قلت: وفي هذا من الإشكال ما هو ظاهر، لأنّها قد ادّعت أنّه عهد إليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذلك أعظم العهد، وهو النحلة، فكيف سكتت عن ذكر هذا لمّا سألها أبو بكر! وهذا أعجب من العجب.
قال أبو بكر: وحدّثنا أبو زيد؛ قال: حدّثنا محمّد بن يحيى، قال: حدّثنا عبدالعزيز بن عمران بن عبدالعزيز بن عبدالله الأنصاري، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: سمعت عمر وهو يقول للعباس وعليّ وعبدالرحمن بن عوف والزبير وطلحة: أنشدكم الله هل تعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «إنّا لا نورث، معاشر الأنبياء، ما تركنا صدقة»؟ قالوا: اللّهمّ نعم، قال: أنشدكم الله هل تعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدخل في فيئه أهله السنة من صدقاته، ثمّ يجعل ما بقي في بيت المال! قالوا: اللّهمّ نعم.
فلمّا توفّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبضها أبو بكر، فجئت ياعباس تطلب ميراثك من ابن أخيك، وجئت يا عليّ تطلب ميراث زوجتك من أبيها! وزعمتما أنّ أبا بكر كان فيها خائناً فاجراً، والله لقد كان امرءاً مطيعاً، تابعاً للحقّ، ثمّ توفى أبو بكر فقبضتها، فجئتماني تطلبان ميراثكما، أما أنت ياعباس فتطلب ميراثك من ابن أخيك، وأما عليّ فيطلب ميراث زوجته من أبيها، وزعمتما أنّي فيها خائن وفاجر، والله يعلم أنّي فيها مطيع تابع للحق؛ فأصلحا أمركما، وإلاّ والله لم ترجع إليكما. فقاما وتركا الخصومة وأمضيت صدقة.
____________
1- النساء: 11.
قلت: وهذا الحديث يدل صريحاً على أنّهما جاءا يطلبان الميراث لا الولاية، وهذا من المشكلات، لأنّ أبا بكر حسم المادة أولاً، وقرر عند العباس وعليّ وغيرهما أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يورث، وكان عمر من المساعدين له على ذلك، فكيف يعود العباس وعليّ بعد وفاة أبي بكر، يحاولان أمراً قد كان فرغ منه، ويئس من حصوله، اللهم إلاّ أن يكونا ظنا أنّ عمر ينقض قضاء أبي بكر في هذه المسألة، وهذا بعيد، لأن عليّاً والعباس كانا في هذه المسألة يتهمان عمر بممالأة أبي بكر على ذلك، ألا تراه يقول: نسبتماني ونسبتما أبا بكر إلى الظلم والخيانة، فكيف يظنّان أنّه ينقض قضاء أبي بكر ويورثهما!
واعلم أنّ الناس يظنون أنّ نزاع فاطمة أبا بكر كان في أمرين: في الميراث والنّحلة، وقد وجدت في الحديث أنّها نازعت في أمر ثالث، ومنعها أبو بكر إيّاه أيضاً، وهو سهم ذوي القربى.
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري: أخبرني أبو زيد عمر بن شبّة، قال: حدّثني هارون بن عمير، قال: حدّثنا الوليد بن مسلم، قال: حدّثني صدقة أبو معاوية، عن محمّد بن عبدالله، عن محمّد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، أنّ فاطمة (عليها السلام) أتت أبا بكر فقالت: لقد علمت الّذي ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات، وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربي! ثمّ قرأت عليه قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا انّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبـَى}(1) الآية.
____________
1- الأنفال: 41.
قالت: أفلك هو ولأقربائك؟ قال: لا، بل أنفق عليكم منه، وأصرف الباقي في مصالح المسلمين، قالت: ليس هذا حكم الله تعالى؛ قال: هذا حكم الله، فإن كان رسول الله عهد إليك في هذا عهداً أو أوجبه لكم حقاً صدّقتكِ وسلّمته كلّه إليكِ وإلى أهلكِ؛ قالت: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يعهد إليَّ في ذلك بشيء، إلاّ أنّي سمعته يقول لما أنزلت هذه الآية: «أبشروا آل محمّد فقد جاءكم الغنى».
