاتم محمّد بن حبان البستي (ت 354 هـ)(58).

7 ـ ثواب الأعمال لأبي الحسن عليّ بن أحمد بن الحسين الطبري الآملي، رواه عنه النجاشي بواسطتين(59).

8 ـ ثواب الأعمال لأبي أحمد محمّد بن عليّ بن محمّد الكرجي القصاب(60).

9 ـ ثواب الأعمال لابن أبي حاتم الحنظلي الرازي صاحب الجرح والتعديل(61).

10 ـ ثواب الأعمال لأبي عبدالله الحسين بن عليّ بن سفيان البزوفري، رواه عنه ابن الغضائري (ت 411 هـ) والشيخ المفيد (ت 413 هـ)(62).

11 ـ ثواب الأعمال لأبي العباس الناطقي (ت 446 هـ)(63).

12 ـ ثواب الأعمال لأبي جعفر الصدوق، وهو الكتاب الأوّل من هذين الكتابين، ولم تصل نسخة من تلك الكتب العشرة إلاّ من الأوّل والأخير، وكلاهما مطبوعان مكرراً.

ومن هؤلاء العلماء من اختار جانب الترهيب أيضاً، فخصّه بتأليف خاص فألّف في عقاب الأعمال، كما صنع أبو جعفر البرقي، وأبو الفضل سلمة بن الخطّاب، وأبو عبدالله محمّد بن حسان الرازي، والقصاب، وشيخنا الصدوق رحمهم الله جميعاً.

وكلّهم ممّن سبق له تأليف في ثواب الأعمال كما أشرنا آنفاً، ولم تصل إلينا من كتب عقاب الأعمال إلاّ كتاب البرقي وكتاب الصدوق، وهو ثاني كتابينا اللذين نقدم لهما.

ومن العلماء من خصّ تأليفه بجانب من الترهيب فقط فتفنّن في ذلك، كما صنع الحافظ الذهبي الّذي ألّف كتاباً جمع فيه الموبقات وسمّاه (الكبائر)(64) وقد أنهاها إلى سبعين، وشرح كلّ واحدة منها.

وتبعه ابن حجر في ذلك فألّف كتابه «الزواجر عن اقتراف الكبائر»(65)، وزاد على ما ذكره الذهبي فأنهى الكبائر إلى (467) كبيرة.

وثمة كتب اُخرى خصّت بثواب الأعمال أو بعقاب بعض الأعمال كثيرة، يجد القارئ أسماءها مبثوثة في كتب المعاجم والفهرسة.

 

تقييم الكتابين معاً:

لمّا كانت مادّة الكتابين معاً مجموعة من أحاديث رواها الشيخ الصدوق(رحمه الله)بأسانيده المنتهية إلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى الأئمة(عليهم السلام)، وقد ضمّ الكتاب الأوّل منهما ما يناهز الثمانمائة حديث، كلّها مسندة إلاّ أربعة أحاديث مرسلة، وضمّ الثاني منهما ما يناهز الثلاثمائة وخمسين حديثاً مسنداً إلاّ خمسة منها مرسلة.

فلابدّ في تقييمها أوّلا من ملاحظة رجال السند ووزنهم بميزان الجرح والتعديل، وبعد ذلك ملاحظة المتون، وهذا هو المقياس في اعتبار كتب الحديث عند تقييمها.

ونحن إذا ألقينا نظرة على أحاديث الكتابين، نجدها لا تسلم جميعها عند التمحيص، شأنها في ذلك شأن سائر كتب الترغيب والترهيب، الّتي كان سبيل مؤلّفيها على اختلاف مذاهبهم وأزمانهم، هو الجمع بين الأحاديث الّتي تؤلّف غرضهم المقصود، وتؤدي إلى ترغيب الناس في الخير، أو ترهيبهم في الشرّ، وهو الهدف المنشود.

فتراهم جمعوا بين ما قوي متنه وصحّ سنده، وبين ما هزل متنه وسقم سنده، وبين ما كان مقبول المتن دون السند، أو مردود الدلالة مقبول السند، وجلّها أخبار آحاد.

