الصفحة 403
والملاحاة، وظهرت الشكيّة، واشتدّت الموجدة، وقد بلغ ذلك من فاطمة (عليها السلام) حتى انّها أوصت ألاّ يصلّي عليها أبو بكر.

ولقد كانت قالت له حين أتته طالبةً بحقّها، ومحتجّة لرهطها: مَنْ يرثك يا أبا بكر إذا متّ؟ قال: أهلي وولدي؛ قالت: فما بالنا لا نرث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!

فلمّا منعها ميراثها، وبخسها حقّها، واعتلّ عليها، وجلح في أمرها، وعاينت التهضم، وأيست من التورع، ووجدت نشوة الضعف وقلّة الناصر، قالت: والله لأدعونّ الله عليك، قال: والله لأدعونّ الله لكِ؛ قالت: والله لا أكلّمك أبداً، قال: والله لا أهجرك أبداً.

فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلاً على صواب منعها؛ إنّ في ترك النكير على فاطمة (عليها السلام) دليلاً على صواب طلبها! وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت، وتذكيرها ما نسيت، وصرفها عن الخطأ، ورفع قدرها عن البذاء، وأن تقول هجراً، أو تجوّر عادلاً، أو تقطع واصلاً؛ فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعاً فقد تكافأت الأمور، واستوت الأسباب، والرجوع إلى أصل حكم الله من المواريث أولى بنا وبكم، وأوجب علينا وعليكم.

قال: فإن قالوا: كيف تظن به ظلمها والتعدي عليها! وكلّما ازدادت عليه غلظةً ازداد لها ليناً ورقّة، حيث تقول له: والله لا أكلّمك أبداً، فيقول: والله لا أهجركِ أبداً، ثمّ تقول: والله لأدعونّ الله عليك، فيقول: والله لأدعونّ الله لكِ، ثمّ يحتمل منها هذا الكلام الغليظ، والقول الشديد في دار الخلافة، وبحضرة قريش والصحابة، مع حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه، وما يجب لها من الرفعة والهيبة! ثمّ لم يمنعه ذلك أن قال معتذراً متقرّباً، كلام المعظِّم لحقّها، المُكبر لمقامها، والصائن لوجهها، المتحنّن عليها: ما أجد أعزّ عليّ منك فقراً، ولا أحب إليّ منك غنىً، ولكنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه فهو صدقة»!


الصفحة 404
قيل لهم: ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم، والسلامة من الجور، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريباً، وللخصومة معتاداً، أن يُظهر كلام المظلوم، وذلّة المنتصف وحدب الوامق، ومِقَة المحقّ.

وكيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة، ودلالة واضحة، وقد زعمتم أنّ عمر قال على منبره: مُتعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله): متعة النساء ومتعة الحج، أنا أنهى عنهما، وأعاقب عليهما؛ فما وجدتم أحداً أنكر قوله، ولا استشنع مخرج نهيه، ولا خطّأه في معناه، ولا تعجّب منه، ولا استفهمه!

وكيف تقضون بترك النكير وقد شهد عمر يوم السقيفة وبعد ذلك أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: «الأئمة من قريش»؛ ثمّ قال في شكاته: لو كان سالمٌ حيّاً ما تخالجني فيه شكّ، حين أظهر الشكّ في استحقاق كل واحد من الستّة الّذين جعلهم شورى، وسالمٌ عبدٌ لامرأة من الأنصار، وهي أعتقته وحازت ميراثه،ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر، ولا قابل إنسان بين قوله، ولا تعجّب منه.

وإنّما يكون ترك النكير على مَنْ لا رغبة ولا رهبة عنده دليلاً على صدق قوله، وصواب عمله، فأمّا ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة، والأمر والنهي، والقتل والاستحياء، والحبس والإطلاق، فليس بحجة تشفي ولا دلالة تضيئ.

