وظيفة الراعي ومسؤولياته : وثيقتان من الأدب الإسلامي السياسي

{ الدكتور محمّد خلف الله أحمد }

أوضح الإسلام طبيعة العلاقة بين الراعي والرعية، ووضّح الأسس الثابتة لدولة ديموقراطية روحية، تمتزج فيها الفكرة الديموقراطية الكاملة بالروح الديني، وتقوم فلسفتها على أساس الاعتقاد بوحدانية الخالق وبكرامة بني الإنسان والمساواة بينهم في الحقوق والواجبات.

ويشهد لعناية الإسلام بهذا الجانب من حياة المجتمع وفرة الأدب الإسلامي التوجيهي في السياسة والحكم والإدارة والقضاء وجباية الخراج والصدقات وقيادة الجيوش وشؤون الحرب والسلم وما إليها.

وفي سنة 1941 نشر الباحث الهندي محمّد حميد الله الحيدر آبادي في القاهرة كتاباً بعنوان: (مجموعة الوثائق السياسة) يضم العهود التي عقدها الرسول (صلوات الله عليه) وتوجيهاته لرسله إلى مختلف الجماعات الإسلامية ورسائله إلى رؤساء القبائل العربية وعظماء الممالك الأجنبية المجاورة من فرس وروم وغريهما، كما يضم طائفة من وثائق عصر الخلفاء الراشدين.

وهناك طائفة كبيرة من أمثال هذه الوثائق في الأدب الإسلامي في مختلف عصوره وهي جديرة بالدراسة والتأمل، لما فيها من العرض البليغ لروح الإسلام وتاليمه ولما تمثله من مناهج التطبيق العلمي للأصول العامة التي وضعها القرآن وأكدتها السنة السياسة المجتمع والقيام على شؤونه.

ومن الوثائق الهامة في هذا الأدب الإسلامي السياسي عهدان مشهوران في تاريخ الإدارة الإسلامية.

أولهما: ما كتب به الإمام علي رضي الله عنه إلى مالك بن الحارث الأشتر النخعي، حين أرسله والياً على مصر، وهو ارد بنصه في كتاب (نهج البلاغة) الذي جمعه السيد المرتضى من كلام سيدنا الإمام علي كرم الله وجهه، وقد تنبه الشيخ محمّد عبده شارح الكتاب إلى أهمية الجانب السياسي في أدب الإمام علي فأشار إليه إشارة خاصة في خطبته ونبه مديري المدارس إلى ما فيه من الكلام في أصول المدنية وقواعد العدالة وبيان حقوق الرعية.

والوثيقة الثانية يوردها ابن خلدون في مقدمته في الفصل الذي عقده للكلام على أن العمر البشري لابد له من سياسة ينتظم بها أمره، ويقول في تقديمه لها: 

(ومن أحسن ما كتب في ذلك وأودع كتاب (طاهر بن الحسين) لابنه عبد الله لما ولَّاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما، فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور، عهد إليه فيه ووصاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الآداب الدينية والخفية والسياسة الشرعية والملوكية وحثه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم بما لا يستغني عنه ملك ولا سوقة.

وبعد أو يورد ابن خلدون النص بتمامه يقول:

(وحَدَّث الإخباريون أن هذا الكتاب لما ظهر وشاع أمره أعجب به الناس واتصل بالمأمون فلما قرأ عليه قال: ما ابقى أبو الطيب ـ يعني طاهراً ـ شيئاً من أمور الدنيا والدين والتدبير والراي والسياسة وصلاح الملك والرعية وحفظ السلطان وطاعة الخفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه وأوصى به ثم أمر بالمأمون فكتب به إلى جميع العمال في النواحي ليقتدوا به ويعملوا بما فيه ثم يقول ابن خلدون: هذا أحسن ما وقفت عليه في هذه السياسة والله أعلم).