قال أبو بكر: لم يبلغ علمي من هذه الآية أن أسلم إليكم هذا السهم كلّه كاملاً، ولكن لكم الغنى الّذي يغنيكم، ويفضل عنكم، وهذا عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فاسأليهم عن ذلك، وانظري هل يوافقك على ما طلبتِ أحد منهم! فانصرفت إلى عمر فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر، فقال لها مثل ما قاله لها أبو بكر، فعجبت فاطمة (عليها السلام) من ذلك، وتظنّت أنّهما كانا قد تذاكرا ذلك واجتمعا عليه.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدّثنا هارون بن عمير، قال: حدّثنا الوليد، عن ابن أبي لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: أرادت فاطمة أبا بكر على فَدَك وسهم ذوي القربى، فأبى عليها، وجعلهما في مال الله تعالى.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد، قال: حدّثنا أحمد بن معاوية، عن هيثم، عن جويبر، عن أبي الضحاك، عن الحسن بن محمّد بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، أنّ أبا بكر منع فاطمة وبني هاشم سهم ذوي القربى، وجعله في سبيل الله في السلاح والكراع.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدّثنا حيان بن هلال، عن محمّد بن يزيد بن ذريع، عن محمّد بن إسحاق، قال: سألت أبا جعفر محمّد بن عليّ (عليهما السلام)؛ قلت:
قال أبو بكر: وحدّثني المؤمل بن جعفر، قال: حدّثني محمّد بن ميمون، عن داود بن المبارك، قال: أتينا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن الحسن ونحن راجعون من الحج في جماعة، فسألناه عن مسائل وكنت أحد من سأله، فسألته عن أبي بكر وعمر فقال: سئل جدي عبد الله بن الحسن بن الحسن عن هذه المسألة فقال: كانت أمي صديقة بنت نبيّ مرسل، فماتت وهي غضبى على إنسان، فنحن غضاب لغضبها، وإذا رضيت رضينا.
قال أبو بكر: وحدّثني أبو جعفر محمّد بن القاسم، قال: حدّثني عليّ بن الصباح، قال: أنشدنا أبو الحسن رواية المفضل للكميت:
أهوَى عليّاً أميرَ المؤمنين وَلا | أرضَى بشتم أبي بكر ولا عُمرَا |
ولا أقولُ وإن لم يُعطِيَا فَدَكاً | بنتَ النبيّ ولا ميراثها: كَفَرَا |
الله يَعلم ماذا يَحضُران به | يومَ القيامة من عذرٍ إذا اعتَذَرَا |
قال ابن الصباح: فقال لي أبو الحسن: أتقول: إنّه قد أكفرهما في هذا الشعر! قلت: نعم، قال: كذاك هو.
قال أبو بكر: حدّثنا أبو زيد، عن هارون بن عمير، عن الوليد بن مسلم، عن اسماعيل بن عباس، عن محمّد بن السائب، عن أبي صالح، عن مولى أم هاني، قال: دخلت فاطمة على أبي بكر بعد ما استُخلِف، فسألته ميراثها من أبيها فمنعها، فقالت له: لئن مت اليوم من كان يرثك؟ قال: ولدي وأهلي، قالت: فلم ورثت أنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون ولده وأهله؟ قال: فما فعلت يابنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قالت: بلى، إنك
قال أبو بكر: وحدّثنا محمّد بن زكريا، قال: حدّثنا محمّد بن عبد الرحمن المهلّبي، عن عبد الله بن حمّاد بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن حسن بن حسن، عن أمّه فاطمَة بنتِ الحسين (عليهما السلام)، قالت: لمّا اشتدّ بفاطمةَ بنتِ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوجع وثَقُلت في علّتها، اجتمع عندها نساء من نساء المهاجرين والأنصار، فقلن لها: كيف أصبحتِ ياابنةَ رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
قالت: «واللهِ أصبحتُ عائفةً لدُنياكم، قالِيَةً لرجالكم، لفظتُهم بعد أن عَجمْتُهم، وشِنئتهم بعد أن سَبَرتهم، فقبحاً لفُلول الحدّ، وخَوَر القناة، وخَطَل الرأي، وبئسما قدّمَت لهم أنفسُهم أن سَخِط اللهُ عليهم وفي العذاب هم خالدون؛ لا جرم قد قلّدتهم رِبْقَتها، وشنّت عليهم غارتها، فجَدْعاً وعَقْراً، وسُحْقاً للقوم الظالمين، وَيْحَهم أين زحزحوها عن رَوَاسي الرّسالة، وقواعدِ النبوّة، ومَهبِط الرُّوح الأمين، والطيّبين (كذا) بأمر الدّنيا والدّين، ألا ذلك هو الخسران المبين.
