الصفحة 424
بعضها على أنّ دعوى الإرث متأخرة، ويدلّ بعضها على أنّها متقدّمة؛ وأمّا في هذا الموضع متوقّف.

وما ذكره المرتضى من أنّ الحال تقتضي أن تكون البداية بدعوى النحل فصحيح، وأما إخفاء القبر وكتمان الموت وعدم الصلاة وكل ما ذكره المرتضى فيه، فهو الّذي يظهر ويقوى عندي، لأن الروايات به أكثر وأصحّ من غيرها، وكذلك القول في مَوجدتها وغضبها، فأمّا المنقول عن رجال أهل البيت فإنّه يختلف، فتارة وتارة، وعلى كل حال فميل أهل البيت إلى ما فيه نصرة أبيهم وبيتهم.

وقد أخلّ قاضي القضاة بلفظة حكاها عن الشيعة فلم يتكلّم عليها وهي لفظة جيدة.

قال: قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرّم مما ارتكبا منها فضلاً عن الدين، وهذا الكلام لا جواب عنه، ولقد كان التكرّم ورعاية حقّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحفظ عهده يقتضي أن تعوّض ابنته بشيء يرضيها إن لم يستنزل المسلمون عن فَدَك وتُسلم إليها تطييباً لقلبها، وقد يسوغ للإمام أن يفعل ذلك من غير مشاورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه، وقد بعد العهد الآن بيننا وبينهم، ولا نعلم حقيقة ما كان، وإلى الله ترجع الأمور(1).

____________

1- ونحن أيضاً نقول وإلى الله ترجع الاُمور, ورحم الله الشاعر العلوي القائل:


ليت شعري ما كان ضرّهما الحفظ لعهد النبيّ لو حفظاها
كان اكرام خاتم الرسُلُ الهادي البشير النذير لو أكرماها
ولو ابتيع ذلك بالثمن الغالي لما ضاع في اتباع هواها
أترى المسلمين كانوا يلومونهما في العطاء لو أعطياها
كان تحت الخضراء بنت نبيّ صادق ناطق أمين سواها


الصفحة 425
النص الثامن: قال ابن أبي الحديد(1) في شرح قوله (عليه السلام):

«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ محمّداً (صلى الله عليه وآله) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَمُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ؛ فلمَّا مَضى (صلى الله عليه وآله) تنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الأمْرَ مِنْ بَعْدِهِ؛ فَوَاللهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي، وَلاَ يَخْطُرُ بِبَالِي، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هذَا الأمْرَ مِنْ بَعْدِهِ (صلى الله عليه وآله) عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلاَ أَ نَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ، فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلاَن يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الاِْسْلاَمِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دِينِ محمّدٍ (صلى الله عليه وآله) ، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الاِْسْلاَمَ وأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عليّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَيَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلاَئِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الاَْحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ، وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ».

روى أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا مات اجتمعت أسدٌ وغطفانُ وطيئ على طُلَيْحة بن خُويلد إلاّ ما كان من خواصّ أقوام في الطوائف الثلاث، فاجتمعت أسد بسميراء، وغطفان بجنوب طيبة، وطيئ في حدود أرضهم، واجتمعت ثعلبة بن أسد ومن يليهم من قيس بالأبرق من الربذة، وتأشّب إليهم ناسُ من بني كنانة، ولم تحملهم البلاد، فافترقوا فرقتين: أقامت إحداهما بالأبرق، وسارت الأخرى إلى ذي القصة، وبعثوا وفوداً إلى أبي بكر يسألونه أن يقارّهم على إقامة الصلاة ومنع الزكاة، فعزم الله لأبي بكر على الحق، فقال: لو منعوني عِقالاً لجاهدتهم عليه.

ورجع الوفود إلى قومهم فأخبروهم بقلة من أهل المدينة، فأطمعوهم فيها، وعلم أبو بكر والمسلمون بذلك، وقال لهم أبو بكر: أيّها المسلمون، إنّ الأرض

____________

1- شرح ابن أبي الحديد 17: 151 _ 168.


الصفحة 426
كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قِلّة، وإنكم لا تدرون أليْلاً تُؤتَوْن أم نهاراً، وأدناهم منكم عَلَى بريد، وقد كان القوم يأمُلون أن نقبل منهم ونُودِعَهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا إليهم، فأعِدّوا واستَعِدّوا.