تتشابه هاتان الوثيقتان في موضعهما فكلتاهما عهد وجه إلى وال على عمالة كبيرة من عمالات الدولة الإسلامية، وكلتاهما تحاول أن ترسم ـ في شيء من التفصيل ـ منهجاً للوالي في سلوكه الشخصي ونظامه في الإدارة والحكم واختياره لأعوانه وصلاته بطوائف الرعية، وكلتاهما تؤلف نموذجاً واضح الطويل في أدب التوجيه السياسي إذ تتألف كل منهما من أكثر من ألفين ومائتي كلمة، وكلتاهما تمثل صورة من صور البلاغة في كتابة الرسائل في العصر الذهبي للأدب العربي.

1- ومنشئ الرسالة الأولى سيدنا الإمام علي أحد الخلفاء الراشدين وابن عم الرسالة (صلوات الله عليه) وزوج ابنته، وأحد كتّاب وحيه، ورفيقه في الكفاح والنضال، شبّ في حجر الدعوة، فثقف اسرارها وأهدافها، وروي من معينها الصافي منذ صباهن وشهد مع الرسول مواقع الإسلام الأولى، وأبلى فيها البلاء الخالد وكان نموذجاً في بلاغته كما كان علماً في بطولته.

حدد الخليفة في مستهل هذه الرسالة معالم المهمة التي عهد بها إلى واليِّه الجديد على مصر فقال:

(بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها، أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به  في كتابه من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد غلا باتباعها ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها.. وأمره أن يكسر نفسه عند الشهوات، ويزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله..).

ثم يأخذ الخليفة في تفصيل ما أجمل، بادئاً من ذلك برسم الخطوط الرئيسة لشخصية الوالي المسلم وسلوكه وصلاته بالناس، يقول الإمام لواليه ما خلاصته: أملك هواك وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً يغتنم أكلهم فإنهم صنفان: إمام أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدري لك بنقمته.. وإياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته فإنه يذل كل جبار، وأنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك.. وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الخلق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية.. وإنّما عماد الدين ـ وجماع المسلمين والعدة للأعداء ـ العامة من الأمة، فليكن صفوك لهم وميلك معهم، وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمصايب الناس..

وأطلق من الناس عقدة كل حقد، ولا تعجلن إلى تصديق ساع، فإن الساعي غاش، وإن تشبّه بالناصحين، ولا تدخلن في شورتك بخيلاً ولا جباناً حريصاً.. وإن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام، فلا يكونن بك بطانة وليكن آثر أعوانك أقولهم بمر الحق لك..

وألصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم على ألا يطروك ولا يتبجحوك باطل لم تفعله ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء وأعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن المؤونات عنهم، ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدر هذه الأمة، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنة.. وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلاك.

بهذا يحدد الإمام صفات الوالي النموذجي في شخصه وما يجب أن يكون عليه موقفه من الرعية عامة، والصفات التي ينبغي أن يتطلبها في أعوانه ومستشاريه والإمام يصوغ هذا التحديد في أسلوبه البلاغي المؤثر، ذوي الفقر المحكمة والفواصل المتوازنة، مؤيداً كل توجيه، بإيراد سره وحكمته من طبائع النفوس وظواهر الاجتماع.

2- ثم ينتقل الإمام إلى المقطع الرئيسي الثاني من رسالته وهو الخاص ببيان الفئات التي يتالف منها المجتمع وحق كل منها من عناية الوالي ورعايته فيقول:

واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، منها: جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكُلّا قد سمى الله سهمه، ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وآله عهداً عندنا كان محفوظاً.

ويستمر الإمام فيفصّل ما أجمل في هذا التقسيم، مبرراً مكان كل فئة من هذه الفئات في حياة المجتمع وما به صلاحها، وموضحهاً ما أشار إليه من تكاملها مبيناً المزالق التي يمكن أن تنحرف إليها أي واحدة منها إذا أسيئت معالجة شؤونها أو هضمت حقوقها أو اختير لقيادتها من لا يصلح لها، أو أحست باختلال ميزان العدالة فيها.

