نشأة الجامعة النجفية
ان من المؤسف حقا ان يمتد الصراع بين الشيعة والسنة في بعض العصور الاسلامية من صراع فكري عقائدي الى مواجهة عسكرية مسلحة تدعمها الهمجية التي لا تعرف المبادئ والقيم ، وهذا يرجع في الحقيقة الى صلافة بعض الحكام الذين اتخذوا مناصبهم وسيلة للتسلط والحكم والاستبدادي والامساك برقاب الشعوب المسلمة، اذ انهم يعلمون مسبقا بان اسس العدل في الميزان الاسلامي القراني لا تسمح لهم ولا لامثالهم بالوصول الى تلك المناصب .
ومن اولئك الحكام : السلجوقيون الذين مثلوا دور الظلم والاستبداد في عصرهم فاثاروا الفتن بين المسلمين وفي مقدمهم " طغرلبك " الذي قاد الفتنة الطائفية الهوجاء في بغداد بنفسه وذلك في سنة 449 هجري.
" ولم تكن هذه العاصمة وليدة تلك الايام، وانما بلغت ذروتها في هذا العهد ، وخاصة عندما قطعت الخطبة للقائم العباسي ببغداد وخُطب للمستنصر الفاطمي على منابر بغداد والعراق كله، فكتب القائم بامر الله الى"طغرلبك" السلجوقي في الباطن يستنهضه الى المسير نحو العراق، وكان بنواحي خراسان ، فدخلها سنة 447 هجري". وتقوض حكم البويهيين بدخوله، وتوليه الحكم من قبل القائم العباسي.
فمنذ وروده الى بغداد اخذ يشن حملة شعواء على الشيعة، ويقسو عليهم وقد عز على هذا السفاح الاهوج ان يزدهر المذهب الجعفري ، وينتشر فقرر ان يعمل جادا في بعث التفرقة الطائفية بين المسلمين ، او في الحقيقة يؤجج لهيبها من جديد ، فالمصادر التاريخية تؤكد وقوع الحوادث الدامية بين الشيعة والسنة ، وقد استمرت من عام 441 هجري الى دخول طغرلبك 447 هجري فهي مثلا بين شدة وضعف .
حتى اذا بلغت سنة 448 هجري قال ابن تغري بردي " وفيها اقيم الاذان " في مشهد موسى بن جعفر . ومساجد الكرخ بــ " الصلاة خير من النوم " على الرغم انف الشيعة وازيل ما كانوا يقولونه في الاذان من " حي على خير العمل " .
واشتد هذا الجو المتازم بالطائفية على مرور الايام ، وانقلب الى حوادث دامية ، فقد ذكر لنا ابن الجوزي صورة من هذه الحوادث في سنة 448 هجري فيقول :
" وفي هذه السنة اقيم الاذان في المشهد بمقابر فريش ، ومشهد العقبة ومساجد الكرخ ب " الصلاة خير من النوم " وازيل ما كانوا يستعملونه في الاذان " حي على خير العمل " ودخل الى الكرخ ( وهو معقل الشيعة ) منشدو اهل السنة من باب البصرة فانشدوا الاشعار في مدح الصحابة ، وتقدم رئيس الرؤساء الى ابن النسوي بقتل ابي عبد الله الجلاب ( شيخ البزازين ) بباب الطاق لما كان يتظاهر به من الغلو في الرفض فقتل وصلب على باب دكانه " .
واذاً فالفتنة الطائفية بلغت ذروتها ، ولم يسم منها كل شيعي سكن بغداد وكان نصيب الشيخ الطوسي منها كبيرا باعتباره الشخصية الشيعية الاولى ، وعلمهم المبرز ، فقد " كبست دار ابي جعفر الطوسي ( وبصفه ابن الجوزي ب ( متتكلم الشيعة ) . بالكرخ . واخذ ما وجد من دفاتره ، وكرسيا كان يجلس عليه للكلام ، واخرج الى الكرخ ، واضيف اليه ثلاث سناجق بيض – وهو اللواء - ، كان الزوار من اهل الكرخ قديا يحملونها معهم ، اذا قصدوا زيارة الكوفة ، فاحرق الجميع . وهرب ابو جعفر الطوسي ، ونهبت داره ...".
