حكم علي (ع) اتحاد للعدل والحرية
المعروف أن علياً ولي الحكم وهو له كاره، فالثابت أن الجماهير الثائرة اتجهت من مصرع عثمان إلى علي تحمله حملاً على البيعة، وتسوقه سوقاً إلى خلافة لم يجد عنها معدى، ولا دونها متحول، ومن المحفوظ الشائع أنه قال لحامليه على الحكم: أنا وزيراً خير لكم من أميراً.
أني لأبحث هذا الموقف ذاته، ولكني أشير إلى أنه غير محتاج إلى سبر عميق حي يبرز في إطار من محركاته وأهدافه، على التحام شديد بسلوك علي وتفكيره، والواقع أن إلمامه يسيرة، بنفسية علي وحركة التاريخ في تلك المرحلة تظهر التقاءها في هذا الموقف المعتبر نتيجة لتفاعلهما متوافقين ومتخالفين سواء بسواء، الموقف من ناحية ارتباطه بعلي سلوك منهجي يلخص روحاً، مواقفه السابقة واللاحقة جميعاً على اختلافها، وهو من حيث ارتباطه بالواقع التاريخي متأثراً بالانتكاسة العثمانية ناظر إلى نتائجها، فكما كان الزهد بالحكم كبرياء وإخلاصاً ونصحاً، كان اعترافاً بعمق الفساد وصعوبة إصلاحه إذا لم يكن ممتنعاً، مضافاً إلى ما فيه من الالتزام بالحق والإلتزام بالحجة.
ومهما يكن من أمر فقد برزت المصالح الخاصة المستفحلة تتعاون، على تناقضها في وجه حكمه الأفضل، وتصعد المد الإسلامي المتجدد به عن الجرين فامتحن في أول يوم من عهده بردة فئة الناكثين كما يسميها التاريخ الإسلامي([1]) ومؤامرة الأمويين وحزبهم الذي عرفهم التاريخ الإسلامي باسم (القاسطين) ـ الظلمة ـ والذين انبثق من موقفهم الجائر تيار (المارقين) أو (الخوارج) الأمر الذي شغل عهده الأحمر كله بنضال داخلي يستنفد طاقته تطهير الدولة من الفتن المحمولة الهابة تشتد في محاربة النظام الإسلامي ذاته بمهاجمته في درعه ومهندسه علي، عالمة أن التغلب على ذاك لا يتم قبل إزاحة هذا.
ينتج مما تقدم أن الهدنة بين علي وخصومه لم تكن ممكنة غلا بغلبة أحد الفريقين، لأن التناقض الصراعي بينهما كان نابعاً من تناقض المبادئ والعقليات والفلسفات، وكما لم يكن ممكناً أن يتنازل خصومه عن بقائهم بأسباب من ثروات ونفوذ بلغوها في ظل عثمان، كذلك لم يكن ممكناً أن يتنكر هو لمبادئه التي تنكر من أجلها لنفسه ومنافعه الخاصة: ولو صانع استدراجاً للاستيلاء كما أشار عليه بعض الوصوليين من ساسة (الوسائل) في أيامه لكان ـ إذن ـ حاكماً آخر غير علي.
وما شككنا في شيء فلا شك بأن الجهات المتظافرة عليه إنّما تضافرت على مقاومة المثل الممتزجة به امتزاجاً يدخلها في تركيبة، ويحركها في سلوكه حركة عضو أو وظيفة، ولعل أعظم ما ناوأوا به من تلك المثل العدل والحرية، ولقد كان هو كبيراً كالحرية والعدل لهذا ما انحنى ولا صانع.
وإذا كان الرأي الأصوب يقيس النصر بغير مظاهره من وقائع المعركة، فان العدل والحرية أسهما بفشله في الميدان القصير ـ كما يقال ـ وإذا لم أكن بسبيل من تعريف الحرية والعدل، وشرح مفهوميها، فلأعرض أمثله منهما في سلوك علي عرضاً يوضحهما أكثر من إيضاحهما بالشرح مشيراً إلى أن التاريخ البشري كله لم يعرف حاكماً كعلي هو العدل والحرية.
يقول اليعقوبي في تاريخه:
(شذ عن بيعة أمير المؤمنين بنو أمية، فتآمر مروان بن الحكم وسعيد بن العاص والوليد بن عقبة([2]) على أن يساوموا علياً فلا يبايعوه إلا بشروط أن أقرها بايعوه، وإلا فارقوه إلى معاوية).
وفي شرح النهج أن طلحة والزبير انظما إلى العصبة الأموية دفاعاً عن إثرائهما غير المشروع في العهد العثماني، وأن خبر المؤامرة أنهى إلى علي، وأنه أجاب بأنه يعرف موقف القوم وقال: (أن بقيت وسلمت لأحملنهم على المحجة البيضاء).