وعذرهم في هذا النوع من التساهل والتوسع في سرد الأخبار على النهج الّذي أشرنا إليه، هو اعتمادهم على قاعدة التسامح في أدلّة السنن.

ومعناها عدم اشتراط ما ذكر من الشروط للعمل بأخبار الآحاد من الإسلام والعدالة والضبط في الروايات الدالة على السنن فعلا وتركاً(66).

فصار هذا المعنى مجمعاً عليه بين الفريقين(67)، وانّ أخبار الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم(68).

وقد ورد عن الإمام أحمد بن حنبل، وشيخه عبدالرحمن بن مهدي وعبدالله بن المبارك قالوا: إذا روينا في الحلال والحرام شدّدنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا(69).

وللعلماء في الاستناد إلى القاعدة المذكورة ـ وبالأحرى في تأسيسها ـ أدلّة عقلية ونقلية يمكن تلخيصها بما يلي:

1 ـ انّ الإقدام على محتمل المنفعة ومأمون المضرة عنوان لا ريب في حسنه، ولا فرق عند العقل بينه وبين الاحتراز عن محتمل الضرر.

2 ـ الأخبار الواردة بعنوان من بلغه عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) شيء من الثواب فعمله كان ذلك له، وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقله، لكشف العمل عن الانقياد والطاعة للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)(70).

3 ـ الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة، بل الاتفاق المحقق، ومهما نوقشت تلك الأدلّة فقد اُجيب عن المناقشات بما لا مجال لذكره، وقد كتب في الموضوع عدة بحوث ورسائل، لعلّ أوفاها ما كتبه الشيخ مرتضى الأنصاري(قدس سره)، وقد طبعت رسالته في الموضوع ضمن أوثق الوسائل(71).

وبناءاً على جميع ذلك فقد اعتمد الكتابين كلّ من تأخّر من أصحاب الجوامع الحديثية، كالشيخ الحر العاملي في الوسائل، والمجلسي في بحار الأنوار، والمحدِّث النوري في المستدرك، سوى غيرهم ممّن اعتمدهما وأخرج عنهما في مؤلّفه، لأنّ جلّ ما جاء فيهما ممّا كان مقبول المتن والسند معاً.

فكلّ منهما بجملته نافع مفيد في بابه، فهو سلوة الحائر الجازع، ومصلح الخاثر المائع، فيه ترقيق القلب القاسي، وتزهيد عن فضول الحطام، وزجر عن المعاصي والآثام، تسكن إليه النفوس عند اضطرابها، وتجد فيه هديها وصوابها.

وبعد، فكلّ منهما أثر نفيس في بابه.

ونظراً لتقارب موضوعيهما على رغم التضاد بين اسميهما، فقد جمعا في جل ما وجد من نسخهما المخطوطة، كما انّهما طبعا معاً مكرراً، فصارا وكأ نّهما كتاب واحد.

ففي سنة (1298 ـ 1299 هـ) طبعا بايران في تبريز طبعة حجرية في 109 ـ 52 صفحة.

وفي سنة (1312 هـ) طبع ثواب الأعمال طبعة حجرية في ايران.

وفي سنة (1375 هـ) طبعا في طهران طبعة حروفية في (294) صفحة.

وفي سنة (1962 م) طبعا في بغداد طبعة حروفية في (270) صفحة.

وهذه طبعة المكتبة الحيدرية، وقد قام مشكوراً فضيلة السيّد أحمد الاشكوري سلّمه الله بمقابلة الأصل قبل الطبع على نسخة خطية بمكتبة (آية الله الحكيم العامة في النجف) برقم 846، وتاريخ نسخ الكتاب الأوّل (ثواب الأعمال) سنة (1027 هـ)، وتاريخ نسخ الكتاب الثاني (عقاب الأعمال) سنة (1028 هـ)، وهي بقلم محمّد خليفة الجزائري مولداً والسمناني مسكناً، وسجل في الهامش بعض ما وجده من فروق وتفاوت، فجزاه الله خيراً.

