وهلا خاف من هذا الامتناع، ومن هذا الاحتجاج، ومن الخلوة في داره بأصحابه، ومِنْ تنفير الناس عن البيعة التي عقدت حينئذٍ لمن عقدت له!
وكلّ هذا إذا تأمّله المنصِف علم أنّ الشيعة أصابت في أمرٍ، وأخطأت في أمرٍ، أمّا الأمرُ الذي أصابت فيه فقولها: إنه امتنع وتلكّأ، وأراد الأمر لنفسه، وأمّا الأمرُ الذي أخطأت فيه، فقولها: إنّه كان منصوصاً عليه نصّاً جليّاً بالخلافة، تعلمه الصحابة كلّها أو أكثرها، وإنّ ذلك النص خولف طلباً للرئاسة الدنيويّة، وإيثاراً للعاجلة، وإنّ حال المخالفين للنصّ لا تعدو أحد أمرين: إمّا الكفر أو الفسق.
فإنّ قرائن الأحوال وأماراتها لا تدلّ على ذلك، وإنّما تدلّ وتشهد بخلافه، وهذا يقتضي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان في مبدأ الأمر يظنّ أنّ العقد لغيره كان عن غير نظر في المصلحة، وأنّه لم يقصد به إلاّ صرف الأمر عنه، والاستئثار عليه، فظهر منه ما ظهر من الامتناع والقعود في بيته، إلى أن صحّ عنده، وثبت في نفسه، أنهم أصابوا فيما فعلوه، وأنّهم لم يميلوا إلى هوًى، ولا أرادوا الدنيا، وإنما فعلوا الأصلح في ظنونهم، لأنّه رأى من بغض الناس له، وانحرافهم عنه، وميلهم عليه، وثوران الأحقاد التي كانت في أنفسهم، واحتدام النيران التي كانت في قلوبهم، وتذكروا الترات التي وترهم فيما قبل بها، والدماء التي سفكها منهم وأراقها.
وتعلّل طائفة أخرى منهم بكراهية الجمع بين النبوّة والخلافة في بيت واحد، فيجفَخُون(1) على الناس كما قاله من قاله. واستصعاب قوم منهم شكيمته وخوفهم تعديه وشدته، وعلمهم بأنّه لا يداجي ولا يحابي، ولا يراقب ولا يجامل في الدين، وأن الخلافة تحتاج إلى من يجتهد برأيه، ويعمل بموجب استصلاحه.
وانحراف قوم آخرين عنه للحسد الذي كان عندهم له في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لشدّة اختصاصه له، وتعظيمه إياه، وما قال فيه فأكثر من النصوص الدالّة على رفعة شأنه وعلوّ مكانه، وما اختصّ به من مصاهرته وإخوّته، ونحو ذلك من أحواله معه.
وتنكر قوم آخرين له لنسبتهم إليه العُجب والتيه، كما زعموا، واحتقاره العرب، واستصغاره الناس كما عددوه عليه، وإن كانوا عندنا كاذبين، ولكنّه قول قيل، وأمر ذُكر، وحال نُسبت إليه، وأعانهم عليها ما كان يصدر عنه من أقوال تُوهم مثل هذا، نحو قوله: «فإنّا صنائعُ ربّنا، والناس بعد صنائع لنا»، وما صحّ به عنده أنّ الأمر لم يكن ليستقيم له يوماً واحداً، ولا ينتظم ولا يستمرّ، وأنه لو ولي الأمر لفتقت العرب عليه فتقاً يكون فيه استئصال شأفة الإسلام، وهدم أركانه، فأذعن بالبيعة، وجنح إلى الطاعة، وأمسك عن طلب الإمرة، وإن كان على مضض ورَمَضَ.
وقد روي عنه (عليه السلام) أنّ فاطمة (عليها السلام) حرضته يوماً على النهوض والوثوب، فسمع صوت المؤذّن: «أشهد أنّ محمداً رسول الله» فقال لها: «أيسرّكِ زوال هذا النداء من الأرض!» قالت: «لا»، قال: «فإنّه ما أقول لكِ».
____________
1- يجفخون: يفخرون ويتكبرون، وهذا ما صرّح به عمر في محاورة له مع ابن عباس.