فخرج عليّ (عليه السلام) بنفسه، وكان على نَقْب من أنقاب المدينة، وخرج الزّبير وطلحة وعبدالله بن مسعود وغيرهم فكانوا على الأنقاب الثلاثة، فلم يلبثوا إلاّ قليلاً حتى طرق القومُ المدينة غارة مع الليل، وخلّفوا بعضهم بذي حُسًى ليكونوا ردءً لهم، فوافوا الأنقاب وعليها المسلمون، فأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر، فأرسل إليهم أن الزموا مكانكم، ففعلوا.

وخرج أبو بكر في جمع من أهل المدينة على النواضح، فانتشر العدوّ بين أيديهم، واتّبعهم المسلمون على النواضح حتى بلغوا ذا حُسىً، فخرج عليهم الكَمين بأنحاء(1) قد نفخوها، وجعلوا فيها الحبال ثمّ دَهْدَهوها بأرْجُلهم في وجوه الإبل، فتَدَهْده كلّ نِحْىٍ منها في طِوَله فنفرتْ إبلُ المسلمين، وهم عليها _ ولا تنفر الإبلُ من شيء نافرَها من الأنحاء _ فعاجَت بهم لا يملكونها حتى دخلت بهم المدينة، ولم يصرع منهم أحد ولم يُصب.

فبات المسلمون تلك الليلة يتهيّئون، ثمّ خرجوا على تعبية، فما طلع الفجرُ إلاّ وهم والقومُ على صعيد واحد، فلم يَسمَعوا للمسلمين حَسّاً ولا هَمْساً حتى وضعوا فيهم السيف، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذَرّ قرنُ الشمس إلاّ وَلّوا الأدبار وغلبوهم على عامة ظهرهم، ورجعوا إلى المدينة ظافرين(2).

قلت: هذا هو الحديث الّذي أشار (عليه السلام) إلى أنّه نهض فيه أيّام أبي بكر، وكأنّه جوابٌ عن قول قائل: إنّه عمل لأبي بكر، وجاهد بين يدي أبي بكر، فبيّن (عليه السلام)

____________

1- الأنحاء: جمع نحى, وهو الزقّ.

2- تاريخ الطبري 3: 244 (طبعة المعارف) مع تصرف واختصار.


الصفحة 427
عذره في ذلك، وقال: إنّه لم يكن كما ظنّه القائل، ولكنّه من باب دَفْع الضرر عن النفس وعن الدين، فإنه واجبٌ سواء كان للناس إمام أو لم يكن.

وينبغي حيث جرى ذكر أبي بكر في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) أن نذكر ما أورده قاضي القضاة في (المغني)، من المطاعن الّتي طعن بها فيه، وجواب قاضي القضاة عنها، واعتراض المرتضى في (الشافي) على قاضي القضاة، ونذكر ما عندنا في ذلك، ثمّ نذكر مطاعن أخرى لم يذكرها قاضي القضاة.

الطعن الأوّل


قال قاضي القضاة بعد أن ذكر ما طعن به فيه في أمر فَدَك، وقد سبق القول فيه.

وممّا طعن به عليه قولهم: كيف يصلُح للإمامة من يُخبر عن نفسه أنّ له شيطاناً يعتريه، ومن يحذّر الناس نفسه، ومن يقول: «أقيلوني» بعد دخوله في الإمامة، مع أنّه لا يحل للإمام أن يقول: أقيلوني البيعة.

أجاب قاضي القضاة فقال: إنّ شيخنا أبا عليّ قال: لو كان ذلك نقصاً فيه، لكان قول الله في آدم وحوّاء: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ}(1)، وقوله: {فَأزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ}(2)، وقوله: {وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلا نَبِيٍّ إلاّ إذَا تَمَنَّى ألْقَى الشَّيْطَانُ فِي اُمْنِيَّـتِهِ}(3)، يوجب النقص في الأنبياء، وإذا لم يجب ذلك فكذلك ما وصف به أبو بكر نفسه.

وإنّما أراد أنّه عند الغضب يُشفِق من المعصية ويحذر منها، ويخاف أن يكون الشيطان يعتريه في تلك الحال فيُوَسْوِس إليه، وذلك منه على طريق الزّجر

____________

1- الأعراف: 20.

2- البقرة: 36.

3- الحج: 52.