والخليفة في تصويره لأحوال هذه الفئات يصدر عن بصيرة نافذة في أحوال النفس، وفي علاقات الجماعات، وتعرضها للصلاح والفساد، فهو في توجيهه للوالي في أمر القضاء يقول: (ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور وتمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر عن الفيء إلا الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى  فهم دون أقصاه، أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج إلى أن يقول: ثم أكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس).

فإذا ما جاء إلى شؤون التجار وذوي الصناعات أوصاه بهم خيراً، وعرفه نفعهم وخدمتهم للمجتمع ثم حذره من انحراف بعضهم فقال:

(واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشُحاً قبيحاً واحتكاراً للنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فإن رسول الله صلى الله عليه وآله منع منه، وليكن البيع سمحاً بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاقب في غير اسراف.

ويوجه الإمام عناية خاصة إلى الفئة المحدودة الموارد أو العاجزة عن الكسب فيقول في توجيهاته للوالي: (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البوسي والزمني، فان في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، واحفظ الله ما ستحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلاة موافي الإسلام في كل بلد فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وكل قد استرعيت حقه..

فلا تشخص همك عنهم، وتصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم.. ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليدفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالأعذار إلى الله يوم تلقاه، فان هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن وأجمل لذوي الحاجات منك قسماً، تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك مكلمهم غير متتعتع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير مواطن: لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع).

3- والقسم الثالث الرئيسي من رسالة الإمام إلى عامله يتناول أموراً عامة تعين العامل على النجاح: منها أن يحرص على إصدار حاجات الناس يوم ورودها، وأن يمضي لكل يوم عمله فإن كل يوم ما فيه، وأن يجعل لنفسه فيما بينه وبين الله أفضل تلك المواقيت وإن كانت كلها لله إذا صلحت النية وسلمت الرعية، وألا يطيلن احتجابه عن الرعية فان احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور، وأن يحول بين بطانته وخاصته وبين ما نحرفون إليه من استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة، وأن يصحر للرعية بعذره أن ظنوا به حيفا، والا يدفعن صلحاً دعاه إليه عدوه ولله فيه رضا، وأن يحذر ـ مع ذلك ـ كل الحذر من عدوه بعد صلحه، وأن يحوط عهده بالوفاء ويرعى ذمته بالأمانة، وأن يبرئ نفسه من الإعجاب بها ومن حب الإطراب وأن يتحاشى المن على الرعية بالإحسان والعجلة بالأمور قبل أوانها، والتسقط فيها عند إمكانه واللجاجة فيها إذا تنكرت، والوهن عنها إذا استوضحت.

ثم يختم الإمام رسالته إلى عامله بالدعاء فيقول:

(وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء مع العباد، وجميل  الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة. إنا إليه راغبون).

4- هذه الرسالة البليغة الجامعة التي تترجم روح التعاليم الإسلامية في الحكم والإدارة إلى خطة توجيهية عملية ليست الوحيدة من نوعها في أدب الإمام علي، ولا في توجيهات أصحابه وسابقيه من الخلفاء الراشدين وهي كلها تنبع من المعين الأول الذي فجرته آيات القرآن الكريم وسنة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ـ من مثل قوله تعالى:

" إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ "(النساء: 58).

وقوله:"يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ" (المائدة: 8).

وقوله: "يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ "(ص: 26).

وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).

وقوله: (من ولى من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح المسلمين منه فقد خان الله ورسوله).