قال: وقال آخرون: بل الدليل على صدق قولهما، وصواب عملهما، إمساك الصحابة عن خلعهما، والخروج عليهما، وهم الّذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل، ورد النصوص؛ ولو كان كما تقولون وما تصفون، ما كان سبيل الأمة فيهما إلاّ كسبيلهم فيه، وعثمان كان أعزّ نفراً، وأشرف رهطاً، وأكثر عدداً وثروة، وأقوى عدة.

قلنا: إنّهما لم يجحدا التنزيل، ولم ينكرا النصوص، ولكنّهما بعد إقرارهما بحكم الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة ادّعيا رواية، وتحدّثا بحديث لم يكن

الصفحة 405
مُحالاً كونه، ولا ممتنِعاً في حجج العقول مجيئُه، وشهد لهما عليه من علّته مثل علّتهما فيه، ولعلّ بعضهم كان يرى تصديق الرجل إذا كان عَدلاً في رهطه، مأموناً في ظاهره، ولم يكن قبلَ ذلك عرفه بفَجْرة، ولا جرت عليه غَدْرة، فيكون تصديقه له على جهة حُسن الظنّ، وتعديل الشاهد.

ولأنّه لم يكن كثيرٌ منهم يعرف حقائقَ الحجج، والّذي يقطع بشهادته على الغيب، وكان ذلك شبهة على أكثرهم، فلذلك قلّ النّكير وتواكل الناس، فاشتبه الأمر، فصار لا يُتخلّص الى معرفة حقّ ذلك من باطله إلاّ العالمُ المتقدّم، أو المؤيّد المرشد، ولأنّه لم يكن لعثمان في صدور العوام، وقلوب السَّفِلة والطَّغام ما كان لهما من المحبّة والهيبة، ولأنّهما كانا أقلّ استئثاراً بالفيء، وتفضّلاً بمالِ الله منه، ومِن شأن الناس إهمال السلطان ما وفّر عليهم أموالَهم، ولم يستأثر بخراجهم، ولم يعطّل ثغورَهم.

ولأنّ الّذي صنع أبو بكر من منع العِتْرة حقّها، والعمومة ميراثَها، قد كان موافقاً لجلّة قريش وكبراءِ العرب، ولأنّ عثمان أيضاً كان مضعوفاً في نفسه، مستخفّاً بقدره، لا يمنع ضَيْماً، ولا يَقمَع عدوّاً؛ ولقد وثب ناس على عثمان بالشتم والقذف والتشنيع والنكير، لأمور لو أتى أضعافها وبلغ أقصاها لما اجترؤا على اغتيابه، فضلاً على مبادأته والإغراء به ومواجهته، كما أغلظ عُيَينةُ بن حِصْن له فقال له: أما إنّه لو كان عمر لقمَعَك ومَنَعك؛ فقال عُيينة: إنّ عمر كان خيراً لي منك، أرهبني فاتّقاني.

ثم قال: والعجب أنّا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على اختلافهم في التشبيه والقدر والوعيد، يردّ كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه وخصومه ما هو أقرب إسناداً، وأصحّ رجالاً، وأحسن اتّصالاً؛ حتّى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبيّ (صلى الله عليه وآله) نسخوا الكتاب، وخصّوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما ردّوه، وأكذبوا قائليه، وذلك أنّ كلّ إنسان منهم إنّما يجري إلى هواه، ويصدّق ما وافق رضاه. (هذا آخر كلام الجاحظ).


الصفحة 406
ثم قال المرتضى (رضي الله عنه): فإن قيل: ليس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال بترك النكير، وقوله: كما لم ينكروا على أبي بكر، فلم ينكروا أيضاً على فاطمة (عليها السلام) ولا على غيرها من الطالبين بالإرث، كالأزواج وغيرهنّ معارضة صحيحة، وذلك أنّ نكير أبي بكر لذلك، ودفعها والاحتجاج عليها، يكفيهم ويغنيهم عن تكلّف نكير آخر، ولم ينكر على أبي بكر ما رواه منكر فيستغنوا بإنكاره.

