علي بن أبي طالب : بطل الملحمة الإسلامية الأولى

{ الدكتور زكي المحاسني }

لا أزال أتمثل علياً بن أبي طالب صغيراً ابن عشر سنين حين أقبل على النبي صلوات الله الرحمن عليه مسلماً لكأني كنت أراه مؤتزراً مشمراً وهو منحسر الرأس ضاحية يدلف إلى مجالس أبيه وقد ازدحمت عليها قريش تسأله خبر فتاه محمّد بن عبد الله ما شأنه وما هذا الذي ابتدره في الدعوة إلى أمر يسمى الإسلام وكان فيمن مثل إلى أبي طالب يسأله عن أمر هذا الفتى القريشي الذي جاهر بهذه الدعوة العنيفة التي خشي الكبراء أن تزلزل بهم ما كانوا عليه من مجتمع ودين، مثل عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ومعهما أبو سفيان محرك، الفتن يومذاك واسمه صخر وفيه صفات الصلابة التي في الصخور وغيرهم نفر هائجون صاخبون فإذا هم يبتدرونه:

ـ يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل أبناءنا، فإما أن تكفه عنّا وإما أن تخلي بيننا وبينه.

فتبسم في وجوه وفد الثورة القريشية على الرسول عليه صلوات الله وصرفهم بسياسة وسلام وكان يمارس حرباً في نفسه داخلية، فهو لم يلم بعد بما ورد عن ابن أخيه فيما جاء به من هذه الشرعة الحديثة وهو إلى ذلك مشفق منه ويخشى عليه ما يخشى على ولده وقد شب في حجره فكان كأحد أبنائه.

وأتت وفود الثورة إلى أبي طالب تناهده في أمر ابن أخيه الذي لم يرجع عنه وإنّما مضى في ازدياد وصلابة وإيمان ينشر دينه ويدعو إليه فقال له قائلهم المتكلم باسمهم وهو محتسب في مجلسه مقطب الجبين سادر في التفكير، يا أبا طالب إن لك شأناً وشرفاً ومنزلة فينا وإنّا قد استنهيناك من ابن أخيك لم تنهه عنّا وإنّا والله لا نصر على هذا حتى يهلك أحد الفريقين.

وحين انصرفوا عظم الخطب على أبي طالب فلم يطلب نفساً بخذلان ابن أخيه لقد أحببت في تصوير المجلس الذي كان يحتبي في بهرته أبو طالب زعيم قريش وكبيرها وموضع ثقاتها وبيانها الأول على ما كان يشهده علي بن أبي طالب ابن عم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ورضي عنه ابن عمه.

كان يقتعد على غرارة صباه مكانا بجانب أبيه فيدير راسه في وجوه أولئك المحتجبين والصاخبين الذين كان يقاتلهم أبوه بطول البال والأناة والابتسام ليصرفهم بسلام فجمع إلى خلائقه السياسة والكياسة.

فاختمر في وجدان ذلك الصبي المتطلع إلى الآفاق الآتية من حياة الإسلام والجهاد وصفاء الإيمان التوق إلى هذا الرسول الذي نهض في ابن عمه.

وكان أهل الرسول وأبناء عمومته ومن لف لفهم من أهلية منبهرين عجبين برسالته ودهشين لمفاجأتها فذكرت وأنا أحلك من وراء العصور وأخلاقهم وسجاياهم إذا قيسوا على أخلاق المعاصرين بأن الحسد إنما ينبع بين الأقارب أول ما ينبع وبين المتجاورين والمتشابهين ومرّ في خاطري قول قاله الأديب الفرنسي جان كوكتو عضو الأكاديمية الفرنسية وكان شاعراً وناثراً كما كان خطيباً وممثلاً فلقد تعددت مواهبه وكانت جميعها لا تملأ أعين أهليه فلم يكن أحد من أقربائه يعترف له بالنبوغ فقاله قولته المشهورة: (لاحظّ لموهوب في أسرته).

