المؤلّف في سطور الكتاب:

يبدو من بعض مباحث الكتاب انّ الرجل وأباه كانا أشعريين في العقيدة كما في آخر الفصل الثالث عشر من النوع الأوّل من الحروف الثنائية المحضة (لن) حيث ورد في ص 151: وقال الزمخشري هي للنفي على التأبيد وقال والدي(رحمه الله):

وكأ نّما ادّعى ذلك ليبنى عليه أصل مذهب المعتزلة في قوله تعالى: (لَنْ تَرَانِي)(1) على انتفاء رؤية الله تعالى على التأبيد، وقد شنع عليه صاحب التسهيل وجماعة وأبطلوا دعواه بقوله تعالى: (وَلا يَتَمَـنَّوْنَهُ أبَداً)(2) إذ المراد نفيه في دار الدنيا لأ نّها نزلت في حقّ اليهود، فهم لا يتمنّونه هاهنا دون الآخرة لقوله تعالى: (لِـيَـقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)(3) فدلّ هذا على انّها ليست للتأبيد بل للتأكيد لأ نّها أأكد في النفي من لا، لقوله تعالى في مجرد النفي: (لا أبْرَحُ حَتَّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ)(4)وفي المبالغة والتأكيد: (فَلَنْ أبْرَحَ الأرْضَ حَتَّى يَأذَنَ لِي أبِي)(5) وتحقيق هذا الموضع وذكر أدلّة الفريقين وبيان صحة مذهب أهل السنّة أزيد من هذا موكول إلى علم الكلام، رزقنا الله وسائر المسلمين بمحمّد(عليه السلام) التلذذ بمشاهدة سبحات جماله في دار السلام(6).

وكان يقول بالشفاعة كما هو مذهب الأشعرية والشيعة والكرامية وكثير من فرق المسلمين على اختلاف بينهم في متعلقها(7) في بحث (من) حيث تقع زائدة والاختلاف في ذلك ومذهب الكوفيين جواز زيادة (من) في الايجاب وتابعهم الأخفش، واحتجوا بقوله تعالى:(إنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)(8)وقوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)(9) إذ يلزم منهما كونها (من) في الثانية زائدة وإلاّ لتناقض حكم الآيتين... الخ.

وذكر في ص 163 ما اُجيب به عن أدلّة الكوفيين فقال:

أمّا عن الأوّل فبمنع التناقض بين الآيتين، وإنّما يلزم أن لو اتحد المحكوم عليه وهو غير متحد، لأنّ المحكوم له بغفران بعض الذنوب قوم نوح(عليه السلام) لأ نّها وردت في قصته، والمحكوم له بغفران بعض الذنوب هم هذه الاُمة المحمّدية رزقنا الله وإياهم ذلك بمحمّد وآله وصحبه، ولا يبعد أن يخصهم الله سبحانه بغفران جميع الذنوب إمّا ابتداء أو بشفاعته(صلى الله عليه وآله وسلم).

كما انّه ظهر لنا معرفته بالفقه، فقد استشهد ببعض آيات الأحكام وعلّق عليها بما يوحي عن فقهه كما في ص 21 حيث ذكر موارد زيادة الباء فقال:

ومذهب ابن جني انّها ـ الباء ـ زائدة في قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ)(10) لأنّ الفعل يتعدى إلى مجرورها بنفسه، وعند غيره من الأئمّة منهم الشافعي رضي الله عنهم انّها تبعيضية، أي بعض رؤوسكم، قال ابن جني: أهل اللغة لا يعرفون هذا المعنى، وانّما يورده الفقهاء.

وقال في ص 203 (تذنيب) لمّا وردت (إلى) في بعض الجمل مانعة من دخول ما بعدها فيما قبلها كقوله تعالى: (ثمّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ)(11)(وَأيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ)(12) وفي بعضها مجوزة له، ولعدمه حكم الخليل(رحمه الله)وجماعة أنّ ما بعدها لا يدخل فيما قبلها وهو الراجح عند الجمهور، بعدم دخول الحدّ فيما قبله، و (إلى) تدل وضعاً على الانتهاء إلى حدّ الشيء وبعضهم يعكسه ويحتم الدخول فلا يخرج إلاّ بقرينة، ولهذا وجب غسل المرافق والكعبين.