وما الّذي نَقَموا من أبي حسن؟ نَقَموا واللهِ نكيرَ سيفه، وشِدّة وَطْأته، ونَكالَ وَقْعته، وتنمّره في ذات الله، وتالله لو تكافُّوا عن زِمام نبذَه إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لاعتَلَقه، ولسار إليهم سيراً سُجُحاً، لا تكلم حشاشته، ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم مَنهلاً نَميراً فضفاضاً يطفح ضفّتاه، ولأصدرهم بِطاناً قد تحيّر بهم الرأي، غير متحلّ بطائل، إلاّ بغَمْر الناهل، وردعه سورة الساغبِ، ولفتحتْ عليهم بركات من السّماء والأرض، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون.
ألا هلمّ فاستمع وما عشت أراك الدهر عجبه، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث، إلى أيّ لجأ استندوا، وبأيّ عُروة تمسّكوا! لبئسَ المَولى ولبئس العَشِير،
قلت: هذا الكلام وإن لم يكن فيه ذكرُ فَدَك والميراث، إلاّ أنّه من تتمّة ذلك، وفيه إيضاح لما كان عندها، وبيانٌ لشدّة غيظها وغَضَبها، فإنّه سيأتي فيما بعد ذكر ما يناقض به قاضي القضاة والمرتضى في أنّها هل كانت غضبى أم لا! ونحن لا ننصر مذهباً بعينه، وإنّما نذكر ما قيل، وإذا جرى بحثٌ نظريٌّ قلنا ما يقوى في أنفسنا منه.
واعلم أنّا إنّما نذكر في هذا الفصل ما رواه رجالُ الحديث وثقاتُهم، وما أودعه أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتابه، وهو من الثّقات الأمناء عند أصحاب الحديث، وأمّا ما يرويه رجال الشيعة والأخباريون منهم في كتبهم من قولهم: إنّهما أهاناها وأسمعاها كلاماً غليظاً، وإنّ أبا بكر رقّ لها حيث لم يكن عمر حاضراً، فكتب لها بفدك كتاباً، فلمّا خرجت به وجدها عمر، فمدّ يده إليه ليأخذه مغالبة،
____________
1- البقرة: 12.
2- يونس: 35.
3- كذا والصواب: القعب.
