الصفحة 356
بالنساء، كأمّ طِحال أحبّ أهلها إليها البغي، ألا إنّي لو أشاء أن أقول لقُلتُ، ولو قلتُ لبحتُ، إني ساكت ما تركت، ثم التفت إلى الأنصار فقال: قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم، وأحق من لزم عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنتم، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم، ألا إنّي لستُ باسطاً يداً ولا لساناً على مَنْ لم يستحقّ ذلك منّا.

ثم نزل؛ فانصرفت فاطمة (عليها السلام) إلى منزلها.

قا ل ابن أبي الحديد: قلت: قرأتُ هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري وقلت له: بمن يعرض؟ فقال: بل يصرّح، قلتُ: لو صرّح لم أسألك، فضحك وقال: بعليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، قلت: هذا الكلام كله لعليّ يقول؟! قال: نعم، إنّه المُلك يا بنيّ.

قلت: فما مقالة الأنصار؟ قال: هتفوا بذكر عليٍّ فخاف من اضطراب الأمر عليهم فنهاهم.

قال أبو بكر: وحدّثني محمد بن زكريا، قال: حدّثني ابن عائشة، قال: حدّثني أبي، عن عمّه قال: لمّا كلمت فاطمة أبا بكر بكى ثم قال: ياابنة رسول الله، والله ما ورّث أبوك ديناراً ولا درهماً، وإنّه قال: انّ الأنبياء لا يورّثون، فقالت: إنّ فَدَك وهبها لي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: فمن يشهد بذلك؟

فجاء علي بن أبي طالب (عليه السلام) فشهد، وجاءت أمّ أيمن فشهدت أيضاً، فجاء عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف فشهدا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقسمها، قال أبو بكر: صدقتِ يا ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وصدق علي، وصدقت أم أيمن، وصدق عمر، وصدق عبد الرحمن بن عوف، وذلك أن مالك لأبيك، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأخذ من فَدَك قوتكم، ويقسم الباقي، ويحمل منه في سبيل الله، فما تصنعين بها؟ قالت: أصنع بها كما يصنع بها أبي؛ قال: فلك عليَّ الله أن أصنع فيها كما يصنع فيها أبوك، قالت: الله لتفعلنّ؟ قال: الله لأفعلنّ، قالت: اللّهمّ اشهد.


الصفحة 357
وكان أبو بكر يأخذ غلّتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم، ويقسم الباقي، وكان عمر كذلك، ثم كان عثمان كذلك، ثم كان علي كذلك، فلمّا ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلثها، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها، وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها، وذلك بعد موت الحسن بن علي (عليه السلام)؛ فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلّها لمروان بن الحكم أيام خلافته، فوهبها لعبد العزيز ابنه، فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، كانت أوّل ظُلامة ردّها دعا حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) _ وقيل: بل دعا علي بن الحسين (عليه السلام) _ فردّها عليه.

وكانت بيد أولاد فاطمة (عليها السلام) مدّة ولاية عمر بن عبد العزيز، فلمّا ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم، فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها، حتى انتقلت الخلافة عنهم، فلمّا ولي أبو العباس السفّاح ردّها على عبد الله بن الحسن بن الحسن، ثم قبضها أبو جعفر لمّا حدث من بني حسن ما حدث، ثم ردّها المهدي ابنه على ولد فاطمة (عليها السلام)، ثم قبضها موسى بن المهدي وهارون أخوه، فلم تزل في أيديهم حتى ولي المأمون، فردّها على الفاطميين.

قال أبو بكر: حدّثني محمد بن زكريا قال: حدّثني مهدي بن سابق قال: جلس المأمون للمظالم، فأوّل رقعة وقعت في يده نظر فيها وبكى، وقال للذي على رأسه: ناد أين وكيل فاطمة؟ فقام شيخ عليه دُرّاعة وعمامة وخفّ تِعزّي، فتقدّم فجعل يناظره في فدك والمأمون يحتج عليه وهو يحتج على المأمون، ثم أمر أن يسجل لهم بها، فكتب السجل وقرئ عليه، فأنفذه، فقام دِعْبل إلى المأمون فأنشده الأبيات التي أوّلها:


أصبَحَ وجهُ الزّمان قد ضَحِكا بردّ مأمونِ هاشم فَدَكَا

فلم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل، فأقطعها عبد الله بن عمر البازيار، وكان فيها إحدى عشرة نخلةً غرسها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده، فكان بنو فاطمة

الصفحة 358
يأخذون ثمرها، فإذا قدم الحُجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل، فصرم عبدالله بن عمر البازيار ذلك التمر، وجّه رجلاً يقال له بشران بن أبي أميّة الثقفي إلى المدينة فصرمه، ثم عاد إلى البصرة ففلج.