قلنا: أوّل ما يُبطل هذا السؤال أنّ أبا بكر لم ينكر عليها ما أقامت عليه بعد احتجاجها من التظّلم والتألّم، والتعنيف والتبكيت، وقولها على ما روى: والله لأدعونّ الله عليك، ولا أكلّمك أبداً، وما جرى هذا المجرى؛ فقد كان يجب أن ينكره غيره، ومن المنكَر الغضب على المنصف، وبعد، فإن كان إنكار أبي بكر مقنعاً ومغنياً عن إنكار غيره من المسلمين، فإنكار فاطمة حكمه، ومقامها على التظلّم منه مغنٍ عن نكير غيرها؛ وهذا واضح.

القسم الثالث: في أنّ فدك هل صحّ كونها نِحْلَة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لفاطمة (عليها السلام) أم لا؟!

نذكر في هذا القسم ما حكاه المرتضى عن قاضي القضاة في (المغني)، وما اعترض به عليه، ثمّ نذكر ما عندنا في ذلك.

قال المرتضى حاكياً عن قاضي القضاة: وممّا عظمت الشيعة القول في أمر فَدَك، قالوا: وقد روى أبو سعيد الخدري أنّه لما أنزلت: {وَآتِ ذَا القُرْبـَى حَقَّهُ}(1)، أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة (عليها السلام) فَدَك، ثمّ فعل عمر بن عبد العزيز مثل ذلك، فردّها على ولدها. قالوا: ولا شكّ أن أبا بكر أغضبها؛ إن لم يصحّ كل الّذي روي في هذا الباب، وقد كان الأجمل أن يمنعهم التكرّم ممّا ارتكبوا منها فضلاً

____________

1- الإسراء: 26.


الصفحة 407
عن الدين، ثمّ ذكروا أنّها استشهدت أمير المؤمنين (عليه السلام) وأمّ أيمن، فلم يقبل شهادتهما، هذا مع تركه أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجرهنّ، ولم يجعلها صدقة، وصدقهنّ في ذلك أنّ ذلك لهنّ ولم يصدّقها.

قال: والجواب عن ذلك أنّ أكثر ما يروون في هذا الباب غير صحيح؛ ولسنا ننكر صحّة ما روى من ادعائها فَدَك، فأمّا أنّها كانت في يدها فغير مسلم، بل إن كانت في يدها لكان الظاهر أنّها لها، فإذا كانت في جملة التركة فالظاهر أنّها ميراث، وإذا كان كذلك فغير جائز لأبي بكر قبول دعواها، لأنّه لا خلاف في أنّ العمل على الدعوى لا يجوز، وإنّما يعمل على مثل ذلك إذا علمت صحّته بمشاهدة، أو ما جرى مجراها، أو حصلت بيّنة أو إقرار، ثمّ إنّ البينة لابدّ منها، وإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لما خاصمه اليهودي حاكمه، وأنّ أم سلمة الّتي يطبق على فضلها لو ادعت نحلاً ما قبلت دعواها.

ثم قال: ولو كان أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الوالي، ولم يعلم صحة هذه الدعوى، ما الّذي كان يجب أن يعمل؟ فإن قلتم: يقبل الدعوى، فالشرع بخلاف ذلك، وإن قلتم: يلتمس البينة، فهو الّذي فعله أبو بكر.

ثم قال: وأما قول أبي بكر: رجل مع الرجل، وامرأة مع المرأة، فهو الّذي يوجبه الدين، ولم يثبت أنّ الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين (عليه السلام)، بل الرواية المنقولة أنّه شهد لها مولى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مع أمّ أيمن.