يا ابنةَ القومِ تُراكِ | بالغٌ قَتْلَي رِضاكِ |
وقد ذيل عليها بعض الشيعة وأتمّها، والأبيات:
يا ابنةَ الطّاهِرِ كَمْ تُقْـ | ـرَع بالظّلم عَصاكِ |
غَضِبَ اللهُ لخَطْبٍ | ليلةَ الطَّفّ عَراكِ |
ورَعَى النارَ غَداً قـ | ـط رَعى أمسِ حماكِ |
مَرّ لم يعطِفه شكوَا | ه ولا استحيا بكاكِ |
واقتدى الناس به بعـ | ـد فأرْدَى وَلَدَاكِ |
يا ابنةَ الرّاقي إلى السد | رة في لوح السكاكِ |
لهف نفسي وعلى مِثـ | ـلِك فلْتبكِ البَواكي |
كيف لم تقطع يَدٌ مـــــ | ـدَّ إليك ابن صهاكِ |
فَرِحوا يومَ أهانو | كِ بما ساءَ أباكِ |
ولقد أخبَرَهم أنّ | رضاه في رِضاكِ |
دَفعا النصّ على إر | ثكِ لمّا دَفَعاكِ |
وتعرّضْتِ لقَدْرٍ | تافهٍ وانتَهَزاكِ |
وادّعيت النَّحْلةَ المشـ | ـهود فيها بالصِّكاكِ |
فاستشاطَا ثمّ ما إن | كذَبا إن كذّباكِ |
فزوَى اللهُ عن الرّحْـ | ـمةِ زنديقاً ذَواكِ |
ونَفَى عن بابه الوا | سع شيطاناً لَفاكِ |
فانظر إلى هذه البلية الّتي صبت من هؤلاء على سادات المسلمين، وأعلام المهاجرين! وليس ذلك بقادح في علوّ شأنهم، وجلالة مكانهم، كما أنّ مبغضي الأنبياء وحسدتهم، ومصنّفي الكتب في إلحاق العيب والتهجين لشرائعهم لم تزدد لأنبيائهم إلاّ رفعة، ولا زادت شرائعهم إلاّ انتشاراً في الأرض، وقبولاً في النفس، وبهجةً ونوراً عند ذوي الألباب والعقول.
وقال لي عَلَويّ من الحِلّة يُعرف بعليّ بن مهنأ، ذكيّ ذو فضائل: ما تظنّ قصدَ أبي بكر وعمر بمنع فاطمة فَدَك؟ قلت: ما قصدا؟ قال: أرادا ألا يُظهرا لعليّ _ وقد اغتصباه الخلافة _ رقّة وليناً وخذلاناً، ولا يرى عندهما خوَراً، فأتْبعا القرْح بالقرْح.
وقلت لمتكلم من متكلّمي الإمامية يُعرف بعليّ بن تقيّ من بلدة النيل: وهل كانت فَدَك إلاّ نخلاً يسيراً وعقاراً ليس بذلك الخطير! فقال لي: ليس الأمرُ كذلك، بل كانت جليلة جدّاً، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل، وما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلاّ ألاّ يتقوّى عليّ بحاصلها وغلّتها على المنازعة في الخلافة، ولهذا أتبعا ذلك بمنع فاطمة وعليّ وسائر بني هاشم وبني المطلب حقّهم في الخمس، فإنّ الفقير الّذي لا مال له تضعف همّته، ويتصاغر عند نفسه، ويكون مشغولاً بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرياسة.
فانظر إلى ما قد وقر في صدور هؤلاء، وهو داء لا دواء له، وما أكثر ما تزول الاخلاق والشّيم، فأما العقائد الراسخة فلا سبيل إلى زوالها!
القسم الثاني: في النظر في أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) هل يورث أم لا، نذكر في هذا الموضع ما حكاه المرتضى (رحمه الله) في «الشافي» عن قاضي القضاة في هذا المعنى، وما اعترضه به، وإن استضعفنا شيئاً من ذلك قلنا ما عندنا، وإلاّ تركناه على حاله.
ثم أجاب_ يعني قاضي القضاة _عن ذلك، فقال: إنّ الخبر الّذي احتج به أبو بكر _ يعني قوله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث» _ لم يقتصر على روايته هو وحده حتى استشهد عليه عمر وعثمان وطلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن،فشهدوا به، فكان لا يحل لأبي بكر وقد صار الأمر إليه أن يقسم التركة ميراثاً، وقد خبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنّها صدقة وليست بميراث، وأقلّ ما في هذا الباب أن يكون الخبر من أخبار الآحاد، فلو أنّ شاهدين شهدا في التركة أنّ فيها حقاً، أليس كان يجب أن يصرف ذلك عن الإرث! فعلمه بما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع شهادة غيره أقوى.