قال أبو بكر: أخبرنا أبو زيد عمر بن شبّة قال: حدّثنا سويد بن سعيد والحسن بن عثمان قالا: حدّثنا الوليد بن محمد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنّ فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهي حينئذٍ تطلب ما كان لرسول الله بالمدينة وفَدَك، وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «لا نُورَث ما تركناه صدقة»، إنّما يأكل آل محمد من هذا المال، وإنّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقات رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولأعملنّ فيها بما عمل فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت من ذلك على أبي بكر وهجرته فلم تكلمه حتى توفّيت، وعاشت بعد أبيها ستة أشهر، فلمّا توفّيت دفنها علي (عليه السلام) ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر.

قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدّثنا إسحاق بن إدريس، قال: حدّثنا محمد بن أحمد، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهما حينئذٍ يطلبان أرضه بفدك وسهمه بخيبر، فقال لهما أبو بكر: إنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «لا نورث، ما تركنا صدقة»، إنّما يأكل آل محمد (صلى الله عليه وآله) من هذا المال، وإنّي والله لا أغيّر أمراً رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصنعه إلاّ صنعته، قال: فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى ماتت.

قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدّثنا عمر بن عاصم، وموسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حماد بن سلمة، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن أمّ هانئ، أنّ فاطمة

الصفحة 359
قالت لأبي بكر: من يرثك إذا متّ؟ قال: ولدي وأهلي؛ قالت: فمالك ترث رسول الله (صلى الله عليه وآله) دوننا؟ قال: يا ابنة رسول الله، ما ورث أبوك داراً ولا مالاً ولا ذهباً ولا فضة، قالت: بلى سهم الله الذي جعله لنا، وصار فيئنا الذي بيدك، فقال لها: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «إنّما هي طعمة أطعمناها الله، فإذا متّ كانت بين المسلمين».

قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدّثنا محمد بن الفضل، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل قال: أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: أنت ورثت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أم أهله؟ قال: بل أهله؛ قالت: فما بال سهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: إنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «إنّ الله أطعم نبيّه طعمة»، ثم قبضه، وجعله للذي يقوم بعده، فوليت أنا بعده، أن أرده على المسلمين، قالت: أنت وما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعلم.

قلت: في هذا الحديث عجب، لأنّها قالت له: أنت ورثت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أم أهله؟ قال: بل أهله؛ وهذا تصريح بأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) موروث يرثه أهله، وهو خلاف قوله: «لا نورث». وأيضاً فإنّه يدل على أنّ أبا بكر استنبط من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّ الله أطعم نبياً طعمة أن يُجرى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند وفاته مجرى ذلك النبي (صلى الله عليه وآله)، أو يكون قد فهم أنه عني بذلك النبي المنكر لفظاً نفسه، كما فهم من قوله في خطبته: إنّ عبداً خيّره الله بين الدنيا وما عند ربه، فاختار ما عند ربه، فقال أبو بكر: بل نفديك بأنفسنا.

قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: أخبرنا القعنبي قال: حدّثنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة، أنّ فاطمة طلبت فَدَك من أبي بكر، فقال: إنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «إنّ النبي لا يورث»، من كان النبي يعوله فأنا أعوله، ومن كان النبي (صلى الله عليه وآله) ينفق عليه فأنا أنفق عليه، فقالت: يا أبا بكر، أيرثك بناتك ولا يرث رسول الله (صلى الله عليه وآله) بناته؟ فقال: هو ذاك.


الصفحة 360
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال: حدّثنا فضيل بن مرزوق قال: حدّثنا البحتري بن حسان قال: قلت لزيد بن علي (عليه السلام) وأنا أريد أن أهجّن أمر أبي بكر: إن أبا بكر انتزع فَدَك من فاطمة (عليها السلام)، فقال: إنّ أبا بكر كان رجلاً رحيماً، وكان يكره أن يغيّر شيئاً فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأتته فاطمة فقالت: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطاني فَدَك، فقال لها: هل لك على هذا بيّنة؟ فجاءت بعلي (عليه السلام)، فشهد لها، ثم جاءت أم أيمن فقالت: ألستما تشهدان أنّي من أهل الجنة؟ قالا: بلى _ قال أبو زيد: يعني أنّها قالت لأبي بكر وعمر _ قالت: فأنا أشهد أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطاها فَدَك، فقال أبو بكر: فرجل آخر أو امرأة أخرى لتستحقي بها القضيّة، ثم قال أبو زيد: وأيم الله لو رجع الأمر إليّ لقضيت فيها بقضاء أبي بكر.

قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدّثنا محمد بن الصباح قال: حدّثنا يحيى بن المتوكل أبو عقيل، عن كثير النوال قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام): جعلني الله فداك! أرأيت أبا بكر وعمر، هل ظلماكم من حقّكم شيئاً _ أو قال: ذهبا من حقّكم بشيء؟ _ فقال: لا، والذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيراً، ما ظلمنا من حقنا مثقال حبّة من خردل؛ قلت: جعلت فداك أفأتولاهما؟ قال: نعم ويحك، تولّهما في الدنيا والآخرة، وما أصابك ففي عنقي، ثم قال: فعل الله بالمغيرة وبُنَان، فإنّهما كذبا علينا أهل البيت.

قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدّثنا عبد الله بن نافع والقعنبيّ، عن مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنّ أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) أردن لمّا توفي أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهنّ _ أو قال ثمنهنّ _ قالت: فقلت لهنّ: أليس قد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا نورث، ما تركنا صدقة».

قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد، قال: حدّثنا عبد الله بن نافع والقعنبي وبشر بن عمر، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قال:


الصفحة 361
«لا يقسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما تركتُ بعد نفقة نسائي ومؤونة عيالي فهو صدقة».

قلت: هذا حديث غريب، لأنّ المشهور أنّه لم يرو حديث انتفاء الإرث إلاّ أبو بكر وحده.

وقال أبو بكر: وحدّثنا أبو زيد، عن الحزامي، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن الأعرج أنّه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «والذي نفسي بيده لا يقسِم ورثتي شيئاً، ما تركت صدقة» قال: وكانت هذه الصدقة بيد علي (عليه السلام)، غلب عليها العباس، وكانت فيها خصومتهما، فأبى عمر أن يقسمها بينهما حتى أعرض عنها العباس وغلب عليها (عليها السلام) ، ثم كانت بيد حسن وحسين ابني علي (عليه السلام) ، ثم كانت بيد علي بن الحسين (عليه السلام) ، والحسن بن الحسن، كلاهما يتداولانها، ثم بيد زيد بن علي (عليه السلام).

قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدّثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال: حدّثنا يونس، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، أنّ عمر بن الخطاب دعاه يوماً بعد ما ارتفع النهار، قال: فدخلت عليه وهو جالس على سرير رمال ليس بينه وبين الرمال فراش، على وسادة أدم، فقال: يا مالك، إنّه قد قدم من قومك أهل أبيات حضروا المدينة، وقد أمرت لهم برضخ فاقسمه بينهم، فقلت: يا أمير المؤمنين، مُرْ بذلك غيري، قال: اقسم أيّها المرء.

قال: فبينا نحن على ذلك إذ دخل يرفأ فقال: هل لك في عثمان وسعد وعبد الرحمن والزبير يستأذنون عليك؟ قال: نعم، فأذن لهم، قال: ثم لبث قليلاً، ثم جاء فقال: هل لك في علي والعباس يستأذنان عليك؟ قال: ائذن لهما.

فلما دخلا قال عباس: ياأمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا _ يعني علياً _ وهما يختصمان في الصوافي التي أفاء الله على رسوله من أموال بني النضير، قال:


الصفحة 362
فاستبّ علي والعباس عند عمر، فقال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين، اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر.

فقال عمر: أنشدكم الله الذي تقوم بإذنه السماوات والأرض، هل تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «لا نورث ما تركناه صدقة» يعني نفسه؟ قالوا: قد قال ذلك، فأقبل على العباس وعلي فقال: أنشدكما الله هل تعلمان ذلك؟ قالا: نعم.