وتمتاز رسالة الإمام بين رسائل الخلفاء في تلك المرحلة بطولها وتفصيلها، وقد نبه السيد المرتضى جامع (نهج البلاغة) إلى أنها من بين كتب الإمام وعهوده أطولها وأجملها للمحاسن، ويبدو أن هذه الكتب تمثل ـ من ناحية ـ جانباً هاماً من أدب الإمام، وتمثل من ناحية أخرى علماً أصيلاً وفهماً عميقاً متكاملاً لمسؤولية الراعي في رعيته، فكلها تفيض بوجوب الحدب على الرعية والاحترام لمشاعرهم، واجتلاب مودتهم، والرفق بهم في أموالهم وتحذير الولاة من التقصير في المسؤولية فإنهم (خزان الرعية) ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة.. وإن أعظم الخيانة خيانة الأمة، وأفضع الغش غش الأئمة

والإمام حريص على أن يفتح عيون ولاته على الصغيرة والكبيرة من شؤون الحكم وصلات الحاكم بين الناس، بلغه مرة أن عامله على البصرة (عثمان بن حنيف الأنصاري) دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها فكتب إليه يقول:

(أما بعد يابن حنيف: فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان، وما ظننت انك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه  فالفظه، وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه).

وقد نهج الإمام نهج أصحابه الخلافء الراشدين من قبله في خطبه وعيه بمسؤوليته نحو الله والناس في حكم المسلمين، وإدراكه لما يجب أن تكون عليه الصلة بين الراعي والرعية يقول في خطبة خطبها بـ (صفين).

(ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض فجعلها تتكافأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضاً، وأعظم ما افترضه سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الراعي.. فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل فجعلها نظاماً لألفتهم، وعزاً لدينهم فليس تصلح الرعية إلا صلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية..).

وقد أجابه رجل من أصحابه بكلام طويل، يكثر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته له فقال الإمام رضي الله عنه:

(فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني مما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أو يعرض عليه، كان العمل بهما أثل عليه فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا أمن من ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني، فإنما  أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا غيره، يملك منا ما لا نملك من أنفسنا..).

أما الوثيقة الثانية التي اخترنا أن نعرضها فتجيء متأخرة عن وثيقة الإمام بقرنين من الزمان، ومنشؤها لم يكن خليفة ولا أميراً  للمؤمنين، ولكن قائداً وكاتباً ومؤسس أسرة من الوزراء والولادة فارسية النسب عربية الولاء، لعبت دوراً كبيراً في الحكم والإرادة في العصر العباس الأول، وامتد نفوذها قرابة ثلثي قرن، في تلك المرحلة التي بلغت فيها الحضارة الإسلامية ـ أو كادت ـ ذروة اتساعها السياسي والثقافي العمراني، هذه الرسالة المطولة التي تشترك مع رسالة الإمام في الموضوع وفي كثير من الخصائص الأدبية والسياسية ـ حتى ليغلب على الظن أن منشئها حذا فيها حذو الإمام في رسالته ـ كتبها (طاهر بن الحسين) ـ رأس الأسرة الطاهرية لابنه (عبد الله) لما ولاه المأمون الرقة ومصر، وهي ـ كرسالة للإمام ـ تبدأ بحض الوالي على تقوى الله وبيان مسؤوليته في رعاية أهل ولايته والعدل فيهم فتقول:

(بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عزوجل، ومزايلة سخطه، وحفظ رعيتك في الليل والنهار، والزم ما البسك الله من العافية بالذكر لمعادك وما أنت سائر إليها وموقوف عليه، ومسؤول عنه، والعمل في ذلك كله بما يعصمك من الله عز وجل وينجيك يوم القيامة من عقابه واليم عذابه، فإن الله سبحانه قد أحسن إليك وأوجب الرأفة عليهم بمن استرعاك أمرهم من عباده والزم العدل فيهم. والقيام بحقه وحدوده عليهم، والذب عنهم، والدفاع عن حريمهم وبيضتهم، والحقن لدمائهم والأمن لسربهم، وإدخال الراحلة عليهم، ومؤاخذتك بما فرض عليك وموقفك عليه وسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت).

ثم تعدد الرسالة الصفات والفضائل التي يجب أن يكون عليها الوالي في شخصه وفي سلوكه: فعليه أن يلزم نفسه المواظبة على ما  فرض الله عزوجل من الصلوات الخمس والجماعة عليها بالناس، والأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمثابرة على خلائقه، واقتفاء اثر السلف الصالح من بعده، والاقتصاد في الأمور كلها والاستكثار من البر والسعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته وإيثار الفقه وأهله والدين وجملته، وكتاب الله عز وجل والعاملين به، والإكثار من مشاورة الفقهاء والأخذ من أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة.