ولسنا نجعله مدّعياً لأنّه لم يدع ذلك لنفسه، وإنّما بيّن أنّه ليس بميراث، وأنّه صدقة، ولا يمتنع تخصيص القرآن بذلك، كما يخصّ في العبد والقاتل وغيرهما، وليس ذلك بنقص في الأنبياء، بل هو إجلالٌ لهم، يرفع الله به قدرهم عن أن يورّثوا المال، وصار ذلك من أوكد الدواعي ألاّ يتشاغلوا بجمعه، لأن أحد الدواعي القوية إلى ذلك تركه على الأولاد والأهلين، ولما سمعت فاطمة (عليها السلام) ذلك من أبي بكر كفّت عن الطلب فيما ثبت من الأخبار الصحيحة، فلا يمتنع أن تكون غير عارفة بذلك، فطلبت الإرث، فلما روى لها ما روى كفّت، فأصابت أولاً وأصابت ثانياً.
وليس لأحد أن يقول: كيف يجوز أن يبيّن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك للقوم ولا حقّ لهم في الإرث، ويدع أن يبيّن ذلك لمن له حق في الإرث، مع أنّ التكليف يتصل به؛
____________
1- النساء: 11.
قال: ثمّ حكى عن أبي عليّ أنّه قال: أتعلمون كذِبَ أبي بكر في هذه الرواية، أم تجوّزون أن يكون صادقاً؟ قال: وقد علم أنّه لا شيء يقطع به على كذبه، فلابدّ من تجويز كونه صادقاً، وإذا صحّ ذلك قيل لهم: فهل كان يحلّ له مخالفة الرسول؟
فإن قالوا: لو كان صِدقاً لظهر واشتهر، قيل لهم: إنّ ذلك من باب العمل، ولا يمتنع أن ينفرد بروايته جماعة يسيرة، بل الواحد والاثنان، مثل سائر الأحكام ومثل الشهادات، فإن قالوا: نعلم أنّه لا يصحّ لقوله تعالى في كتابه: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}(1). قيل لهم: ومن أين أنّه ورثه الأموال؛ مع تجويز أن يكون ورثه العلم والحكمة؟
فإن قالوا: إطلاق الميراث لا يكون إلاّ في الأموال؛ قيل لهم: إن كتاب الله يُبطل قولَكم، لأنّه قال: {ثُمَّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَـفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(2)، والكتاب ليس بمال، ويقال في اللغة: ما ورثت الأبناء عن الآباء شيئاً أفضل من أدب حَسَن؛ وقالوا: العلماء ورثة الأنبياء، وإنّما ورثوا منهم العلم دون المال، على أنّ في آخر الآية ما يدلّ على ما قلناه، وهو قوله تعالى حاكياً عنه: {وَقَالَ يَا أيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَاُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْء إنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ}(3)، فنبّه على أنّ الّذي ورث هو هذا العلم وهذا الفضل، وإلاّ لم يكن لهذا القول تعلق بالأول.
____________
1- النمل: 16.
2- فاطر: 32.
3- النمل: 16.
قال: فأمّا مَن يقول إنّ المراد أنّا معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة، أي ما جعلناه صدقة في حال حياتنا لا نورثه، فركيك من القول، لأنّ إجماع الصحابة يخالفه، لأنّ أحداً لم يتأوّله على هذا الوجه، ولأنّه لا يكون في ذلك تخصيص الأنبياء، ولا مزية لهم، ولأنّ قوله: «ما تركناه صدقة»، جملة من الكلام مستقلّة بنفسها، كأنّه (عليه السلام) مع بيانه أنّهم لا يورثون المال يبيّن أنّه صدقة، لأنّه كان يجوز ألاّ يكون ميراثاً، ويصرف إلى وجه آخر غير الصدقة.
قال: فأمّا خبر السيف والبغلة والعمامة وغير ذلك، فقد قال أبو عليّ: إنّه لم يثبت أنّ أبابكر دفع ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) على جهة الإرث، كيف يجوز ذلك مع الخبر الّذي رواه، وكيف يجوز لو كان وارثاً أن يخصّه بذلك ولا إرث له مع العمّ لأنّه عصبة!