قال عمر: فإنّي أحدثكم عن هذا الأمر، إنّ الله تبارك وتعالى خصّ رسوله (صلى الله عليه وآله) في هذا الفيء بشيء لم يُعطه غيره، قال تعالى: {مَا أفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل ٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ}(1)، وكانت هذه خاصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)،فما اختارها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، لقد أعطاكُمُوها وثبتها فيكم حتى بقى منها هذا المال، وكان ينفق منه على أهله سنتهم، ثم يأخذ ما بقي فيجعله فيما يجعل مال الله، فعل ذلك في حياته ثم توفّى، فقال أبو بكر: أنا وليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقبضه الله وقد عمل فيها بما عمل به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنتما حينئذٍ _ والتفت إلى علي والعباس _ تزعمان أنّ أبا بكر فيها ظالم فاجر فاجر، والله يعلم إنّه فيها لصادق بارٌّ راشد، تابع للحق.

ثم توفى الله أبا بكر، فقلت: أنا أولى الناس بأبي بكر وبرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقبضتها سنتين _ أو قال: سنين من إمارتي _ أعمل فيها مثل ما عمل به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبو بكر، ثم قال: وأنتما _ وأقبل على العباس وعلي _ تزعمان أنّي فيها ظالم فاجر، والله يعلم أنّي فيها بارّ راشد تابع للحق.

ثم جئتماني وكلمتكما واحدة، وأمركما جميع، فجئتني _ يعني العباس _ تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا _ يعني علياً _ يسألني نصيب امرأته

____________

1- الحشر: 6.


الصفحة 363
من أبيها، فقلت لكما: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «لا نورث، ما تركناه صدقة»، فلما بدا لي أن أدفعها إليكما قلت: أدفعها على أنّ عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وابو بكر، وبما عملتُ به فيها، وإلاّ فلا تكلماني! فقلتُما: ادفعها إلينا بذلك، فدفعتها إليكما بذلك، أفتلتمسان منّي قضاء غير ذلك! والله الذي تقوم بإذنه السماوات والأرض لا أقضي بينكما بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فادفعاها إليّ فأنا أكفيكماها!

قال أبو بكر: وحدّثنا أبو زيد قال: حدّثنا إسحاق بن إدريس، قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك قال: حدّثني يونس، عن الزهري قال: حدّثني مالك بن أوس بن الحدثان بنحوه؛ قال: فذكرت ذلك لعروة فقال: صدق مالك بن أوس، أنا سمعتُ عائشة تقول: أرسل أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسأل لهنّ ميراثهنّ من رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما أفاء الله عليه حتى كنت أردهنّ عن ذلك، فقلت: ألا تتقين الله، ألم تعلمن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: «لا نورث، ما تركناه صدقة _ يريد بذلك نفسه_ إنّما يأكل آل محمد من هذا المال» فانتهى أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) إلى ما أمرتهنّ به.

قال ابن أبي الحديد: قلت: هذا مشكل، لأنّ الحديث الأول يتضمّن أنّ عمر أقسم على جماعة فيهم عثمان فقال: نشدتكم الله، ألستم تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «لا نورث ما تركناه صدقة»، يعني نفسه! فقالوا: نعم، ومن جملتهم عثمان، فكيف يعلم بذلك فيكون مترسلاً لأزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأله أن يعطيهنّ الميراث! اللّهمّ إلاّ أن يكون عثمان وسعد وعبد الرحمن والزبير صدّقوا عمر على سبيل التقليد لأبي بكر فيما رواه وحُسْنِ الظنّ، وسمّوْا ذلك عِلْماً، لأنه قد يطلق على الظنّ اسم العلم.

فإن قال قائل: فهلاّ حسن ظنّ عثمان برواية أبي بكر في مبدأ الأمر، فلم يكن رسولاً لزوجات النبي (صلى الله عليه وآله) في طلب الميراث؟ قيل له: يجوز أن يكون في مبدأ

الصفحة 364
الأمر شاكاً، ثم يغلب على ظنه صِدْقه لأمارات اقتضت تصديقه، وكل الناس يقع لهم مثل ذلك.

وهاهنا إشكال آخر، وهو أنّ عمر ناشد علياً والعباس: هل تعلمان ذلك؟ فقالا: نعم، فإذا كانا يعلمانه فكيف جاء العباس وفاطمة إلى أبي بكر يطلبان الميراث، على ما ذكره في خبر سابق على هذا الخبر، وقد أوردناه نحن! وهل يجوز أن يقال: كان العباس يعلم ذلك ثم يطلب الإرث الذي لا يستحقه؟

وهل يجوز أن يقال: إن علياً كان يعلم ذلك ويمكّن زوجته أن تطلب ما لا تستحقه؟ خرجت من دارها إلى المسجد، ونازعت أبا بكر، وكلّمته بما كلّمته إلاّ بقوله وإذنه ورأيه. وأيضاً فإنّه إذا كان (صلى الله عليه وآله) لا يورث، فقد أشكل دفع آلته ودابته وحذائه إلى علي (عليه السلام)، لأنه غير وارث في الأصل، وإن كان أعطاه ذلك لأنّ زوجته بعرضة أن ترث لولا الخبر، فهو أيضاً غير جائز، لأنّ الخبر قد منع من أن يرث منه شيئاً قليلاً أو كثيراً.