قال: وليس لأحد أن يقول: فلماذا ادّعت ولا بيّنة معها، لأنّه لا يمتنع أن تجوّز أن يحكم أبو بكر بالشاهد واليمين، أو تجوز عند شهادة من شهد لها أن تذكر غيره فيشهد، وهذا هو الموجب على ملتمس الحقّ، ولا عيب عليها في ذلك، ولا على أبي بكر في التماس البيّنة، وإن لم يحكم لها لما لم يتمّ ولم يكن لها خصم، لأنّ التركة صدقة على ما ذكرنا، وكان لا يمكن أن يعوّل في ذلك على يمين أو نكول، ولم يكن في الأمر إلاّ ما فعله.


الصفحة 408
قال: وقد أنكر أبو عليّ ما قاله السائل من أنّها لما ردّت في دعوى النحلة ادعته إرثاً، وقال: بل كان طلبت الإرث قبل ذلك، فلما سمعت منه الخبر كفّت وادعت النحلة.

قال: فأما فِعل عمر بن عبد العزيز فلم يثبت أنّه ردّه على سبيل النحلة، بل عمل في ذلك ما عمله عمر بن الخطاب بأن أقرّه في يد أميرالمؤمنين (عليه السلام) ليصرف غلاتها في المواضع الّتي كان يجعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه، فقام بذلك مدّة، ثمّ ردّها إلى عمر في آخر سنته، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز؛ ولو ثبت أنّه فعل بخلاف ما فعل السلف لكان هو المحجوج بفعلهم وقولهم.

وأحدُ ما يقوّى ما ذكرناه أنّ الأمر لما انتهى إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ترك فَدَك على ما كان، ولم يجعله ميراثاً لولد فاطمة، وهذا يبيّن أنّ الشاهد كان غيره، لأنّه لو كان هو الشاهد لكان الأقرب أن يحكم بعلمه؛ على أنّ الناس اختلفوا في الهبة إذا لم تقبض، فعند بعضهم تستحقّ بالعقد، وعند بعضهم أنّها إذا لم تقبض يصير وجودها كعدمها، فلا يمتنع من هذا الوجه أن يمتنع أمير المؤمنين (عليه السلام) من ردّها، وإن صحّ عنده عقد الهبة، وهذا هو الظاهر، لأنّ التسليم لو كان وقع لظهر أنّه كان في يدها، ولكان ذلك كافياً في الاستحقاق.

فأمّا حجر أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) فإنّما تركت في أيديهنّ لأنّها كانت لهنّ، ونصّ الكتاب يشهد بذلك، وقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}(1). وروى في الأخبار أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قسّم ما كان له من الحجر على نسائه وبناته،ويبيّن صحة ذلك أنّه لو كان ميراثاً أو صدقة لكان أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا أفضى الأمر إليه يغيّره.

قال: وليس لأحد أن يقول: إنّما لم يغيّر ذلك لأنّ الملك قد صار له، فتبرّع به، وذلك أنّ الّذي يحصل له ليس إلاّ ربع ميراث فاطمة (عليها السلام)، وهو الثمن من ميراث

____________

1- الأحزاب: 33.


الصفحة 409
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد كان يجب أن ينتصف لأولاد العباس وأولاد فاطمة منهنّ في باب الحجر، ويأخذ هذا الحقّ منهنّ، فتركه ذلك يدلّ على صحة ما قلناه، وليس يمكنهم بعد ذلك إلاّ التعلق بالتقيّة، وقد سبق الكلام فيها.

قال: ومما يذكرونه أنّ فاطمة (عليها السلام) لغضبها على أبي بكر وعمر أوصت ألاّ يصلّيا عليها، وأن تدفن سرّاً منهما، فدفنت ليلاً، وهذا كما ادّعوا رواية رووها عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) وغيره، أنّ عمر ضرب فاطمة (عليها السلام) بالسوط، وضرب الزبير بالسيف، وأنّ عمر قصد منزلها وفيه عليّ (عليه السلام) والزبير والمقداد وجماعة ممّن تخلّف عن أبي بكر وهم مجتمعون هناك، فقال لها: ما أحد بعد أبيك أحبّ إلينا منك، وأيم الله لئن اجتمع هؤلاء النفر عندك لنحرقنّ عليهم! فمنعت القوم من الاجتماع.