الصفحة 428
لنفسه عن المعاصي، وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه ترك مخاصمة الناس في حقوقه إشفاقاً من المعصية، وكان يولّي ذلك عَقِيلاً، فلما أسنّ عَقِيل كان يوليها عبد الله بن جعفر.

فأمّا ما روي في إقالة البيعة فهو خبر ضعيف، وإن صحّ فالمراد به التنبيه على أنّه لا يبالي لأمر يرجع إليه يُقيله الناس البيعة، وإنّما يضرون بذلك أنفسهم؛ وكأنّه نبّه بذلك على أنّه غير مكرَه لهم، وأنّه قد خلاهم وما يريدون إلاّ أن يَعْرِض ما يوجب خِلافه، وقد روي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أقال عبد الله بن عمر البيعة حين استقاله، والمراد بذلك أنّه تركه وما يختار.

اعترض المرتضى (رضي الله عنه) فقال: أمّا قول أبي بكر: «وَليتُكم ولستُ بخيركم، فإن استقمتُ فاتّبعوني، وإن اعوججت فقوّموني، فإنّ لي شيطاناً يعتريني عند غضبي، فإذا رأيتموني مغضباً فاجتنبوني لا أؤثّر في أشعاركم وأبشاركم» فإنّه يدلّ على أنّه لا يصلح للإمامة من وجهين:

أحدهما أنّ هذا صفة من ليس بمعصوم، ولا يأمن الغلط على نفسه من يحتاج إلى تقويم رعيته له إذا وقع في المعصية،وقد بيّنا أنّ الإمام لابدّ أن يكون معصوماً موفّقاً مسدّداً، والوجه الآخر أنّ هذه صفة من لا يملك نفسه، ولا يضبط غضبه، ومن هو في نهاية الطيش والحدة والخُرق والعجلة، ولا خلاف أنّ الإمام يجب أن يكون منزّهاً عن هذه الأوصاف، غير حاصل عليها.

وليس يُشبِه قول أبي بكر ما تلاه من الآيات كلّها، لأنّ أبا بكر خبر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب، وأنّ عادته بذلك جارية، وليس هذا بمنزلة من يوسوس إليه الشيطان ولا يطيعه، ويزيّن له القبيح فلا يأتيه، وليس وسوسة الشيطان بعيب على الموسوس له إذا لم يستزلّه ذلك عن الصواب، بل هو زيادة في التكليف، ووجه يتضاعف معه الثواب.


الصفحة 429
وقوله تعالى: {ألْقَى الشَّيْطَانُ فِي اُمْنِيَّـتِهِ} قيل: معناه في تلاوته؛ وقيل: في فكرته، على سبيل الخاطر، وأيّ الأمرين كان فلا عار في ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا نقص، وإنّما العار والنقص على من يطيع الشيطان ويتبع ما يدعو إليه.

وليس لأحد أن يقول: هذا إن سلم لكم في جميع الآيات لم يسلم في قوله تعالى: {فَأزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} لأنّه قد خبّر عن تأثير غوايته ووسوسته بما كان منهما من الفعل، وذلك أنّ المعنى الصحيح في هذه الآية أنّ آدم وحوّاء كانا مندوبين إلى اجتناب الشجرة وترك التناول منها، ولم يكن ذلك عليهما واجباً لازماً، لأنّ الأنبياء لا يُخلّون بالواجب، فوسوس لهما الشيطان حتى تناولا من الشجرة، فتركا مندوباً إليه، وحرما بذلك أنفسهما الثواب، وسمّاه إزلالاً لأنّه حطٌّ لهما عن درجة الثواب وفعل الأفضل.

وقوله تعالى في موضع آخر: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}(1) لا ينافي هذا المعنى، لأنّ المعصية قد يُسمّى بها من أخل بالواجب والندب معاً، قوله: «فغوى» أي خاب من حيث لم يستحق الثواب على ما نُدب إليه.

على أنّ صاحب الكتاب يقول: إنّ هذه المعصية من آدم كانت صغيرة لا يستحق بها عقاباً ولا ذماً، فعلى مذهبه أيضاً تكون المفارقة بينه وبين أبي بكر ظاهرةً، لأنّ أبا بكر خبّر عن نفسه أنّ الشيطان يعتريه حتى يؤثّر في الأشعار والأبشار، ويأتي ما يستحق به التقويم، فأين هذا من ذنب صغير لا ذمّ ولا عقاب عليه، وهو يجري من وجه من الوجوه مجرى المباح، لأنّه لا يؤثر في أحوال فاعله وحط رتبته.