فإن كان وصل إلى فاطمة (عليها السلام) فقد كان ينبغي أن يكون العباس شريكاً في ذلك وأزواج الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولوجب أن يكون ذلك ظاهراً مشهوراً ليُعرف أنّهم
____________
1- مريم: 5 _ 6.
2- مريم: 5.
قال: وحكى عن أبي عليّ في البُرد والقضيب أنّه لم يمتنع أن يكون جعله عدة في سبيل الله وتقوية على المشركين، فتداولته الأئمة لما فيه من التقوية، ورأى أنّ ذلك أولى من أن يتصدق به إن ثبت أنّه (عليه السلام) لم يكن قد نحله غيره في حياته، ثمّ عارض نفسه بطلب أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) الميراث، وتنازع أمير المؤمنين (عليه السلام) والعباس بعد موت فاطمة (عليها السلام) ، وأجاب عن ذلك بأن قال: يجوز أن يكونوا لم يعرفوا رواية أبي بكر وغيره للخبر.
وقد روي أنّ عائشة لمّا عرّفتهنّ الخبر أمسكن، وقد بيّنا أنّه لا يمتنع في مثل ذلك أن يخفى على من يستحق الإرث، ويعرفه من يتقلّد الأمر، كما يعرف العلماء والحكام من أحكام المواريث ما لا يعلمه أرباب الإرث، وقد بيّنا أنّ رواية أبي بكر مع الجماعة أقوى من شاهدين لو شهدا أنّ بعض تركته (عليه السلام) دين، وهو أقوى من رواية سلمان وابن مسعود لو رويا ذلك.
قال: ومتى تعلّقوا بعموم القرآن أريناهم جواز التخصيص بهذا الخبر، كما أن عموم القرآن يقتضي كون الصدقات للفقراء، وقد ثبت أنّ آل محمّد لا تحلّ لهم الصدقة.
هذا آخر ما حكاه المرتضى من كلام قاضي القضاة.
ثم قال: نحن نبيّن أوّلاً ما يدل على أنّه (صلى الله عليه وآله) يورث المال، ونرتّب الكلام في ذلك الترتيب الصحيح، ثمّ نعطف على ما أورده، ونتكلّم عليه.
فخبر أنّه خاف من بني عمّه، لأنّ الموالي هاهنا هم بنو العمّ بلا شبهة، وإنّما خافهم أن يرثوا ماله فينفقوه في الفساد، لأنّه كان يعرف ذلك من خلائقهم وطرائقهم، فسأل ربّه ولداً يكون أحق بميراثه منهم.
والذي يدل على أنّ المراد بالميراث المذكور ميراث المال دون العلم والنبوة على ما يقولون، إنّ لفظة الميراث في اللغة والشريعة لا يفيد إطلاقها إلاّ ما يجوز أن ينتقل على الحقيقة من الموروث إلى الوارث، كالأموال وما في معناها، ولا يُستعمل في غير المال إلاّ تجوّزاً واتساعاً، ولهذا لا يُفهم من قول القائل: لا وارث لفلان إلاّ فلان، وفلان يرث مع فلان بالظاهر والإطلاق إلاّ ميراث الأموال والأعراض دون العلوم وغيرها، وليس لنا أن نعدل عن ظاهر الكلام وحقيقته إلى مجازه بغير دلالة.