ولا يختلف المؤرخون بأن الحملة على بيعة علي بدأت بهذا الحادث، وهم متفقون على أن القوم وكلوا الوليد بن عقبة أن يكون لسانهم، فيقدح الشرارة، واتفقوا على تحريك مشكلة كان لها في تأخيره عن الحكم بعد النبي شأن، ونعني مشكلة صرعى الحق بسيفه، أو ما سمي (ولوغاً في دماء العرب) وقد رجوا أن يحدث التلويح بهذه المشكلة تأثيراً نفسياً يخضعه لشروطهم، فإن كان نقياً ن العقدة كان التلويح بها عذراً لخروجهم عليه، وما اختاروا الوليد لقيادة هذه الحملة إلا لكونه من صلبه قال النبي فيهم: لهم النار في جواب أبيهم عقبة وهو يستعطفه أن يعفو عنه، وقد نفذ حكم الإعدام به (علي).
وحين جلس لهم علي انطلق الوليد من زاوية حزبية قاعدتها (الثأر) ووسيلتها المساومة، فألف كلامه من توطئة ذكر فيها فعل ذي الفقار برقبة أبيه ورقاب الكبار من قريش، وتحقيره مروان وآل الحكم([3]) ومن موضوع طرح فيه البيعة كما يطرح مشكلة وعالجها من وجهة نظرهم بشروط خاصة إن لم تتحقق كانوا في حل من البيعة، ثم ختم كلامه فهدد بالانضمام إلى معاوية.
وفي الجواب ميز علي وجوه الموقف وأعاد كلا منه إلى أصله، فقال في الجواب عن عقدة التوطئة:
أ- أما ما ذكرت من وتري إياكم، معتبراً نفسه في موقف القصاص ـ كما هو الحق ـ منفذاً للإسلام الذي هو شخص الواتر المعنوي، إن كان هناك وتر.
ب- ثم حل مشكلة الموضوع المطروحة بإبطال شروطها فقال:
1- وأما وضعي عنكم ما اصبتموه فليس لي أن أضع حق الله.
2- وأما إعفائي عما أيديكم فما كان لله والمسلمين فالعدل فيه يسعكم.3- وأما قتلي قتلة عثمان، فلو لزمني قتلهم للزمني قتالهم غدا، ولكن لكم أن حملكم على كتاب الله وسنة نبيه، فمن ضاق عليه الحق فالباطل عنه أضيق.
ج- وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم.
يثير هذا الموقف الحاسم مشكلات سياسية وحقوقية ابتنى عليها الصراع مدة حكم علي كلها، وتوجه بعد حكم علي متحركاً بها في خطيه الكبيرين هذين خلال سيره التاريخي في جملة المعارك والثورات الإسلامية، وقد عني علي نفسه بإيضاحها ورفع شبهاتها عناية يعرفها دارسو الرسائل المتبادلة بينه وبين معاوية بعد هذا الموقف، وسلوكه في جهاد الفئات المتآلية عليه من عائشة وصاحبيها إلى الخوارج، فقد كان في هذه الجبهات جميعاً لا يبدأ القتال، ولا يستحيل السبي ولا المال، إذ كان يحترم في المحاربين أصلي (التوحيد) والنبوة) ولا يعاملهم إلا معاملته للعصاة الخارجين على الأمين، فإن خلدوا إلى السكينة لم يضق بشيء من معارضتهم على ما في بعضها من صلف ووقاحة، ولم يضيق عليهم في شيء من رزقهم أو نشاطهم، موسعاً لهم ما شاؤوا شرط أن لا يتجاوزوا الحدود العامة المحمية بالقوانين.
وقد عرض عدد من العلماء لا يحصى لمشكلات الموقف المبحوث فناقشوها وشرحوها، وأغنوا بها الفكر البشري في مضامير السلوك وأصول القضاء والحكم، وأنا إذ أجمل الإشارة إلى خطورة هذه المشكلات لا أهتم في صددي هذا بها ذاتها، وإنّما اهتم بالموقف نفسه لصراحته بديموقراطية علي ـ إن استقام التعبير وهي ما تحول بيانه هذه السطور.
والواقع أن العدل والحرية يمتزجان في هذا الموقف امتزاجاً يبرز خصائصهما من وجه، ويظهر جوهر العظمة في شخصية علي الحاكم من وجه آخر، فنحن نراهما يشتبكان من موقف علي في واقع يجسد أمام عيوننا مفهوميهما النظريين متعاونين يتمم أحدهما الآخر في إطار من وحدة النظام الأساسي، حتى ليدخل أحدهما في تركيب الآخر يدعمه ويحدده ويؤكد لنا أن العدل في الحاكم دون حرية إنّما هو الاستبداد وان الحرية دون عدل إنّما هي الفوضى وأن تحقيق أحدهما دون الآخر مع المحافظة على سلامتها ممتنع.
وإذا راينا على هذا النحو في موقف علي ظهر لنا ما يكبره في ذاته، ويفضله على غيره من حكام وزعماء اختلف توازن العدل والحرية في أيديهم أو أنفسهم.