وفيم لا أدعو إلى صاحبي على العمر أبي الطيب المتنبي فلقد كان يقول:

 
ما مقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهود
***
أنا في أمة تداركها الله
غريب كصالح في ثمود

وكان أبو طالب شاعراً رهيف الحسن طلق اللسان ذا بيان معهود في قوله وله شعر يحفظونه فكان علي ابنه يستمع إلى هذا الشعر وهو صبي فيسلك في سمعه وينساب إلى خاطرة ويولد موهبة الشعر المبكرة عنده.

انطلق بنا إلى أبي طالب فلنخفف عنه من حياته آخذ من بينه وأنت تأخذ من بينه من يشاء.

وانطلقا وقدما على الشيخ الوقور أبي طالب وهو ملفلف بعباءته التي توشك أن تنخرق فقالا تلك المقالة الإنسانية في حمل العبء عنه، فأخذ الرسول عليه السلام علياً فضمه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمه إليه فكان أن أسلم علي إسلاماً مبكراً وهو صبي ابن عشر سنين فأخذ الرسول يربيه ويعلم أمور الدين ويزرع في فؤاده واتسع لهذا الدين المبين.

وجاءهما يوماً أبو طالب وهما يلعبان فقال لابنه علي بعد أن انفتل من صلاته.

- أي بني ما هذا الدين الذي أنت عليه.

- فقال الفتى وهو يتألق نوراً لأبيه الشيخ الوقور:

- يا أبت آمنت بالله وبرسوله، وصدقت ما جاء به وصليت معه واتبعته.

يومذاك قال أبو طالب كلمته التاريخية الرائعة ـ للرسول صلوات الله عليه ـ التي كانت عنوان الذمم في ديننا الإسلام ومثال الدفاع في عالم الأسرة:

والله لا يخلص أحد إليك بشيء تكرهه ما بقيت حياً.

ولعل التاريخ لم يفصل القول كيف كان الرسول يرتب علينا في البطولة والفروسية واللعب بالسيف وركوب الخيل فإن علياً ظهر في حروبه وجهاده كأروع بطل في المناجيل فكان يجيد التمرّس بأظهر الخيل وهي مرخاة الأزمة وكان مصمم الضربة لا تخيب طعنته ولا ينبو سيفه وكان شجاعاً إذا برز في العراك شق الصفوف وشتت الفرسان ولم يخسر مبارزة.

وهذه حرب بدر الكبرى تشهد ببطولته حين شمر الحارث فقتله علي بن أبي طالب وبرز في المعمعة عتيبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وأبنه الوليد فأخذت أتصور هذا البطل المغوار الذي كان دعامة قريش في حربها ببدر للقاء جيش الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولست أشك في أنه كان لابساً لامة مضاعفة تصل به أزرارها وسلاسلها كلما تحرك وعلى جواده درع سابقة وخوذته على رأسه بين منها عيناه فيما يغطي منها وجهه.

فبرز إليه ثغر لم يملؤه عينيه فصرخ:

ـ يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.

ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

ـ قم يا علي..

ـ فنهض بطل الملحمة الإسلامية الأولى علي بن أبي طالب فهز سيفه القرضاب وقد اسلم العلم لمن يليه وتبارزا وتخالفا ضربات حتى تمكن غلب من مقاتل عتبة فقتله وقتل ابن الوليد.

وتزاحف المتجالدون فكان علي يشق الصفوف بحسامه وينبري كالصاعقة حتى كانت له البطولة الأولى في معرفة بدر الكبرى.

وقد صورت هذه البطولة في النشيد الخاص به في الملحمة العربية، فلقد ضم البيان إلى الحسام والورع إلى الفروسية والتقوى إلى المقام العزيز فليت البطاح التي تواري جسده الطاهر فيها تملك الخطاب أو الكتاب إذن لهتفت فيه سجين الليالي تقول:

 
علي يا دفعي على كل هالك
ضممتك في قلبي بليل الحوالك
***
إذا لمعت شمس الضحى خلت أنها
سيوفك لما أشرقت في المعارك