وأيضاً فإنّه تعالى خبّر عن نبيّه أنّه اشترط في وارثه أن يكون رضيّاً، ومتى لم يُحمل الميراث في الآية على المال دون العلم والنبوة لم يكن للاشتراط معنى، وكان لغواً وعبثاً؛ لأنّه إذا كان إنّما سأل من يقوم مقامه، ويرث مكانه فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في جملة كلامه وسؤاله؛ فلا مقتضى لاشتراطه، ألا ترى أنّه لا يحسن أن يقول: اللهم ابعث إلينا نبياً واجعله عاقلاً، [ومكلّفاً]؛ فإذا ثبتت هذه الجملة صحّ أنّ زكريا موروث ماله، وصحّ أيضاً لصحتها أنّ نبينا (صلى الله عليه وآله) ممن يورث المال، لأنّ الإجماع واقع على أنّ حال نبينا (صلى الله عليه وآله) لا يخالف حال الأنبياء المتقدّمين في ميراث المال، فمن مثبت للأمرين ونافٍ للأمرين.
____________
1- مريم: 5 _ 6.
فإن قلت: أيصح من المرتضى أن يوافق على أنّ صورة الخبر هكذا، ثمّ يحتجّ بقصّة زكريا بأن يقول: إذا ثبت أنّ زكريا موروث، ثبت أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجوز أن يكون موروثاً، لإجماع الأمة على أن لا فرق بين الأنبياء كلّهم في هذا الحكم!
قلت: وإن ثبت له هذا الإجماع صحّ احتجاجه، ولكن ثبوته يبعد، لأنّ من نفى كون زكريا (عليه السلام) موروثاً من الأمة إنّما نفاه لاعتقاده أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «نحن معاشر الأنبياء»(1)، فإذا كان لم يقل هكذا، لم يقل: إنّ زكريا (عليه السلام) غير موروث.
قال المرتضى: ومما يقوي ما قدمناه أنّ زكريا (عليه السلام) خاف بني عمّه، فطلب وارثاً لأجل خوفه، ولا يليق خوفه منهم إلاّ بالمال دون العلم والنبوّة، لأنّه (عليه السلام) كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيّاً ليس بأهل للنبوّة، أو أن يورث علمه وحكمه من ليس أهلاً لهما، ولأنّه إنّما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس، فلا يجوز أن يخاف من الأمر الّذي هو الغرض في البعثة.
____________
1- لقد ورد بلفظ: (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث...) في جملة مصار من التراث السني منها: فتح الباري لابن حجر 12: 8، ط دار الفكر بيروت, وزاد المسير لابن الجوزي 5: 209، ط دار الفكر بيروت, واللئالئ المصنوعة للسيوطي 2: 235، ط دار الكتاب العربي بمصر, والبداية والنهاية لابن كثير 2: 154، و 4: 203، و 5: 290، ط دار الفكر بيروت، وتحفة الطالب لابن كثير 1: 336، نشر دار حواء بمكة المكرمة سنة 1406, ومسند الربيع بن حبيب 2: 62،تصوير مكتبة الثقافة وأخيراً موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف 10: 17، ط عالم التراث.
فإن قيل: أفلا جاز أن يكون خاف من بني عمّه أن يرثوا علمه، وهم من أهل الفساد على ما ادّعيتم فيستفسدوا به الناس، ويموّهوا به عليهم؟ قلنا: لا يخلو هذا العلم الّذي أشرتم إليه من أن يكون هو كتب علمه وصحف حكمته _ لأنّ ذلك قد يسمّى علماً على طريق المجاز _ أو يكون هو العلم الّذي يحل القلب، وإن كان الأوّل فهو يرجع إلى معنى المال، ويصحّ أنّ الأنبياء يورثون أموالهم وما في معناها، وإن كان الثاني لم يخل هذا من أن يكون هو العلم الّذي بُعث النبيّ لنشره وأدائه، أو أن يكون علماً مخصوصاً لا يتعلّق بالشريعة، ولا يجب اطلاع جميع الأمّة عليه، كعلم العواقب وما يجري في مستقبل الأوقات، وما جرى مجرى ذلك.
والقسم الأوّل لا يجوز على النبيّ أن يخاف من وصوله إلى بني عمّه، وهم من جملة أمّته الّذين بعث لاطلاعهم على ذلك، وتأديته إليهم، وكأنّه على هذا الوجه يخاف ممّا هو الغرض من بعثته.