وبعضهم حكم بانّها مشتركة فيهما لوجود الدخول في بعض وعدمه في آخر، وبعضهم بالتفصيل، فإن كانا متحدي الجنس دخلا وإلاّ فلا، وهذا عندي هو الحكم الخالي عن التحكم والله أعلم.

إلى أمثال ذلك ممّا يكشف عن ذوقه الفقهي واطلاعه على آراء الفقهاء وأقوالهم.

وكما عرفنا مشاركته بالفقه عرفنا معرفته بعلم المنطق، فقد ذكر في آخر الفصل السادس عشر من النوع الأوّل من الحروف الثنائية المحضة في البحث عن (هل) (فائدة لتكميل العائدة) ضمنها مبحث (المعرف) الّذي يذكره المنطقيون والمراحل الخمسة المتوالية الّتي يجتازها طالب المعرفة يطلب في بعضها العلم التصوري وفي بعضها الآخر التصديقي، ويستعمل في استفهامه الأدوات الأربع، ما، أي، هل، لم.

وقد استوفى في تلك الفائدة شرح ما تقتضيه طبيعة السؤال، وما يجب أن يكون عليه الجواب من حيث الحد والرسم، والحقيقة والماهية مع الإشارة إلى البسائط والمركبات والعوارض والموضوع والمحمول والفصل المميز والترتيب بين القضايا.

 

مذهبه النحوي:

تعددت مذاهب النحويين بعد أن كانت منحصرة في مذهبين قديمين تبعاً لمدرستيه الشهيرتين الكوفة ـ مثوى الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) واضع علم النحو ومؤسسه ـ والبصرة بلد أبي الأسود الدؤلي المشيد الأوّل لصرح ذلك العلم، فكان لمدرسة كلّ من البلدين مذهباً خاصاً يتبناه نحويّوا البلد ويدافعوا عنه بكلّ ما اُوتوا من حول وطول، شأن أصحاب سائر المذاهب الاُخرى في الانتصار لمذاهبهم.

ولمّا اختلط رجال المدرستين، نشأ مذهب ثالث عنهما عرف بمذهب البغداديين، وقد اُرسيت قواعده على نفس القواعد الاُولى للمذهبين السابقين مع التخيير بينهما واختيار الصالح منهما.

ولمّا كثرت الرحلة والوفود بين الأقطار الإسلامية، واتصل المشرق بالمغرب بتبادل العلماء في البلدان، ظهرت ثمة مذاهب جديدة كمذهب الحجازيين ومذهب المغاربة، وهكذا كلّما كثرت المدارس النحوية في البلدان تعددت المذاهب.

ومؤلّف كتابنا هذا يستعرض كثيراً تلك المذاهب، ولكنه لا يقلد أحدها ولا يجري وراء واحد معين منها، بل كان يجتهد في أحكامه فقد يوافق أحدها حيناً، ويتخلى عنه في مقام آخر، فهو حر في اختياره واجتهاده، كما يظهر كثيراً اعتزازه واعتداده بآرائه، فيلاحظ القارئ كثيراً في كتابه أمثال قوله:

وهذا القول هو الصحيح كما في ص 106.

والأصح كما في ص 127.

فتبين ممّا قررناه انّ الحقّ ما ذهب إليه الجمهور والحقّ أحق أن يتبع كما في ص 155.

وعندي ان الأولى لابتداء غاية... الخ كما في ص 159.

ولا يخفى صحة وبطلان ذلك ـ ويعني ما نقله عن الأخفش ـ على من له أدنى فطانة، ولقد كنت قبل حاكماً بانّها في هذا ونحوه غير زائدة، فلمّا طالعته ووجدته موافقاً شكرت يد الإصابة، والوجه عندي الأوّل كما في ص 164.

والأولى ـ الصحيح كما في ص 172.

والرأي عندي جوازه، كما في ص 173.

كما هو الصحيح كما في ص 180.

والصحيح عندي كما في ص 199.

وهذا عندي كما في ص 203.

والحقّ عندي كما في ص 210.