اما ابن حجر العقلاني : فيوضح السبب الذي دعا الى هذا الهجوم المعاكس على شيخ الطائفة بعد ان كان معززا مكرما ، بحيث يبلغ الامر به ان تحرق كتبه ، وتنهب داره، ويحدث ما حدث ، ويقول : " قال ابن النجار " احرقت كتب الطوسي عدة نوب بمحضر من الناس في رحبة جامع النصر ، واستتر هو خوفا على نفسه ، بسبب ما يظهر من (انتقاص السلف ) ..." .
ولعلنا وضعنا اصابعنا على الاسباب الرئيسية لهذه الحوادث الدامية من خلال ما عرضناه من نصوص تاريخية توضح لنا معالم المشكلة، والتي ذهب ضحيتها عدد كبير من المسلمين. يفعل تلك الطائفية الرعناء، والتعصب المخزي الاعمى الفظيع .
الشيخ الطوسي يهاجر الى النجف:
ومن جراء هذه الحوادث المؤلمة ، والخطر المحدق ، اختار الشيخ الطوسي – رحمه الله – النجف مقرا له ، ومركزا لحركته العلمية .
فالنجف الاشرف تمتعت بميزات خاصة فُضلت على بقية المدن العراقية ، فهي تضم مرقد امام العلم والفضيلة ، امير المؤمنين (عليه السلام)، وفيها تربة قابلة للنمو العلمي وذلك لوجود بعض الاعلام الذين سبقوا شيخنا الرائد من اتخاذ النجف مركزا لهم .
بالاضافة الى ان النجف تتكئ على الكوفة ، وهذه المدينة علوية في ذاتها وهي وان وقفت في فترة ضد ال البيت عليهم السلام ، الا انها عادت الى رشدها بعد زمان ، واصبحت موئلا للشيعة ، ومركزا للتوابين ، ومنطلقا للثورات العلوية .
واذا كان هذا الجانب متوفرا في مدينة الامام علي (عليه السلام) ، فلابد ان يكون هو المفضل لدى الشيخ الجليل ، الذي اضطرته المشاكل الطائفية ، وجوادثها الدامية الى ان يصمم على ترك بغداد .
وانتقل الى النجف الاشرف عام 449 هجري، وحط رحله فيها، ومن الطبيعي ان يظهر دور جديد في حياته العلمية. خاصة اذا لاحظنا انه عند هجرته الى مدينة النجف قد انصرف عن كثير من المشاغل، وانصرافه انصرافا كاملا الى البحث الامر الذي ساعده كل المساعدة على انجاز دوره العلمي العظيم ، الذي ارتفع به الى مستوى المؤسسين .
ودبت في النجف حركة علمية نشيطة بفضل شيخنا الرائد، وتوطدت اركانها بمرور الزمن، حتى برزت مظاهر الحياة العلمية المرتبة واضحة للعيان. وأصبحت الجامعة تضم عددا من طلاب المعرفة لا يستهان بهم، واخذت تتكاثر يوما بعد يوم".
بين حوزتين علميتين:
ولقد ذكرت كتب الرجال ان تلامذة الشيخ الطوسي بلغوا من الشيعة فقط ثلاثمائة ، اما من السنة فلا يحصى .
وهذا العدد الذي تكاد المصادر تجمع عليه نراها عند تعداد اسمائهم لا تصل بهم الى اكثر من سنة وثلاثين اسما.
ولابد ان نتساءل عن هذا العدد من الطلاب والمحصلين، هل هم من اركان حوزته العلمية في بغداد ، وقد انتقلوا معه الى النجف، او انهم نشؤوا في النجف، ونمت الحوزة العلمية بهم على عهده بالتدريج، بحيث برز فيها العنصر المشهدي– نسبة الى المشهد العلوي- .
ورجحت بعض المصادر الاصولية: ان الشيخ عند هجرته الى النجف انفصل عن حوزته التي اسسها ببغداد، وانشا في مهجره النجف حوزة جديدة. وتستند في دعواها الى عدة مبررات. نلخصها بما يلي :
اولا – ان مؤرخي هجرة الشيخ الطوسي الى النجف لم يشيروا اطلاقا الى ان تلامذة الشيخ في بغداد رافقوه ، او التحقوا به فور هجرته الى النجف .