واعلم أنّ حال علي (عليه السلام) في هذا المعنى أشهر من أن يحتاج في الدلالة عليها إلى الاسهاب والإطناب، فقد رأيت انتقاض العرب عليه من أقطارها حين بويع بالخلافة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بخمسٍ وعشرين سنة، وفي دون هذه المدّة تنسى الأحقاد، وتموت الترات، وتبرد الأكباد الحامية، وتسلو القلوب الواجدة، ويعدم قرن من الناس، ويوجد قرن، ولا يبقى من أرباب تلك الشحناء والبغضاء إلاّ الأقل.
فكانت حاله بعد هذه المدة الطويلة مع قريش كأنّها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه (صلى الله عليه وآله)، من إظهار ما في النفوس، وهيجان ما في القلوب، حتى إنّ الاخلاف من قريش، والأحداث والفتيان اللذين لم يشهدوا وقائعه وفتكاته في أسلافهم وآبائهم، فعلوا به ما لو كانت الأسلاف أحياءً لقصرت عن فعله، وتقاعست عن بلوغ شأوِه، فكيف كانت تكون حاله لو جلس على منبر الخلافة، وسيفه بعد يقطر دماً من مهج العرب، لا سيما قريش الذين بهم كان ينبغي _ لو دهمه خطب _ أن يعتضد، وعليهم كان يجب أن يعتمد! إذن كانت تدرس أعلام الملة وتنعفي رسوم الشريعة، وتعود الجاهلية الجهلاء على حالها، ويفسد ما أصلحه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ثلاث وعشرين سنة في شهر واحد، فكان من عناية الله تعالى بهذا الدين أن ألهم الصحابة ما فعلوه، والله متمّ نوره ولو كره المشركون.
أقول: رحم الله من قال عن ابن أبي الحديد: لو أوقف خصوم أمير المؤمنين (عليه السلام) بين يدي الله للحساب، ما استطاعوا أن يعتذروا عن أنفسهم كما اعتذر عنهم ابن أبي الحديد.
وهذا غيض من فيض مما ملأ به كتابه شرح نهج البلاغة، وهو بحق نعم الشرح، فهو موسوعة من خيرة الموسوعات التاريخية والأدبية بل وحتى الكلامية،
النص السابع: قال ابن أبي الحديد(1) ما يلي _ وهذا النص حكى فيه ما قاله قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي ورد الشريف المرتضى _ (رحمه الله) _ عليه كما ساق في أوله عدّة نصوص من كتاب السقيفة للجوهري، ونحن نذكر جميع ما ذكره بطوله لغرض اطلاع القارئ على مدى تفانيه في الدفاع عن الشيخين بما لا فائدة معه _ فقال في شرح كلام الإمام (عليه السلام):
«بَلَى! كَانَتْ في أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّماءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْم ٍ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ، وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ، وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَك وَغَيْرِ فَدَك، وَالنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَد جَدَثٌ، تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا، وَتَغِيبُ أَخْبَارُهَا، وَحُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا، وَأَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا، لاََضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ، وَسَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ، وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الاَْكْبَرِ، وَتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ».
واعلم أنّا نتكلّم في شرح هذه الكلمات بثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: فيما ورد في الحديث والسّيَر من أمرِ فَدَك، والقسم الثاني: في هل النبي (صلى الله عليه وآله) يورّث أم لا؟، والقسم الثالث: في أنّ فَدَك هل صحّ كونها نِحْلة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لفاطمة أم لا؟
القسم الأول: فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم، لا مِنْ كتب الشيعة ورجالهم، لأنّا مشترطون على أنفسنا ألاّ نحفل بذلك،
____________
1- المصدر نفسه 16: 208 _ 285.
قال أبو بكر: حدّثني أبو زيد عمر بن شبّة قال: حدّثنا حيّان بن بشر، قال: حدّثنا يحيى بن آدم، قال: أخبرنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري قال: بقيت بقيّة من أهل خيبر تحصّنوا، فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يحقن دماءهم ويُسيَّرهم، ففعل، فسمع ذلك أهل فَدَك فنزلوا على مثل ذلك، وكانت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة، لأنّه لم يُوجِف عليها بخيلٍ ولا رِكاب.