وليس يجوز أن يكون ذلك منه على سبيل الخشية والإشفاق على ما ظنّ، لأنّ مفهوم خطابه يقتضي خلاف ذلك، ألا ترى أنّه قال: «إنّ لي شيطاناً يعتريني»، وهذا قول من قد عرف عادته، ولو كان على سبيل الإشفاق والخوف لخرج عن هذا المخرج، ولكان يقول: فإنّي لا آمن من كذا وإنّي لمشفق منه.

فأمّا ترك أميرالمؤمنين (عليه السلام) مخاصمة الناس في حقوقه فكأنّه إنّما كان تنزهاً وتكرّماً؛ وأي نسبة بين ذلك وبين من صرّح وشهد على نفسه بما لا يليق بالأئمة!

____________

1- طه: 121.


الصفحة 430
وأما خبر استقالة البيعة وتضعيف صاحب الكتاب له فهو أبداً يضعّف ما لا يوافقه من غير حجة يعتمدها في تضعيفه.

وقوله: إنّه ما استقال على التحقيق، وإنّما نبّه على أنّه لا يبالي بخروج الأمر عنه، وأنّه غير مكره لهم عليه؛ فبعيد من الصواب لأنّ ظاهر قوله: «أقيلوني» أمر بالإقالة، وأقل أحواله أن يكون عرضاً لها وبذلاً، وكلا الأمرين قبيح، ولو أراد ما ظنّه لكان له في غير هذا القول مندوحة، ولكان يقول: إنّي ما أكرهتكم ولا حملتكم على مبايعتي، وما كنت أبالي ألاّ يكون هذا الأمر فيَّ ولا إليَّ، وإنّ مفارقته لتسرّني لولا ما ألزمنيه الدخول فيه من التمسك به، ومتى عدلنا عن ظواهر الكلام بلا دليل جرّ ذلك علينا ما لا قبل لنا به.

وأمّا أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنّه لم يُقِل ابن عمر البيعة بعد دخوله فيها، وإنّما استعفاه من أن يلزمه البيعة ابتداء فأعفاه قلّة فكر فيه، وعلماً بأنّ إمامته لا تثبت بمبايعة من يبايعه عليها، فأين هذا من استقالة بيعة قد تقدّمت واستقرت!

الطعن الثاني


قال قاضي القضاة بعد أن ذكر قول عمر: «كانت بيعة أبي بكر فلتة» وقد تقدّم منّا القول في ذلك في أوّل هذا الكتاب: وممّا طعنوا به على أبي بكر أنّه قال عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ثلاثة، فذكر في أحدها: ليتني كنت سألته: هل للأنصار في هذا الأمر حق؟ قالوا: وذلك يدلّ على شكّه في صحة بيعته، وربما قالوا: قد روى أنّه قال في مرضه: ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه(1)، وليتني في ظلّة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين، فكان هو الأمير، وكنت الوزير. قالوا: وذلك يدلّ على ما روى من إقدامه على بيت فاطمة (عليها السلام) عند اجتماع عليّ (عليه السلام) والزبير وغيرهما فيه، ويدلّ على أنّه كان يرى الفضل لغيره لا لنفسه.

____________

1- لقد مر الكلام في هذا في أول نصوص يجب أن تقرأ بإمعان فراجع.


الصفحة 431
قال قاضي القضاة: والجواب أنّ قوله: «ليتني» لا يدلّ على الشكّ فيما تمنّاه، وقول إبراهيم (عليه السلام): {رَبِّ أرِنـِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}(1) أقوى من ذلك في الشبهة. ثمّ حمل تمنّيه على أنّه أراد سماع شيءٍ مفصّل، أو أراد: ليتني سألته عند الموت لقرب العهد، لأنّ ما قرب عهده لا يُنسى ويكن أردع للأنصار على ما حاولوه.

ثم قال: على أنّه ليس في ظاهره أنّه تمنّى أن يسأل: هل لهم حقٌ في الإمامة أم لا؟ لأنّ الإمامة قد يتعلّق بها حقوق سواها، ثمّ دفع الرواية المتعلقة ببيت فاطمة (عليها السلام) وقال: فأمّا تمنيّه أن يبايع غيره؛ فلو ثبت لم يكن ذمّاً، لأنّ من اشتد التكليف عليه فهو يتمنى خلافه.