فإن قال قائل: نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضّة ولا أرضاً ولا عقاراً ولا داراً، قيل: هذا الكلام يُفهم من مضمونه أنّهم لا يورثون شيئاً أصلاً، لأنّ عادة العرب جاريةٌ بمثل ذلك، وليس يقصدون نفي ميراث هذه الأجناس المعدودة دون غيرها، بل يجعلون ذلك كالتصريح بنفي أن يورثوا شيئاً ما على الإطلاق.

وأيضاً فإنّه جاء في خبر الدابة والآلة والحذاء أنه روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا نورث، ما تركناه صدقة»، ولم يقل: «لا نورث كذا ولا كذا»، وذلك يقتضي عموم انتفاء الإرث عن كل شيء.

وأما الخبر الثاني، وهو الذي رواه هشام بن محمد الكلبي عن أبيه، ففيه إشكال أيضاً؛ لأنّه قال: إنّها طلبت فَدَك، وقالت: إنّ أبي أعطانيها، وإنّ أمّ أيمن تشهد لي بذلك، فقال لها أبو بكر في الجواب: إنّ هذا المال لم يكن لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنّما

الصفحة 365
كان مالاً من أموال المسلمين، يحمل به الرجال، وينفقه في سبيل الله؛ فلقائل أن يقول له: أيجوز للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يملّك ابنته أو غير ابنته من أفناء الناس ضيعةً مخصوصة، أو عقاراً مخصوصاً من مال المسلمين، لِوَحْي أوْحَى الله تعالى إليه، أو لاجتهاد رأيه على قول من أجاز له أن يحكم بالاجتهاد، أو لا يجوز للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك؟

فإن قال: لا يجوز، قال مالا يوافقه العقل ولا المسلمون عليه، وإن قال: يجوز ذلك، قيل: فإن المرأة ما اقتصرت على الدعوى، بل قالت: أمّ أيمن تشهد لي، فكان ينبغي أن يقول لها في الجواب: شهادة أم أيمن وحدها غير مقبولة؛ ولم يتضمّن هذا الخبر ذلك، بل قال لها لمّا ادعت وذكرت من يشهد لها: هذا مالٌ من مال الله لم يكن لرسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ وهذا ليس بجواب صحيح.

وأمّا الخبر الذي رواه محمد بن زكريا عن عائشة، ففيه من الإشكال مثل ما في هذا الخبر، لأنّه إذا شهد لها علي (عليه السلام) وأمّ أيمن أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهب لها فَدَك، لم يصح اجتماع صدقها وصدق عبد الرحمن وعمر، ولا ما تكلّفه أبو بكر من تأويل ذلك بمستقيم، لأنّ كونها هبة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لها يمنع من قوله: «كان يأخذ منها قوتكم ويقسم الباقي، ويحمل منه في سبيل الله» لأنّ هذا ينافي كونها هبة لها، لأنّ معنى كونها لها انتقالها إلى ملكيتها، وأن تتصرّف فيها خاصّة دون كل أحد من الناس، وما هذه صفته كيف يقسم ويحمل منه في سبيل الله!

فإن قال قائل: هو (صلى الله عليه وآله) أبوها، وحكمه في مالها كحكمه في ماله وفي بيت مال المسلمين، فلعلّه كان بحكم الأبوّة يفعل ذلك!

قيل: فإذاً كان يتصرّف فيها تصرّف الأب في مال ولده، ولا يخرجه ذلك عن كونه مال ولده، فإذا مات الأب لم يجز لأحد أن يتصرّف في مال ذلك الولد، لأنّه ليس بأب له فيتصرّف في ماله تصرّف الآباء في أموال أولادهم، على أنّ الفقهاء أو مُعظمهم لا يجيزون للأب أن يتصرف في مال الابن.