لو كان تحقيق العدل دون حرية ممكناً لما خير الوليد وأصحابه بقوله: (وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم) كما سمعت، ولكان حبسهم أو ضيق عليهم حتى يحاكم ثراءهم غير المشروع، ويحقق فيه أمر العدل، ولكنه كان يرى العنف مناخاً لا يلائم العدل، فإذا أقامه فيه اختنق وظهر للناس قناعه لا وجهه الحقيقي، ظهر بدل العدل وجه لضعف يسمى حزناً، أو وجه لطغيان يسمى عدلاً.
ولعله مما يتمم فائدة البحث هو الإلماح إلى أن تساهل علي في مثل هذا الموقف إنّما هو أحد معطيات الحرية الضرورية لسلامة العدل وفق المفهوم المستفاد من قوله فيما سمعت (فمن ضاق عليه الحق فالباطل عليه أضيق) ولا مجرى ـ بناء على هذا ـ لما وهم الناس من تفسير هذا السلوك إذا رأوا هذه الرحابة قصر نظر في السياسة حينان وضعفا في الإدارة حينا، ولا أعار الواهمون أصول الحكم الصحيح بعض اهتمام لوجدوا سلوك في السياسة والإدارة التعبير الأقوى عن أصح مذاهبهما القائمة على العدل والحرية.
أنه القصور أن تتهم قوة علي في السياسة والإرادة بقصر النظر والضعف، ذلك لأنه حكم بعد ثلاثة عهود مليئة بالوقائع المماثلة لجملة من الأحداث التي امتحن بهان وهي مليئة كذلك بالاجتهادات الصالحة لتشكيل سابقات تقدم له حلولاً جاهزة لو أرادوها حلولاً تفصل بين العدل والحرية بحواجز من السياسة (الرسائلية) المعروفة، وما لا ينكر في علي أن ذكاءه عبقري فلا يتهم بسوء التطبيق، وإن ذاكرته واعيه واعية فلا يهتم بالنسيان وأنه محاط بحاشية كان بعض أفرادها يرون سياسة البطش والانتقام وما يسمى حزماً فلو ذهل ونسي لنبهوه، بالفعل ـ فإذا كان هذا كله مسلماً قادنا بيسر إلى مخطط معيّن يحركه علي في جهاز الحكم في سبيل بناء اجتماعي أفضل، وهو من أجل هذا يعطي من نفسه المثل القدوة، ويقدم لنا هنا مثل الحاكم الحكم المتحرر من كل ما هو عاطفي شخصي.
مثل حاكم يهيء من الفرص لخصومه مثل ما يهيء منها لأصدقائه دون فرق، ويسهل من الحياة ما يتسهل منها للجميع على السواء، ليس الحكم بيده أداة جلد ومصادرة، وتضييق واستعلاء، وإنّما هو ـ حق) موزع في أجهزته الحكومية يؤدي وظائفه المختلفة متعاونة على إصابة أهدافه بإيعازات ودوافع من وحداته العامة الميسرة للتطوير والإرتقاء، والحق عنده قوة خيرة رحبة لا تلجأ في مجالات التأديب إلى إرهاب يضعفها ويغير معناها، كالوليد وصحبه واستع لجدالهم ووسع فهم في نشاطهم ذاكراً دون ريب تجربة مرّ هو بها في عهد أبي بكر كانت سابقة في الحكم للأخذ بالشدة والتضييق، غير أنه لم يقلدها على فرق واضح بينه وبين الوليد، وبين الاجماع عليه وبين انتخاب أبي بكر.
بدأ حكم علي بهذا الموقف وختم بموقفه من ابن ملجم وهما موقفان متحدان بالروح اتحاد العدل والحرية فيهما، ومن الثابت أن علياً كان يعلم بخبيئة عبد الرحمن ولكن مبدأ: حرمة القصاص قبل الجريمة، وهو مبدأ حر عادل منعه من نشاط قاتله والحد من حريته دون بينة.
وبين البدء والختام هذين تسجيل الوقائع المتصلة عدداً كبيراً من الشواهد على تماسك الحرية والعدل في حكم علي.
[1]- قادها طلحة والزبير وإنّما أطلق عليهما وعلى من شاكلهما هذا الاسم لنكثهم البيعة وخروجهم عليها وقد انضما إلى أم المؤمنين عائشة وخاضا حرب الجمل بزعامتها، على أن عائشة في تصنيف الفئات المحاربة لعلي لا تدخل في ـ الناكثين ـ لأنها لم تعترف بحكم علي.
[2]- عقبة بن أبي معيط بن عمر بن أمية في الرواية الأموية، ويقول دغفل النسابة غير ذلك، وقد أمر النبي بقتل عقبة صبراً في (بدر) فقتله علي في خبر معروف.
[3]- إنّما حقره النبي، وكانت تزكيته إياه يوم ولادته قوله في الصحاح: الوزغ بن الوزغ، الملعون بن الملعون وكان أبوه الحكم جاءه به ليباركه، ونفى النبي الحكم وآله بعد ذلك إلى ـ بطن ولج ـ وظلوا هناك حتى أفرج عنهم عثمان وواضح أن الوليد يعتبر كما هو الواقع ـ علياً والنبي نفساً واحدة.