وهو الصحيح كما في ص 218.

والصحيح ما ذكرناه كما في ص 230.

والصحيح الأوّل كما في ص 233.

وهذا هو التحقيق كما في ص 247.

إلى غير ذلك ممّا يكشف عن اجتهاده وتبحره في فنه وعلو كعبه في الاحاطة وسعة الاطلاع على أقوال النحاة وغيرهم من العلماء احاطة واسعة، كما انّه كان محتاطاً في نقله لأدلّتهم، فاقرأ قوله في ص 178:

(قد اختلفت العلماء في انّها (أل) هل هي من المحضة أم من المشتركة بين الأسماء والحروف، فذهب كثير من المتقدمين منهم الرماني وابن السراج والفارسي وتابعهم جماعة من المتأخّرين منهم الأندلسي وابن الحاجب وابن مالك على انّها مشتركة، وهي في الأسماء المشتقة للوصف اسم، وانّما جعلناها في هذا النوع اسماً اعتباراً لمذهبهم، وذهب الأخفش والمازني وجماعة إلى انّها من المحضة اللازمة للحرفية، وانّها في الضارب ونحوه كما هي في الرجل ونحوه، واستدل كلّ من الفريقين بأدلّة اقتصرت منها على تقرير ما خطر بالبال حال التحرير).

هذا ما حصلت عليه من مراجعة الكتاب ثالثاً، وعلى ضوئها استطعت تقديم المؤلّف المجهول الشخصية بهذه السطور، فإن أكن قد وفقت فذلك ما نبغي، وإن أكن قد قصرت فما ذلك عن تقصير في البحث عنه رغم تعدد المناهج الّتي سلكتها في سبيل معرفته، وانا بانتظار ما تجود به أقلام الباحثين المعنيين.

والآن وقد انتهينا من الحديث عن المؤلّف نعود إلى الحديث عن نفس الكتاب، وهو كتاب فريد في اسلوبه ـ فيما أعلم ـ إذ ليس هو دراسة صوتية للحروف كما صنع الخليل وسيبويه وأبو عليّ الفارسي وابن جني وأضرابهم من أئمّة اللغة حين استعرضوا في أبحاثهم معاني الحروف حسب وضع جهازها الصوتي كالحلقي والشفوي واللساني واللهاتي، ولم يفت المؤلّف ذكر ذلك عرضاً، بل انّ كتابه دراسة لحروف المعاني الّتي تقع رابطة بين الأسماء والأفعال فتؤدي المعاني في الكلام كما أنّ بعضها يكون مشتركاً بين الحرفية والأسماء أو الأفعال.

فهو دراسة حافلة يمكن الاستفادة منها في عدّة نواحي كوصف مخارج الحروف الاحادية، ومعرفة الصفات العامة للحرف وما يعرض بعض تلك الحروف من عوارض قد تغير معناه في الاستعمال كالادغام والاعلال والقلب والإبدال والحذف ونحوها.

وقصارى القول انّه في أسلوبه علمي أدبي، تضمن خلاصة ما في زبر الماضين وأسفار التابعين وكتب المتأخّرين، قدّمها المؤلّف الّذي لا يزال مجهولا لديَّ باسلوب علمي ونهج شيق.

فحري بالقرّاء الباحثين مراجعته والتفضل بالإشارة إلى ما يزيدنا معرفة بصاحبه المجهول، والله هو الهادي إلى السبيل.

محمّدمهدي السيّد حسن الخرسان

النجف الأشرف

12 ذو الحجة الحرام سنة 1389 هـ

(1) الأعراف: 143.

(2) الجمعة: 7.

(3) الزخرف: 77.

(4) الكهف: 60.

(5) يوسف: 80 .

(6) راجع لزيادة الايضاح مقالة الأشاعرة في الرؤية في الفصل لابن حزم 3: 3، وتفسيرالفخر الرازي 4: 115 في تفسير قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ)الآية 102 من سورة الأنعام.

(7) راجع: 162 من هذا الكتاب.

(8) الزمر: 53.

(9) إبراهيم: 10.

(10) المائدة: 6.

(11) البقرة: 187.

(12) المائدة: 6.