الصفحة 366
وهاهنا إشكالٌ آخر، وهو قول عمر لعلي (عليه السلام) والعباس: وأنتما حينئذٍ تزعمان أنّ أبا بكر فيها ظالم فاجر، ثم قال لمّا ذكر نفسه: وأنتما تزعمان أنّي فيها ظالم فاجر، فإذا كانا يزعمان ذلك فكيف يزعم هذا الزعم مع كونهما يعلمان أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «لا أورث»! إنّ هذا لمن أعجب العجائب.

ولولا أنّ هذا الحديث _ أعني حديث خصومة العباس وعلي عند عمر _ مذكورٌ في الصحاح المجمع عليها لما أطلت العجب من مضمونه، إذ لو كان غير مذكور في الصحاح لكان بعض ما ذكرناه يطعن في صحّته؛ وإنّما الحديث في الصحاح لا ريب في ذلك.

قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدّثنا ابن أبي شيبة، قال: حدّثنا ابن عُلَيّة، عن أيّوب، عن عكرمة، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: جاء العباس وعلي إلى عمر، فقال العباس: اقضِ بيني وبين هذا الكذا وكذا، أي يشتمه، فقال الناس: افصل بينهما، فقال: لا أفصل بينهما، قد علما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «لا نورث، ما تركناه صدقة».

قلت: وهذا أيضاً مُشكل، لأنّهما حضرا يتنازعان لا في الميراث، بل في ولاية صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيّهما يتولاّها ولايةً لا إرثاً! وعلى هذا كانت الخصومة، فهل يكون جواب ذلك قد علما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «لا نورث»!

قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدّثني يحيى بن كثير أبو غسان، قال: حدّثنا شعبة عن عمر بن مرّة، عن أبي البختري قال: جاء العباس وعلي إلى عمر وهما يختصمان، فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد: أنشدكم الله، أسمعتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «كلّ مال نبيّ فهو صدقة، إلاّ ما أطعمه أهله، إنّا لا نورث»! فقالوا: نعم، قال: وكان رسول الله يتصدّق به، ويَقسِم فضله، ثم توفّى فوليه أبو بكر سنتين يصنع فيه ما كان يصنع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنتما تقولان: إنّه كان بذلك خاطئاً،

الصفحة 367
وكان بذلك ظالماً، وما كان بذلك إلاّ راشداً، ثم وليته بعد أبي بكر فقلت لكما: إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعهده الذي عهد فيه، فقلتما: نعم، وجئتماني الآن تختصمان؛ يقول هذا: أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا: أريد نصيبي من امرأتي! والله لا أقضي بينكما إلاّ بذلك.

قلت: وهذا أيضاً مشكل، لأنّ أكثر الروايات أنّه لم يرو هذا الخبر إلاّ أبو بكر وحده، ذكر ذلك أعظم المحدثين، حتى انّ الفقهاء في اصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد.

وقال شيخنا أبو علي: لا تقبل في الرواية إلاّ رواية اثنين كالشهادة، فخالفه المتكلّمون والفقهاء كلّهم، واحتجوا عليه بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»، حتى انّ بعض أصحاب أبي علي تكلّف لذلك جواباً، فقال: قد روي أنّ أبا بكر يوم حاجّ فاطمة (عليها السلام) قال: أنشد الله امرءاً سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا شيئاً! فروى مالك بن أوس بن الحدثان؛ أنّه سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذا الحديث ينطق بأنّه استشهد عمر وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعداً، فقالوا: سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأين كانت هذه الروايات أيّام أبي بكر! ما نقل أنّ أحداً من هؤلاء يوم خصومة فاطمة (عليها السلام) وأبي بكر روى من هذا شيئاً.

قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبّة، قال: حدّثنا محمد بن يحيى، عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنّ أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسلن عثمان إلى أبي بكر، فذكر الحديث، قال عروة، وكانت فاطمة قد سألت ميراثها من أبي بكر ممّا تركه النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال لها: بأبي أنتِ وأمّي، وبأبي أبوكِ وأمّي ونفسي، إن كنتِ سمعتِ من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً، أو أمركِ بشيء لم أتّبع غير ما تقولين، وأعطيتكِ ما تبتغين، وإلا فإنّي أتبع ما أمرتُ به!

قال أبو بكر: وحدّثنا أبو زيد قال: حدّثنا عمرو بن مرزوق، عن شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أبي البختري قال: قال لها أبو بكر لمّا طلبت فَدَك: بأبي أنتِ