اعترض المرتضى (رحمه الله) هذا الكلام فقال: ليس يجوز أن يقول أبو بكر: «ليتني كنت سألت عن كذا». إلاّ مع الشكّ والشبهة، لأنّ مع العلم واليقين لا يجوز مثل هذا القول، هكذا يقتضي الظاهر.

فأمّا قول إبراهيم (عليه السلام)، فإنّما ساغ أن يُعدل عن ظاهره، لأنّ الشك لا يجوز على الأنبياء، ويجوز على غيرهم؛ على أنّه (عليه السلام) قد نفى عن نفسه الشك بقوله: {بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، وقد قيل: إنّ نمرود قال له: إذا كنت تزعم أنّ لك ربّاً يحيي الموتى، فاسأله أن يحيي لنا ميّتاً إن كان على ذلك قادراً، فإن لم تفعل ذلك قتلتك، فأراد بقوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، أي لآمن توعّد عدوّك لي بالقتل.

وقد يجوز أن يكون طلب ذلك لقومه، وقد سألوه أن يرغب إلى الله تعالى فيه فقال: ليطمئنّ قلبي إلى إجابتك لي، وإلى إزاحة علّة قومي، ولم يرد: ليطمئنّ قلبي إلى أنّك تقدر على أن تحيي الموتى؛ لأنّ قلبه قد كان بذلك مطمئناً؛ وأيّ

____________

1- البقرة: 260.


الصفحة 432
شيء يريد أبو بكر من التفضيل أكثر من قوله: «إنّ هذا الأمر لا يصلح إلاّ لهذا الحي من قريش»! وأيّ فرق بين ما يقال عند الموت وبين ما يقال قبله إذا كان محفوظاً معلوماً، لم ترفع كلمة ولم تنسخ!

وبعد، فظاهر الكلام لا يقتضي هذا التخصيص، ونحن مع الإطلاق والظاهر، وأيّ حق يجوز أن يكون للأنصار في الإمامة غير أن يتولاها رجل منهم حتى يجوز أن يكون الحق الّذي تمنّى أن يسأل عنه غير الإمامة! وهل هذا إلاّ تعسّف وتكلّف!

وأيّ شبهة تبقى بعد قول أبي بكر: ليتني كنت سألته: هل للأنصار في هذا الأمر حق، فكنّا لا ننازعه أهله؟ ومعلوم أنّ التنازع لم يقع بينهم إلاّ في الإمامة نفسها، لا في حقٍّ آخر من حقوقها.

فأمّا قوله: إنّا قد بيّنا أنّه لم يكن منه في بيت فاطمة ما يوجب أن يتمنّى أنّه لم يفعله؛ فقد بيّنا فساد ما ظنّه فيما تقدم.

فأمّا قوله: إنّ من اشتدّ التكليف عليه قد يتمنى خلافه؛ فليس بصحيح؛ لأنّ ولاية أبي بكر إذا كانت هي الّتي اقتضاها الدين، والنظر للمسلمين في تلك الحال، وما عداها كان مفسدة ومؤدّياً إلى الفتنة، فالتمني لخلافها لا يكون إلاّ قبيحاً.

ما ذكره المحب الطبري:

الرابع والعشرون: المحب الطبري (ت 694هـ) فماذا عنده؟

النص الأول: قال في الرياض النضرة(1) في ذكر بيعة علي (رضي الله عنه):

وعن عائشة أنّ علي بن أبي طالب مكث ستة أشهر حتى توفيت فاطمة (رضي الله عنها) لم يبايع أبا بكر، ولا بايعه أحد من بني هاشم حتى بايعه علي....

____________

1- الرياض النضرة 1: 168.


الصفحة 433
النص الثاني: قال(1): وخرّج أبو الحسن علي بن محمد القرشي في كتاب الردة والفتوح: أن بيعته _ علي _ كانت بعد موت فاطمة بخمسة وسبعين يوماً.

النص الثالث: قال(2): عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي بن أبي طالب: «سلام عليك أبا الريحانتين، فعن قليل يذهب ركناك، والله خليفتي عليك»، فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال علي: «هذا أحد الركنين الذي قال (صلى الله عليه وآله) »، فلما ماتت فاطمة قال: «هذا الركن الآخر الذي قال (صلى الله عليه وآله) ». خرّجه أحمد في المناقب.