قال أبو بكر: وروى محمد بن إسحاق أيضاً أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا فرغ من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهلِ فَدَك، فبعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصالحوه على النّصف من فَدَك، فقَدِمتْ عليه رسلُهم بخيبر أو بالطريق، أو بعد ما أقام بالمدينة، فقبل ذلك منهم، وكانت فَدَك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خالصةً له، لأنّه لم يوجِف عليها بخيلٍ ولا رِكاب.
قال: وقد روى أنّه صالحهم عليها كلّها، الله أعلم أيُّ الأمرين كان.
قال: وكان مالك بن أنس يحدّث عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حَزْم أنّه صالحهم على النصف، فلم يزل الأمر كذلك حتى أخرجهم عمر بن الخطاب وأجلاهم بعد أن عوّضهم عن النصف الذي كان لهم عوضاً من إبل وغيرها.
وقال غير مالك بن أنس: لمّا أجلاهم عمر بعث إليهم من يقوّم الأموال، بعث أبا الهيثم بن التيهان، وفَرْوة بن عمرو، وحُباب بن صَخْر، وزيد بن ثابت، فقَوّموا أرض فَدَك ونخلَها، فأخذها عمر، ودفع إليهم قيمةَ النصف الذي لهم، وكان مبلغ ذلك خمسين ألف درهم، أعطاهم إيّاها من مالٍ أتاه من العراق، وأجلاهم إلى الشام.
قال: وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه، قال أبو بكر: وحدّثني عثمان بن عمران العجيفي، عن نائل بن نجيج بن عمير بن شَمِر، عن جابر الجُعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام).
قال أبو بكر: وحدّثني أحمد بن محمد بن يزيد، عن عبد الله بن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن حسن بن الحسن، قالوا جميعاً:
لمّا بلغ فاطمة (عليها السلام) إجماع أبي بكر على منعها فَدَك، لاثتْ خِمارَها، وأقبلت في لُمّةٍ من حَفَدَتِها ونساءِ قومها، تطأ في ذيولها، ما تخرم مِشْيتها مِشْية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى دخلت على أبي بكر وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار، فضرب بينها وبينهم رَيْطةً بيضاء _ وقال بعضهم: قِبْطيّة، وقالوا: قُبْطية بالكسر والضمّ _ ثم أنّت أنّةً أجْهَش لها القوم بالبكاء.
ثم أمهلتْ طويلاً حتى سكنوا من فورتهم، ثم قالت: «أبتدئُ بحمْدِ مَن هو أولى بالحمد والطَّوْل والمجد، الحمد لله على ما أنعَم، وله الشكر بما ألهَم». وذكر خطبة طويلة جيدة قالت في آخرها: «فاتّقوا الله حقّ تُقاتِه، وأطيعوه فيما أمرَكم به، فإنّما يَخشَى الله مِن عباده العلماء، واحمدوا الله الذي لعظمته ونوره من يَبتغِي في السماوات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلتُه في خلقه، ونحن خاصّته، ومحلّ قدسه، ونحن حجّته في غيبه، ونحن ورثة أنبيائه».
ثم قالت: «أنا فاطمة ابنة محمد، أقول عَوْداً على بدء، وما أقول ذلك سَرَفاً ولا شَطَطاً، فاسمعوا بأسماع واعية، وقلوبٍ راعية»، ثم قالت: {«لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(1) فإن تَعْزُوه تجدوه أبي دون آبائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم».
____________
1- التوبة: 128.
ثم التفتت إلى قبر أبيها، فتمثّلت بقول هند بنت أثاثة:
قد كان بعدك أنباءٌ وهَيْنمةٌ | لو كنتَ شاهدَها لم تَكثُرِ الخطبُ |
أبدتْ رجالٌ لنا نجوى صدورِهمُ | لمّا قضيتَ وحالت دونَكَ الكُتُبُ |
تَجَهّمتْنا رجالٌ واستُخِفّ بنا | إذ غبتَ عنّا فنحن اليومَ نُغتصَبُ |
قال: ولم ير الناس أكثر باك ولا باكيةً منهم يومئذ، ثم عدلت إلى مسجد الأنصار فقالت: «يامعشر البقيّة، وأعضاد الملّة، وحَضَنة الإسلام، ما هذه الفَتْرة عن نُصْرتي، والوَنْية عن معونتي، والغمزة في حقّي، والسَّنة عن ظُلامَتي! أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: المرء يُحفَظ في ولده! سرعانَ ما أحدثتم، وعجلانَ ما أتيتم، ألآن مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمتّم دينه! ها إنّ موته لَعمري خطبٌ جليلٌ استوسع وَهنُه، واستبهم فتقُه، وفُقِد راتقُه، وأظلمت الأرض له، وخَشَعت الجبال، وأكْدَت الآمال، اُضِيع بعدَه الحريم، وهُتِكت الحرمة، واُذيلت المصونة، وتلك نازِلة أعلن بها كتاب الله قبل موته، وأنبأكم بها قبل وفاته، فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ
____________
1- المائدة: 50.