قال: ونحن لا نصدّق هذه الروايات ولا نجوّزها، وأمّا أمر الصلاة فقد روى أنّ أبا بكر هو الّذي صلّى على فاطمة (عليها السلام) وكبّر عليها أربعاً، وهذا أحد ما استدلّ به كثير من الفقهاء في التكبير على الميّت، ولا يصحّ أيضاً أنّها دفنت ليلاً، وإن صحّ ذلك فقد دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلاً، ودفن عمر ابنه ليلاً، وقد كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدفنون بالنهار ويدفنون بالليل، فما في هذا مما يطعن به، بل الأقرب في النساء أنّ دفنهنّ ليلاً أستر وأولى بالسنّة.

ثم حكى عن أبي عليّ تكذيب ما روي من الضرب بالسوط؛ قال: والمروي عن جعفر بن محمّد (عليه السلام) أنّه كان يتولاّهما، ويأتي القبر فيسلّم عليهما مع تسليمه على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، روى ذلك عباد بن صُهيب، وشعبة بن الحجاج، ومهدي بن هلال، والدَّراوَرْدي، وغيرهم، وقد روى عن أبيه محمّد بن عليّ (عليه السلام)، وعن عليّ بن الحسين مثل ذلك.

فكيف يصحّ ما ادعوه! وهل هذه الرواية إلاّ كروايتهم على أنّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) هو إسرافيل، والحسن ميكائيل، والحسين جبرائيل، وفاطمة ملك

الصفحة 410
الموت، وآمنة أم النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة القدر! فإن صدّقوا ذلك أيضاً قيل لهم: فعمر بن الخطاب كيف يقدر على ضرب ملك الموت! وإن قالوا: لا نصدّق ذلك، فقد جوزوا ردّ هذه الروايات، وصحّ أنّه لا يجوز التعويل على هذا الخبر، وإنّما يتعلّق بذلك من غرضه الإلحاد كالوراق، وابن الراوندي، لأنّ غرضهم القدح في الإسلام.

وحكي عن أبي عليّ أنّه قال: ولما صار غضبها إن ثبت كأنّه غضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حيث قال: «فمن أغضبها فقد أغضبني»، بأولى من أن يقال: فمن أغضب أبا بكر وعمر فقد نافق وفارق الدين، لأنّه روى عنه (عليه السلام) قال: «حب أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما نفاق»، ومن يورد مثل هذا فقصده الطعن في الإسلام، وأن يتوهّم الناس أن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نافقوا مع مشاهدة الأعلام ليضعفوا دلالة العلم في النفوس.

قال: وأما حديث الإحراق فلو صحّ لم يكن طعناً على عمر، لأنّ له أن يهدد من امتنع من المبايعة إرادة للخلاف على المسلمين لكنّه غير ثابت، انتهى كلام قاضي القضاة.

قال المرتضى: نحن نبتدئ فندلّ على أنّ فاطمة (عليها السلام) ما ادّعت من نحل فَدَك إلاّ ما كانت مصيبة فيه، وأن مانعها ومطالبها بالبينة متعنّت، عادل عن الصواب، لأنّها لا تحتاج إلى شهادة وبينة، ثمّ نعطف على ما ذكره على التفصيل، فنتكلّم عليه.

أما الّذي يدلّ على ما ذكرناه، فهو أنّها كانت معصومة من الغلط، مأموناً منها فعل القبيح، ومن هذه صفته لا يحتاج فيما يدعيه إلى شهادة وبينة.

فإن قيل: دلّلوا على الأمرين، قلنا: بيان الأوّل قوله تعالى: {إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1) والآية تتناول جماعة منهم

____________

1- الأحزاب: 33.