النص الرابع: قال(3): عن عمر قال: كنت أنا وأبو عبيدة وأبو بكر وجماعة من أصحابه إذ ضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) منكب علي فقال: «ياعلي أنت أول المؤمنين إيماناً، وأوّل المسلمين إسلاماً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى». خرّجه ابن السمّان.

النص الخامس: قال(4): وعن عمر أنّه قال: علي مولى من كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مولاه.

وعن سالم: قيل لعمر: إنّك تصنع بعلي شيئاً ما تصنعه بأحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: إنّه مولاي.

وعن عمر وقد جاءه أعرابيان يختصمان فقال لعلي: اقض بينهما يا أبا الحسن، فقضى علي بينهما، فقال أحدهما: هذا يقضي بيننا، فوثب إليه عمر وأخذ بتلبيبه وقال: ويحك ما تدري من هذا، هذا مولاي ومولى كل مؤمن، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن.

وعنه وقد نازعه رجل في مسألة فقال: بيني وبينك هذا الجالس، وأشار إلى علي بن أبي طالب، فقال الرجل: هذا الأبطن، فنهض عمر من مجلسه وأخذ

____________

1- المصدر نفسه 1: 169.

2- المصدر نفسه 2: 154.

3- المصدر نفسه 2: 157.

4- المصدر نفسه 2: 170.


الصفحة 434
بتلبيبه حتى شاله من الأرض ثم قال: أتدري من صغّرت؟ مولاي ومولى كل مسلم. (ثم قال المحب الطبري): خرّجهنّ ابن السمّان.

النص السادس: قال(1): (ذكر اختصاصه بإدخال النبي (صلى الله عليه وآله) إياه معه في ثوبه يوم توفي واحتضانه إياه إلى أن قبض).

عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما حضرته الوفاة: «ادعوا لي حبيبي» فدعوا له أبا بكر، فنظر إليه ثم وضع رأسه، ثم قال: «ادعوا حبيبي» فدعوا له عمر فلما نظر إليه وضع رأسه، ثم قال: «ادعوا لي حبيبي» فدعوا له علياً، فلمّا رآه أدخله معه في الثوب الذي كان عليه، فلم يزل يحتضنه حتى قبض ويده عليه. أخرجه الرازي.

النص السابع: قال(2): (ذكر اختصاصه بأقربية العهد به يوم مات)(3).

عن أم سلمة قالت: والذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول الله (صلى الله عليه وآله)، قالت: عدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) غداة بعد غداة يقول: جاء علي _ مراراً _ وأظنّه كان بعثه لحاجة، فجاء بعد فظننت أن له حاجة، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب، فكنت من أدناهم إلى الباب، فأكبّ عليه علي فجعل يسارّه ويناجيه، ثم قبض من يومه ذلك (صلى الله عليه وآله)، فكان من أقرب الناس به عهداً. أخرجه أحمد.

النص الثامن: قال(4): (ذكر اختصاصه وزوجه وبنيه بأنه (صلى الله عليه وآله) حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم).

____________

1- المصدر نفسه 2: 180.

2- المصدر نفسه 2: 180.

3- كلا العنوانين مع النصّين، ينسفان مقولة عائشة: (مات بين سحري ونحري) فكيف يتمسك بها من يزعم لها نصيباً من الصحة.

4- المصدر نفسه 2: 189.


الصفحة 435
وعن أبي بكر الصديق قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيّم خيمة وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين، فقال: «معاشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لمن حاربهم، ولي لمن والاهم، لا يحبهم إلا سعيد الجدّ طيب المولد، ولا يبغضهم إلا شقي الجد رديء الولادة».

أقول: فما دام الصديق يروي هذا الحديث _ وهو صادق فيما رواه _ فلماذا قال لعمر عندما أرسله ليحضر علياً للبيعة: إئتني به بأعنف العنف؟ ولماذا قال له: فإن أبوا فقاتلهم، وهذا قد مرّ في نصوص سابقة فراجع.

النص التاسع: قال(1): (ذكر رسوخ قدمه في الإيمان).

وعن عمر بن الخطاب أنه قال: أشهد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) لسمعته وهو يقول: «لو أن السماوات السبع والأرضين السبع وضعت في كفّة ووضع إيمان علي في كفّة؛ لرجح إيمان علي». أخرجه ابن السمّان، والحافظ السلفي في المشيخة البغدادية، والفضائلي.