والقسم الثاني فاسدٌ أيضاً، لأنّ هذا العلم المخصوص إنّما يستفاد من جهته، ويوقف عليه باطلاعه وإعلامه؛ وليس هو ممّا يجب نشره في جميع الناس، فقد كان يجب إذا خاف من إلقائه إلى بعض الناس فساداً ألاّ يلقيه إليه، فإنّ ذلك في يده، ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك.
قال المرتضى (رضي الله عنه): وممّا يدلّ على أنّ الأنبياء يورثون قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}(1)، والظاهر من إطلاق لفظة «الميراث» يقتضي الأموال وما في معناها على ما دللنا به من قبل.
قال: ويدلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنثَيَيْنِ...}(2) الآية، وقد أجمعت الأمّة على عموم هذه اللفظة إلاّ من أخرجه الدليل، فيجب أن يتمسّك بعمومها، لمكان هذه الدّلالة، ولا يخرج عن حكمها إلاّ من أخرجه دليل قاطع.
قلت: أمّا قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}، فظاهرها يقتضي وراثة النبوّة أو الملك أو العلم الّذي قال في أوّل الآية: {وَلَـقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً}(3)، لأنّه لا معنى لذكر ميراث سليمان المال، فإنّ غيره من أولاد داود قد ورث أيضاً أباه داود؛ وفي كتب اليهود والنصارى أنّ بني داود كانوا تسعة عشر، وقد قال بعض المسلمين أيضاً ذلك، فأيّ معنىً في تخصيص سليمان بالذكر إذا كان إرث المال!
وأما: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أوْلادِكُمْ}، فالبحث في تخصيص ذلك بالخبر فرع من فروع مسألة خبر الواحد؛ هل هو حجة في الشرعيات أم لا! فإن ثبت مذهب المرتضى في كونه ليس بحجة فكلامه هنا جيّد، وإن لم يثبت فلا مانع من
____________
1- النمل: 16.
2- النساء: 11.
3- النمل: 15.
قال المرتضى: وأمّا تعلّق صاحب الكتاب بالخبر الّذي رواه أبو بكر، وادعاؤه أنّه استشهد عمر وعثمان وفلاناً وفلاناً، فأوّل ما فيه أنّ الّذي ادعاه من الاستشهاد غير معروف، والذي روي أنّ عمر استشهد هؤلاء النفر لمّا تنازع أمير المؤمنين (عليه السلام) والعباس (رضي الله عنه) في الميراث، فشهدوا بالخبر المتضمّن لنفي الميراث، وإنّما مقول مخالفينا في صحّة الخبر الّذي رواه أبو بكر عند مطالبة فاطمة (عليها السلام) بالإرث على إمساك الأمّة عن النكير عليه، والرّد لقضيّته.
قلت: صدق المرتضى (رحمه الله) فيما قال، أمّا عَقِيب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، ومطالبة فاطمة (عليها السلام) بالإرث، فلم يروِ الخبر إلاّ أبو بكر وحده. وقيل: إنّه رواه معه مالك بن أوس بن الحدثان؛وأمّا المهاجرون الّذين ذكرهم قاضي القضاة فإنّما شهدوا بالخبر في خلافة عمر؛ وقد تقدّم ذكر ذلك.
قال المرتضى: ثمّ لو سلّمنا استشهاد مَنْ ذَكر على الخبر لم يكن فيه حجة، لأنّ الخبر على كلّ حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم، وهو في حكم أخبار الآحاد، وليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجري هذا المجرى، لأنّ المعلوم لا يخصّ إلاّ بمعلوم، وإذا كانت دلالة الظاهر معلومة، لم يجز أن يخرج عنها بأمرٍ مظنون.
قال: وهذا الكلام مبنيٌّ على أنّ التخصيص للكتاب والسنّة المقطوع بها لا تقع بأخبار الآحاد، وهو المذهب الصحيح، وقد أشرنا إلى ما يمكن أن يعتمد في الدلالة عليه من أن الظن لا يقابل العلم، ولا يرجع عن المعلوم بالمظنون.