وتجئ بعد هذه صفات أخرى أدخل في عمل الوالي أكثر التصاقاً بالناس، يقول طاهر بن الحسين لابنه:

(ولا تتهمن أحداً من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره، فإن إيقاع التهم بالبراءة والظنون السيئة بهم آثم إثم.. ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك ان تستعمل المسألة والبحث عن أمورك..).

ويقول له: (وأسألك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقه الأهدى وأقم حدود الله تعالى في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه.. وإذا عاهدت عهداً فأوف به، وإذا وعدت الخير فأنجزه، وأقبل الحسنة وادفع بها، واغمض عينيك عن كل ذي عتب من رعيتك، وأشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وابغض أهل النميمة وأحبب أهل الصلاح والصدق.. واجتنب سوء الأهواء والجور، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك، وإياك أن تقول، أنا مسلط أفعل ما أشاء، فإن ذلك سريع على نقص الرأي وقلة اليقين بالله عزوجل.. ولا تحقرن ذنباً، ولا تمالئن حاسداً ولا ترحمن فاجراً، ولا تصلن كفوراً، ولا تحقرن إنساناً، ولا تردن سائلاً فقيراً، ولا تغمض عن ظالم رهبة نمه أو محاباة..).

5- وينصح له في شأن الأموال وإنفاقها والخراج وجبايته وتوزيعه فيقول:

(واعلم أن الأموال إذا اكتنزت وادخرت في الخزائن لا تنمون وإذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف الأذى عنهم، نمت وزكت وصلحت بها العامة.. فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله.. وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزاً ورفعة، ولأهله توسعة ومنعة، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم، ولا تدفعن شيئاً منه عن شريف لشرفه، ولا عن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا من أحد من خاصتك ولا حاشيتك، ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له، واحمل الناس كلهم على أمر الحق فإن ذلك أجمع لألفتهم، وألزم لرضاء العامة، واعلم أنك جعلت بولايتك خازناً وحافظاً وراعياً وإنّما سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم وقيمهم، فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم، ونفذه في قوام أمرهم وصلاحهم، وتقويم أودهم، واستعمل عليهم أولي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعلم والعدل بالسياسة والعفاف..).

وتعالج الرسالة ـ كما عالجت رسالة الإمام ـ شؤون بعض الفئات التي تقوم على مرافق عامة في حياة المجتمع كالجند والقضاة والكتب وغيرهم.

فأما الجند: فعلى الوالي أن يتفقدهم في دواوينهم وأن يدير عليهم أرزاقهم، ويوسع عليهم في معايشهم كي يقوى أمرهم وتزيد قلوبهم في طاعة الوالي وأمره خلاصاً وانشراحاً.

وأما القضاء: فهو من الله تعالى بالمكان الذي ليس فوقه شيء من الأمور لأنه ميزان الله الذي تعدل عليه أحوال الناس في الأرض وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرعية وتؤمن السبل، وينتصف المظلوم، وتأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤدي حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة ويقيم الدين، ويجري السنن والشرائع في مجاريها..).

وتتنازل الرسالة ناحي متفرقة من النصح والتوجيه في صلة الوالي بعماله، وفي رعاية المرضى والفئات غير القادرة من الشعب، وفي صلة الوالي بالجمهور، فتنصح للوالي أن يجعل في كل (كورة) من عمله أميناً يخبره خبر عماله، ويكتب إليه بسيرهم وأعمالهم، وأن يعرف ما يجمع عماله من الأموال وما ينفقون منها وأن يوقت لكل رجل من عماله وكتابه بحضرته في كل يوم وقتاً يدخل فيه بكتبه ومؤامراته وما عنده من حوائج العمال وأمور الدولة والرعية: ثم ينصح له أن يفرغ من عمل يومه ولا يؤخره لعده، وأن يكثر الأذن للناس عليه ويريهم وجهه، ويسكن لهم حواسه ويخفض لهم جناحه، ويظهر لهم بشره ويلين لهم في المسألة والنطق، وأن يفرد نفسه بالنظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليه، وأن يعاهد ذوي البأساء واليتامى والأرامل وأن يجري للأضراء من بيت المال، وأن ينصب لمرضى المسلمين دوراً تأويهم وقواماً يرفقون بهم وأطباء يعالجون أسقامهم.