أقول: فمن كان يروي هذا الحديث _ وهو صادق فيما رواه _ هل له أن يأخذ بتلبيب علي ويسوقه بعنف لأخذ بيعته؟

النص العاشر: قال(2): وعن عاصم بن عمر قال: لقي عمر علياً فقال: يا أبا الحسن نشدتك بالله هل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولاك الأمر؟ قال: «إن قلت ذاك فما تصنع أنت وصاحبك؟» قال: أما صاحبي فقد مضى، وأما أنا فوالله لأخلعنّها من عنقي في عنقك، قال: جدع الله أنف من أبعدك عن هذا، لا ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعلني علماً، فإذا أنا قمت فمن خالفني ضل.

____________

1- المصدر نفسه 2: 226.

2- المصدر نفسه 2: 242.


الصفحة 436
وفي رواية أنه قال له: يا أبا الحسن نشدتك بالله هل استخلفك رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: لا، ولكن جعلني رسول الله (صلى الله عليه وآله) علماً، فمتى قمت فمن خالفني ضل. أخرجهما ابن السمّان في الموافقة.

أقول: ما تقدم من نصوص الرابع والخامس عن عمر، وهي كلّها من تخريج ابن السمّان تثبت أنّ علياً كان أولى بالأمر فراجع.

وهذه عشرة نصوص مما رواه المحب الطبري _ وهو شيخ الحرم المكي في عصره قال فيه الذهبي: الفقيه الزاهد المحدث، كان شيخ الشافعية ومحدث الحجاز _ في كتابه الرياض النضرة، وله في كتابه ذخائر العقبى أضعاف ذلك مما يقضي العجب نحو ما رواه عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب للزبير بن العوام: هل لك في أن تعود الحسن بن علي (رضي الله عنهما) فإنه مريض؟ فكأن الزبير تلكأ عليه، فقال له عمر: أما علمت أنّ عيادة بني هاشم فريضة وزيارتهم نافلة، وفي رواية: أن عيادة بني هاشم سنة وزيارتهم نافلة. أخرجه ابن السمّان في الموافقة(1).

أقول: من يروي مثل هذا كيف جاء بقبس فيه نار ليحرق على بني هاشم بيتهم؟

ونحو ما رواه عن أبي بكر أنه قال: (يا أيها الناس ارقبوا محمداً في أهل بيته) أخرجه البخاري(2).

وما أحرى القارئ أن يقول للقائل:


يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم

فهل راقبت أنت محمداً في أهل بيته؟.

____________

1- ذخائر العقبى: 14.

2- المصدر نفسه: 18.


الصفحة 437
ونحو ما رواه عن أبي الحمراء قال: صحبت رسول الله (صلى الله عليه وآله) تسعة أشهر، فكان إذا أصبح أتى على باب علي وفاطمة وهو يقول: رحمكم الله {إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ...}(1) الآية. أخرجه عبد بن حميد(2).

فهل للسائل أن يسأل عن تلك الباب التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقف عندها، ويقرأ قوله تعالى: {إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(3)، هل تبدّلت حرمتها أو استبدلت خشبتها فهانت على الخالفين، فجاؤوها بنار لتحرق على من فيها، حتى خرجت فاطمة (عليها السلام) لتقول لعمر: أتراك محرقاً عليَّ بيتي؟ قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوكِ.

هذا وروى لنا عن عائشة كيف كانت فاطمة أشبه سمتاً ودلاً وهدياً وحديثاً برسول الله (صلى الله عليه وآله) في قيامه وقعوده من كل أحد(4) كما روى لنا عن عائشة: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: يا معشر الخلائق طأطئوا رؤوسكم حتى تجوز فاطمة» (عليها السلام)(5).

وقال: وكانت _ فاطمة _ أشارت على علي (رضي الله عنه) أن يدفنها ليلاً(6).

فهل من جواب لشاعر يسأل:


ولأيّ الأمور تدفن ليلاً بضعة المصطفى ويعفى ثراها

____________

1- الأحزاب: 33.

2- ذخائر العقبى: 24.

3- الأحزاب: 33.

4- ذخائر العقبى: 40.

5- المصدر نفسه: 48.

6- المصدر نفسه: 54.