ثانيا – ان قائمة تلامذة الشيخ التي يذكرها مؤرخوه نجد انهم لم يشيروا الى مكان التلميذ الا بالنسبة الى شخصين جاء النص على انهما تلمذا على الشيخ في النجف ، وهما الحسين بن المظفر بن علي الحمداني ، والحسن بن الحسين بن الحسن بن بابويه القمي .
ثالثا – ومما يعزز احتمال حداثة احوزة الدور الذي اداه ابن الشيخ المعروف بابي علي ، فقد تزعم الحوزة بعد ابيه . ومن المظنون انه كان في دور الطفولة او اوائل الشباب حين هجرة والده ، ذلك لانعدام تاريخ ولادته ، ووفاته ، ولكن الثابت تاريخيا انه كان حيا في سنة 515 هجري ، اي انه عاش بعد هجرة الشيخ قرابة سبعين عاما ، ويذكر عن حصيله انه كان شريكا في الدرس عند ابيه مع الحسن بن الحسين القمي ، الذي ارجح كونه من الطبقة المتاخرة ، كما يقال عنه ان اباه اجازة سنة 455 هجري ، أي قبل وفاته بخمسين سنة ، وهو يتفق مع حداثة تحصيله .
فاذا عرفنا انه خلف اباه في التدريس والزعامة العلمية لحوزة في النجف ، بالرغم من كونه من تلامذته المتاخرين في اغلب الظن استطعنا ان نقدر المستوى العلمي العام لهذه الحوزة ، ويتضاعف الاحتمال في كونها حديثة التكون .
والصورة التي تكتمل لدينا على هذا الاساس هي : ان الشيخ الطوسي بهجرته الى النجف انفصل عن حوزته الاساسية في بغداد ، وانشأ حوزة جديدة حوله في النجف ، وتفرغ في مهجره للبحث وتنمية العلم .
واذا عدنا فالقينا نظرة على هذا النص الذي يذكره المؤرخون بان تلامذة الشيخ من الشيعة بلغوا ثلاثمائة ، ومن السنة ما لا يحصى كثرة ، فمن المؤسف جدا ان هذا العدد الكبير من التلاميذ لم يصل لنا من اسمائهم الا ما يربو على الثلاثين وان الشيخ منتجب الدين بن ابويه القمي والمتوفى بعد عصر الشيخ بقليل ، لم يستطع الوقوف على اسمائهم ، فلم يذكر منهم في كتابه الفرست ، المطبوع في اخر البحار الا ستة وعشرين اسما ، وزاد عليهم العلامة السيد محمد مهدي بحر العوم في ( الفوائد الرجالية ) اربعة . فتمت عدتهم 30 ، وهؤلاء معروفون ذكرتهم مقدمات كتب الشيخ المطبوعة .
واضاف شيخنا آغا بزرك الطهراني لهذا الثبت اسماء ستة ، فاصبح العدد ستة وثلاثين ، وقال بعد ذلك : " وهؤلاء ستة وثلاثون عالما من تلاميذ الشيخ الطوسي المعروفين . " .
وان كنا لا نستطيع القطع بان هذه المجموعة من التلاميذ تمثل بحق الحوزة النجفية او البغدادية .
ولا شك ان الحوزة العلمية التي اسسها الشيخ الطوسي في النجف الاشرف كانت فتحا كبيرا ، وفي الوقت نفسه كانت نواة للجامعة العلمية التي عاشت الاجيال .
ولكنها في الوقت نفسه لم تتمكن ان ترقى الى مستوى التفاعل المبدع مع التطور الذي انجزه الشيخ الطوسي في الفكر العلمي ، وذلك لحداثة هذه الحوزة . وان كانت هذه الهجرة الى النجف قد هيات له الفرصة للقيام بدوره العلمي العظيم لما اتاحت له من تفرغ تام لهذه الناحية المهمة .
وكان لابد لهذه الحوزة الفتية ان يمر عليها زمان حتى تصل الى مستوى من التفاعل العلمي والنضج الفكري لقبول افكار الشيخ وارائه العلمية، وتواكب ابداعه بوعي وتفتح.
ومن هذا التاريخ تدخل النجف المرحلة العلمية المنتظمة، وتستمر بين شدة وضعف، فتقطع اشواطا بعيدة في مسيرتها الجامعية، وهي تسجل لمؤسسها دور القيادة والزعامة بكل تقدير وإكبار .