الصفحة 411
فاطمة (عليها السلام) بما تواترت الأخبار في ذلك، والإرادة هاهنا دلالة على وقوع الفعل للمراد.

وأيضاً فيدل على ذلك قوله (عليه السلام): «فاطمة بضعة منّي، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله (عزّ وجلّ) »، وهذا يدلّ على عصمتها؛ لأنّها لو كانت ممّن تقارف الذنوب، لم يكن من يؤذيها مؤذياً له على كل حال، بل كان متى فعل المستحق من ذمّها، أو إقامة الحد عليها، إن كان الفعل يقتضيه سارّاً له ومطيعاً، على أنّا لا نحتاج أن ننبّه في هذا الموضع على الدلالة على عصمتها، بل يكفي في هذا الموضع العلم بصدقها فيما ادعته، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين، لأنّ أحداً لا يشك أنّها لم تدّع ِما ادعته كاذبة، وليس بعد ألا تكون كاذبة إلاّ أن تكون صادقة؛ وإنّما اختلفوا في هل يجب مع العلم بصدقها تسليم ما ادّعته بغير بيّنة أم لا يجب ذلك!

قال: الّذي يدلّ على الفصل الثاني أنّ البينة إنّما تراد ليغلب في الظن صدق المدّعي، ألا ترى أنّ العدالة معتبرة في الشهادات لما كانت مؤثّرة في غلبة الظنّ لما ذكرناه، ولهذا جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة، لأنّ علمه أقوى من الشهادة، ولهذا كان الإقرار أقوى من البيّنة، من حيث كان أغلب في تأثير غلبة الظن، وإذا قدّم الإقرار على الشهادة لقوّة الظن عنده، فأولى أن يقدّم العلم على الجميع، وإذا لم يحتج مع الإقرار إلى شهادة لسقوط حكم الضعيف مع القويّ، لا يحتاح أيضاً مع العلم إلى ما يؤثر الظنّ من البيّنات والشّهادات.

والذي يدل على صحّة ما ذكرناه أيضاً، انّه لا خلاف بين أهل النقل في أنّ أعرابياً نازع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ناقة، فقال (عليه السلام): «هذه لي؛ وقد خرجت إليك من ثمنها» فقال الأعرابي: من يشهد لك بذلك؟ فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد بذلك؛ فقال النبي (صلى الله عليه وآله): «من أين علمت وما حضرت ذلك؟»، قال: لا، ولكن علمت ذلك من

الصفحة 412
حيث علمت أنّك رسول الله، فقال: «قد أجزت شهادتك، وجعلتها شهادتين» فسمّى ذا الشهادتين.

وهذه القصة شبيهة لقصة فاطمة (عليها السلام)، لأنّ خزيمة اكتفى في العلم بأنّ الناقة له (صلى الله عليه وآله)، وشهد بذلك من حيث علم أنّه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا يقول إلاّ حقّاً، وأمضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك له من حيث لم يحضر الابتياع وتسليم الثمن، فقد كان يجب على مَن علم أنّ فاطمة (عليها السلام) لا تقول إلاّ حقاً ألا يستظهر عليها بطلب شهادة أو بينة، هذا وقد روي أنّ أبا بكر لمّا شهد أمير المؤمنين (عليه السلام) كتب بتسليم فَدَك إليها، فاعترض عمر قضيته، وخرق ما كتبه.