كما أسأل المولى جلّ اسمه أن يثيب الناشر الأخ الشيخ محمّد كاظم الكتبي سلّمه الله على عمله، ويوفّقه لنشر الآثار الصالحة والكتب النافعة، وأن يتقبّل منّا هذه الخدمة اليسيرة، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم، انّه سميع مجيب.

محمّد مهدي السيّد حسن

الموسوي الخرسان

(1) من لا يحضره الفقيه 1: 23، 75.

(2) خاتمة المستدرك للنوري 5: 472.

(3) بشارة المصطفى: 150 الطبعة الثانية، المطبعة الحيدرية.

(4) معاني الأخبار: 408.

(5) كذا في رسالة التنويه نقلا عن الذهبي، وفيها أيضاً عن المعلمي أ نّه أحمد بن عليّ بن الحسين بن بابويه.

(6) ورد في لسان الميزان 4: 283 أ نّه أوّل ما سمع الحديث في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وله إحدى عشرة سنة، وهو من سهو القلم من ابن حجر إذ سبق منه ذكر ولادة ابن شاهين في سنة (297) ومعلوم أ نّه لمّا سمع وله إحدى عشرة سنة، فيكون الصواب سنة ثمان وثلاثمائة، لا كما ذكر فلاحظ.

(7) الاعلام للقطبي: 75 ـ 76.

(8) ذكر القصة ابن كثير في تاريخه في حوادث سنة (317 هـ) ولم يسم عليّ بن بابويه، بل قال: وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف فلما قضى طوافه أخذته السيوف، فلما وجب أنشد وهو كذلك، ثمّ ذكر البيت.

ومن الغريب أنّ الشيخ الطريحي ذكر في مجمع البحرين (قرمط) نقلا عن الشيخ البهائي أنّ الحادثة كانت سنة (310 هـ) وهو غير صحيح، فانّ دخول القرامطة إلى مكّة كان في سنة (317 هـ) كما في تاريخ الكامل لابن الأثير، والبداية والنهاية لابن كثير وغيرهما، وورد ذكرها في حوادث سنة (316 هـ) في كتاب صلة تاريخ الطبري، فراجع.

(9) ذهب المرحوم الدكتور مصطفى جواد في هامش إكمال الإكمال: 17، إلى أنّ عليّ بن الحسين بن بابويه المذكور هو والد الصدوق المتوفى سنة (328) ولمّا تفطن إلى أنّ بين وفاة ابن بابويه الّذي عينه وبين وفاة أبي المجد القزويني الراوي عنه سماعاً (294) سنة وتمحل في تفسير قوله (بسماعه منه) فقال: يعني بسماع الجزء عنه عن جماعة من الشيوخ، وهذا إجتهاد من الدكتور في مقابل النص، على أ نّه لم يذكر بين مؤلّفات والد الصدوق كتاب إسمه (الأربعين) فراجع فهرستي النجاشي والطوسي وغيرهما.

(10) تاج العروس 2: 268، طبع سنة (1286 هـ).

(11) لؤلؤة البحرين للبحراني: 384.

(12) المناقب لابن شهرآشوب 3: 527.

(13) مجالس المؤمنين للقاضي المرعشي 1: 453.

(14) الروضات للخونساري: 377.

(15) خاتمة المستدرك للنوري 3: 527.

(16) رجال النجاشي: 184.

(17) في إكمال الدين: 467، والغيبة للطوسي: 201، انّه محمّد بن عليّ الأسود.

(18) الغيبة للطوسي: 201.

(19) رجال النجاشي: 261.

(20) إكمال الدين: 467 طبع الحيدرية سنة 1389.

(21) غيبة الطوسي: 201.

(22) عقيدة الشيعة: 284.

(23) المنجد: 56.

(24) تعليقة على كتاب توفيق التطبيق لمحمّد مصطفى حلمي: 168.

(25) في نفس المصدر: 262، تجد خبر منابذته للحلاّج حين دخل قم، واخراج أبي الحسن بن بابويه له من مجلسه حين أتاه في (سرايه) محله التجاري فأمر غلمانه بأن يجروا برجله ويدفعوا بقفاه، فما رؤي بقم بعد ذلك.