إيهاً بني قَيْلة! اهتضم تُراث أبي، وأنتم بمرأى ومَسمَع، تبلغكم الدعوة، ويشملكم الصوت، وفيكم العُدّة والعدد، ولكم الدار والجنَن، وأنتم نخبة الله الّتي انتخب، وخِيرته الّتي اختار! باديتم العَرَب، وبادهتم الأمور، وكافحتم البهم حتى دارت بكم رحَى الإسلام، ودرّ حلبه، وخبَتْ نيران الحرب، وسكنتْ فَوْرة الشَّرك، وهدأتْ دعوة الهَرْج، واستوثق نظام الدين، أفتأخّرتم بعد الإقدام، ونَكَصْتم بعد الشّدة، وجبُنتم بعد الشجاعة، عن قوم {نَكَـثُوا أيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْر ِ إنَّهُمْ لا أيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}(2).
ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، ورَكَنْتم إلى الدّعة، فجحدتم الذي وعيتم، وسُغْتم الذي سوّغتم و{إنْ تَكْفُرُوا أنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْض ِجَمِيعاً فَإنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}(3) ألا وقد قلتُ لكم ما قلت على معرفة منّي بالخذْلة التي خامرتْكم، وخَوَر القناة، وضعف اليقين، فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر، ناقبة الخف، باقية العار، موسومة الشعار، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطّلع على الأفئدة، فبعين الله ما تعملون: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ}(4) ».
قال: وحدّثني محمد بن زكريا، قال: حدّثنا محمد بن الضحّاك، قال: حدّثنا هشام بن محمد، عن عوانة بن الحكم قال: لمّا كلّمت فاطمة (عليها السلام) أبا بكر بما كلّمته به، حَمِد أبو بكر الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ثم قال: ياخَيرَة النساء،
____________
1- آل عمران: 144.
2- التوبة: 12.
3- إبراهيم: 8.
4- الشعراء: 227.
قال أبو بكر: وروى هشام بن محمد، عن ابيه قال: قالت فاطمة لأبي بكر: إنّ أمّ أيمن تشهد لي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطاني فَدَك، فقال لها: ياابنة رسول الله، والله ما خلق الله خلقاً أحب إليّ من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبيك، ولوددت أنّ السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك، والله لإن تفتقر عائشة أحبّ إليّ من أن تفتقري، أتراني أعطي الأحمر والأبيض حقّه وأظلمكِ حقّكِ، وأنت بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إنّ هذا المال لم يكن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنّما كان مالاً من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال، وينفقه في سبيل الله، فلما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وليته كما كان يليه.
قالت: والله لا كلّمتكَ أبداً! قال: والله لا هجرتكِ أبداً؛ قالت: والله لأدعونّ الله عليكَ؛ قال: والله لأدعون الله لكِ، فلمّا حضرتها الوفاة أوصت ألاّ يصلّي عليها، فدفنت ليلاً، وصلى عليها عباس بن عبد المطلب، وكان بين وفاتها ووفاة أبيها اثنتان وسبعون ليلة.
قال أبو بكر: وحدّثني محمد بن زكريا قال: حدّثنا جعفر بن محمد بن عمارة بالإسناد
الأول قال: فلما سمع أبو بكر خطبتها شقّ عليه مقالتها، فصعد المنبر وقال: أيّها
الناس، ما هذه الرّعة إلى كل قالة! أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله (صلى
الله عليه وآله) ألا مَن سمع فليقل، ومن شهد فليتكلّم، إنّما هو ثعالة شهيده ذنبه،
مُرِبٌّ لكلّ فتنة، هو الذي يقول: كرّوها جذعة بعدما هرمت، يستعينون بالضعفة،
ويستنصرون