ثم يختم طاهر بن الحسين عهده إلى ولده بقوله:

(وتفهم كتابي إليك وأمعن النظر فيه والعمل به، واستعن بالله في جميع أمورك واستخره، فإن الله عز وجل مع الصلاح وأهله، وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله عز وجل رضى ولدينه نظاماً ولأهله عزاً وتمكيناً وللملة والذمة عدلاً وصلاحاً.

6- خاتمة:

إن هذه الدراسة التحليلية لوثيقتين هامتين من الأدب الإسلامي في سياسة الرعية قد كشفت عن اتجاه اسلامي عام في سياسة الرعية يقوم على رعاية العباد بتقوى الله وخشيته وعلى وجوب تحلي الوالي في نفسه بالصفات التي دعا إليها الإسلام من الصلاح والتواضع لله والصدق في المعاملة ومراعاة العدالة التامة بين جميع الفئات التي يتألف منها المجتمع وتوجيه مزيد من الرعاية للفئات غير القادرة على الكسب وإنفاق الأموال العامة في عمارة البلاد واستصلاح العباد.

هذا الربط بين عمل الولاة في سياسة الرعية وبين توحيد الله وعبادته والمحافظة على حدوده جزء من زاهرة عامة واضحة هي ظاهرة التكامل المعجز الذي يتسم به النظام الإسلامي في عقيدته وعباداته ومعاملاته واجتماعه وسياسته وأخلاقه، وهو تكامل لم يتح مثله لأي نظام آخر في تاريخ البشرية وإلى هذا التكامل يرجع كثير من أسرار النجاح الذي حققته الحضارة الإسلامية في عصورها الذهبية والذي يمكن أن تحققه في تاريخها الحديث إذا حافظت على مقوماتها وسماتها الأصلية.

وقد أكدت هذه الدراسة التحليلية ما كشفت عنه البحوث الحديثة من السبق الذي تفرد به الحضارة الإسلامية في تقرير حقود الأفراد والجماعات، وإرساء قواعد العدالة الاجتماعية والتنبيه إلى مسؤولية الحكام والولاة والرعاة فيما يحملون من أمانة الولاية على الرعية والنيابة عنها في توجيه شؤونها العامة، والسير فيها بالعدل والقسطاس.

كما أكدت نتائج الدراسات التي قام بها السابقون من العلماء المسلمين في سياسة الراعي والرعية، وقد اشتهر من بين هؤلاء القاضي أبو الحسن الماوردي المتوفى سنة 420 هـ صاحب (الأحكام السلطانية والولايات الدينية) و(أدب الدنيا والدين) وغيرهما ويقرر المؤلف في كتبه أن صلاح الحياة الإنسانية وانتظام شؤونها يقوم على ستة أركان رئيسية تتفرع عنها بقية أبوابها وهي: (دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح).

فأما الدين المتتبع: فإنه يصرف النفوس عن شهواتها، إذ يصير زاجراً للضمائر، رقيباً على النفوس، وأما السلطان: فوجوده ضروري لنظام العمران، ووظيفته في الأمة حماية الوطن من أعدائه، وعمارة البدان، والتصرف في الأموال العامة على مقتضى السنة المشروعة، والقضاء على المظالم، والأحكام بالتسوية بين أهلها واختيار الولاة والعمال من أهل الكفاءة والأمانة، وأما العدل الشامل فإنه يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطاعة، وتعمر به البلاد، وتنمى الأموال ويأمن السلطان، والعدل عدلان: عدل الإنسان في نفسه، ثم عدله في غيره، وأما الأمن: فبه تطمئن النفوس ويأنس الضعيف، ويقر الخائف، وأما الخصب: فإنه يقوي رابطة الود والتواصل، وأما الأمل الفسيح: فهو نعمة ن الله، تدفع على العمل والتعمير والإصلاح، إذ لولا الأمل ما تجاوز الواحد حاجة يومه، ولا تعدى ضرورة وقته.