(26) الفهرست لابن النديم: 277.

(27) إنّما خصصت هذين الكتابين بالذكر دون باقي كتبه، لأ نّي كنت نظمت فهرستاً خاصاً بأسماء شيوخه في الحديث لبيان مواضع رواياته عنهم في سائر كتبه، وابتدأت يومئذ بكتابيه المعاني والأمالي، ولم تسنح الفرصة باستيعاب باقي آثاره، نسأل المولى التوفيق لإكمال ذلك إن شاء الله.

(28) راجع مقدّمة كتاب التوحيد: 15 ـ 25.

(29) عيون الأخبار باب 22 حديث 5، والخصال 1: 12 طبع الحيدرية بتقديمنا سنة (1391)، ومعاني الأخبار باب معنى ثياب القسي.

(30) الأمالي: 206 طبع الحيدرية بتقديمنا.

(31) لاحظ إكمال الدين: 2 ـ 3 طبع الحيدرية بتقديمنا.

(32) عيون الأخبار باب 69 في ذيل الحديث الثاني من الباب، تجد كلام الأمير البويهي مع المؤلّف، فراجع.

(33) عيون الأخبار باب 59 حديث 2.

(34) نفس المصدر باب 8 حديث 5.

(35) التوحيد: 40 طبع الحيدرية بتقديمنا.

(36) عيون الأخبار باب 2 حديث 1.

(37) معاني الأخبار باب معاني أسماء محمّد وعليّ وفاطمة والأئمة(عليهم السلام) حديث 4.

(38) التوحيد: 307.

(39) المصدر السابق: 6.

(40) رجال النجاشي: 276، طبع بمبئي، وفيه أ نّه ورد بغداد سنة (355)، فلعلّ ذلك بعدؤ
حجّه في سنة (354)، ولم أقف على من صرّح بدخوله في سنة (355) في غيره، وفي سماعاته بهمدان تصريح بأ نّها بعد حجّه في سنة (354).

(41) عيون الأخبار باب 6 حديث 29.

(42) إكمال الدين: 469، 507.

(43) عيون الأخبار باب 11 حديث 26.

(44) نفس المصدر باب 25 حديث 2.

(45) نفس المصدر باب 26 حديث 22.

(46) مقدّمة من لا يحضره الفقيه: 19.

(47) من لا يحضره الفقيه 4: 261.

(48) مقدّمة من لا يحضره الفقيه: 19.

(49) من لا يحضره الفقيه 3: 56.

(50) التوحيد: 40، طبع الحيدرية.

(51) الخصال 1: 102، طبع الحيدرية.

(52) من لا يحضره الفقيه 1: 3.

(53) فهرست الطوسي: 135، ومعالم العلماء: 111 وراجع بشأنها مقدّمة الفقيه: 34 ـ 60.

(54) الذريعة 5: 18 وايضاح المكنون 1: 347.

(55) الذريعة 5: 18 وايضاح المكنون 1: 347.

(56) الذريعة 5: 18 وايضاح المكنون 1: 348.

(57) الذريعة 5: 17.

(58) كشف الظنون 1: 525.

(59) الذريعة 5: 18.

(60) تذكرة الحفاظ 3:938.

(61) طبقات الصوفية للسلمي: 138 هامش.

(62) الذريعة 5: 17.

(63) كشف الظنون 1: 525.

(64) مطبوع بالقاهرة سنة 1356.

(65) مطبوع بالقاهرة سنة 1356 في جزئين.

(66) أوثق الوسائل: 299، رسالة التسامح في أدلّة السنن للشيخ مرتضى الأنصاري(قدس سره).

(67) عدة الداعي لابن فهد الحلي: 13، آخر المقدّمة.

(68) الذكرى للشهيد: 68، أحكام الميّت، في التلقين.

(69) تدريب الراوي للسيوطي: 196، الطبعة الاُولى سنة 1379 هـ.

(70) المحاسن للبرقي 1: 25 كتاب (ثواب الأعمال).

(71) أوثق الوسائل: 299 ـ 307.