روى إبراهيم بن السعيد الثقفي، عن إبراهيم بن ميمون قال: حدّثنا عيسى بن عبد الله بن محمّد بن عليّ بن أبي طالب، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ (عليه السلام) قال: جاءت فاطمة إلى أبي بكر وقالت: إنّ أبي أعطاني فَدَك، وعليّ وأمّ أيمن يشهدان، فقال: ما كنتِ لتقولي على أبيك إلاّ الحق، قد أعطيتُكها، ودعا بصحيفة من أدَم فكتب لها فيها؛ فخرجت فلقيت عمر، فقال: من أين جئتِ يا فاطمة؟ قالت: جئت من عند أبي بكر، أخبرته أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطاني فَدَك، وأنّ عليّاّ وأمّ أيمن يشهدان لي بذلك، فأعطانيها وكتب لي بها؛ فأخذ عمر منها الكتاب، ثمّ رجع إلى أبي بكر فقال: أعطيت فاطمة فَدَك، وكتبت بها لها؟ قال: نعم، فقال: إنّ عليّاً يجرّ إلى نفسه، وأم أيمن امرأة، وبصق في الكتاب فمحاه وخرّقه.

وقد روى هذا المعنى من طرقٍ مختلفة، على وجوه مختلفة، فمن أراد الوقوف عليها، واستقصاءها أخذها من مواضعها.

وليس لهم أن يقولوا: إنّها أخبار آحاد، لأنّها وإن كانت كذلك فأقلّ أحوالها أن توجب الظنّ، وتمنع من القطع على خلاف معناها، وليس لهم أن يقولوا: كيف يسلّم إليها فَدَك وهو يروي عن الرسول أنّ ما خلّفه صدقة، وذلك لأنّه لا تنافي بين

الصفحة 413
الأمرين، لأنّه إنّما سلّمها على ما وردت به الرواية على سبيل النحل، فلمّا وقعت المطالبة بالميراث روى الخبر في معنى الميراث، فلا اختلاف بين الأمرين.

فأمّا إنكار صاحب الكتاب لكون فدك في يدها، فما رأيناه اعتَمَد في إنكار ذلك على حجّة، بل قال: لو كان ذلك في يدها لكان الظاهر أنّها لها، والأمر على ما قال، فمن أين أنّه لم يخرج عن يدها على وجه يقتضي الظاهر خلافه! وقد روي من طرقٍ مختلفة غير طريق أبي سعيد الّذي ذكره صاحب الكتاب أنّه لمّا نزل قوله تعالى: {وَآتِ ذَا القُرْبـَى حَقَّهُ}(1) دعا النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة (عليها السلام) فأعطاها فَدَك! وإذا كان ذلك مرويّاً فلا معنى لدفعه بغير حجة.

وقوله: لا خلاف أنّ العمل على الدعوى لا يجوز، صحيح، وقد بيّنا أنّ قولها كان معلوماً صحّته، وإنّما قوله: إنّما يعمل على ذلك متى علم صحّته بشهادة أو ما يجري مجراها، أو حصلت بيّنة أو إقرار، فيقال له: إمّا علمت بمشاهدة فلم يكن هناك، وامّا بيّنة فقد كانت على الحقيقة، لأنّ شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) من أكبر البيّنات وأعدلها، ولكن على مذهبك أنّه لم تكن هناك بيّنة، فمن أين زعمت أنّه لم يكن هناك عِلْم! وإن لم يكن عن مشاهدة فقد أدخلت ذلك في جملة الأقسام.

فإن قال: لأنّ قولها بمجرّده لا يكون جهةً للعلم؛ قيل له: لم قلت ذلك؟ أو ليس قد دللنا على أنّها معصومة، وأن الخطأ مأمون عليها! ثمّ لو لم يكن كذلك لكان قولها في تلك القضية معلوماً صحّته على كل حال، لأنّها لو لم تكن مصيبة لكانت مبطلة عاصية فيما ادّعته، إذ الشبهة لا تدخل في مثله؛ وقد أجمعت الأمّة على أنّها لم يظهر منها بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) معصية بلا شك وارتياب؛ بل أجمعوا على أنّها لم تدّع إلاّ الصحيح، وإن اختلفوا؛ فمن قائل يقول: مانعها مخطئ، وآخر يقول: هو أيضاً مصيب، لفقد البيّنة وإن علم صدقها.

____________

1- الإسراء: 26.