وإذا كان هذا البحث قد اقتصر على تحليل وثيقتين من الأدب الإسلامي في سياسة الرعية فإن التراث الإسلامي حافل بأمثالها من العهود والرسائل، ومن الملحوظ أن هذه النصوص والوثائق لا تنص على شكل معين من أشكال الحكم والولاية، لكنها شأن التعاليم الإسلامية في تقريرها للأصول الكبرى لشؤون الاجتماع الإنساني ـ تعطي فلسفة وروحاً ودليلاً مرشداً يبقى على توالي الأيام مصدراً مضيئاً ينير معالم الطريق، ويفيد منه كل من يتولى أمراً من أمور المجتمع الإسلامي، سواء أكان ذلك المتولي فرداً أم هيئة أو مجلساً، وسواء أكانت ولايته عامة على الرعية أم خاصة بإقليم منها أم محددة بقطاع من قطاعاتها.

وفي ختام هذا البحث نوصي بما يلي:

1- أن يعطي هذا الجانب من الأدب الإسلامي مكاناً في مناهج تربية القادة ومن يعدون لتولي الشؤون العامة والإشراف عليها في حياة الأمة ككليات القانون والشرطة ومعاهد الإدارة وتخريج القادة والكليات الحربية وما إليها ن المؤسسات.

2- وأن يجمع ما تفرق من نصوص هذا الأدب في كتب التراث الإسلامي في مجموعة أو مجموعات تضم توجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية وعهود الخلفاء للولاة والوزراء والعمال والقضاة والقواد ومن إليهم، ونماذج من سير الحكام الصالحين وأحاديثهم وخطبهم في القديم والحديث، على أن تنشر تلك المجموعات في طبعات ميسرة للشعب تشارك في تكوين الذوق الأدبي والضمير الأخلاقي لشباب الأمة.

3- وأن يقوم بعض المعاصرين من الباحثين الإسلاميين بدراسة هذه النصوص في ضوء التطور السياسي الحديث دراسة مقارنة تكشف عن الصلة الوثيقة بين ما تضمنته من تعاليم وما يحاول كفاحنا العربي والإسلامي في العصر الحاضر إنجازه من تحقيق الكرامة والمعيشة المطمئنة والفرص المتكافئة والعدالة الاجتماعية والحرية السياسية والاعتقادية والفكرية لجميع المواطنين وبذلك يتم الربط بين ماضينا وحاضرنا، وتكسب فلسفتنا الحديثة من هذا الربط تزكية وأصالة.

4- وأن تختار مجموعة من هذه الوثائق السياسية الإسلامية بترتيبها التاريخي إلى وقتنا الحاضر وتترجم إلى مختلف لغات الأمم الإسلامية كالأردية والأندونيسية والتركية والفارسية وإلى بعض اللغات الكبرى كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية والأسبانية وغيرها لتقوم دليلاً ماثلاً على أصالة ثقافتنا وقيمنا وشاهداً مصدقاً على السبق الذي تفرد به الحضارة الإسلامية في مضمار التطور السياسي والأخلاقي إذ وضعت اسس الديموقراطية الصالحة، ودعمتها بروح الإيمان والعقيدة ووضعتها موضع التطبيق الفعلي في سياسة الرعية، وقررت من مبادئ العدل والشورى والمساواة ما تحاول البشرية الآن جاهدة أن تصل إلى تقريره عن طريق جهودها وكفاحها وثوراتها وهيئاتها الدولية.