فاختلف المهاجرون والأنصار فيها... وقال عمر:... فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه _ إلى أبي بكر _ فبايعته وبايعه الناس، وسكنت النائرة، إلاّ أنّ بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيّما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين، فإنّه لا يؤمر واحد منهما تغرّة أن يقتلا....
ثم لما عاد إلى المسجد انثال الناس عليه، وبايعوه عن رغبة سوى جماعة من بني هاشم وأبي سفيان من بني أمية، وأمير المؤمنين علي _ كرّم الله وجهه _ كان مشغولاً بما أمره النبي (صلى الله عليه وآله) من تجهيزه ودفنه وملازمة قبره من غير منازعة ولا مدافعة.
النص الرابع: قال(2): الخلاف السادس في أمر فدك والتوراث عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، ودعوة فاطمة (عليها السلام) وراثة تارةً، وتمليكاً أخرى، حتى دُفعت عن ذلك بالرواية المشهورة عن النبي (صلى الله عليه وآله): (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة).
فهذه النصوص التي اقتبسناها من كتاب الملل والنحل للشهرستاني، فالأول والثاني صريحان في الخلاف على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ومع ذلك قدّم لهما الرجل بأنّها اختلافات اجتهادية كما قيل، ويبدو أنّه لم يرتض ذلك التفسير فعقبه بقوله: (كما قيل) مشعراً بالتمريض، كما انّ ما أتبعه من تفسير للغرض هو عين المرض، لأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أراد أن يكتب لأمته ما يعصمهم من الضلال فمنعه عمر، وقال ما لا ينبغي
____________
1- المصدر نفسه 1: 16.
2- المصدر نفسه 1: 17.
وزاد الأمر وضوحاً قول ابن عباس _ وهو حبر الأمة وترجمان القرآن _: «الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) »، ولو كان الاختلاف واللغط والتنازع اجتهاداً كما يزعمون، لفهمه ابن عباس قبل المعذّرين، ولما جعل تلك المخالفة ومنع عمر رزية وقال: الرزية كل الرزية، مع بكائه الشديد حتى يبل دمعه الحصباء، وهذا مما أخرجه البخاري ولم يذكره الشهرستاني.
وما ورد في النص الثاني من لعن النبي (صلى الله عليه وآله) لمن تخلّف عن جيش أسامة، فيه أقسى الإنذار بالعقوبة، والله سبحانه يقول: {والذين يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}(3).
ومع ذلك فقد تخلّف من تخلف، وكان منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وآخرين من المهاجرين ذكرهم المؤرّخون، كما أنّ فيهم من الأنصار قتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم، وأسيد بن حضير، وبشير بن سعد من الأنصار، وأصحاب هذه الأسماء يجدهم القارئ هم الذين تولوا الهجوم على بيت فاطمة (عليها السلام)، راجع بشأن هؤلاء: طبقات ابن سعد، وتاريخ اليعقوبي، وشرح النهج لابن أبي الحديد، وفتح الباري لابن حجر، وكنز العمال(4).
____________
1- الكهف: 5.
2- النور: 63.
3- الأحزاب: 57.
4- طبقات ابن سعد 4: 46 و 136، وتاريخ اليعقوبي 2: 93، وشرح النهج لابن أبي الحديد 1: 159، وفتح الباري لابن حجر 9: 218 _ 219، وكنز العمّال 5: 312.
ولا خلاف بين المسلمين أنّ الله سبحانه قال في كتابه: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقَابِ}(1).
ومع ذلك يقول علماء التبرير: (وأما الاختلافات الواقعة في حال مرضه وبعد وفاته بين الصحابة فهي اختلافات اجتهادية كما قيل، كان غرضهم فيها إقامة مراسم الشرع وإدامة مناهج الدين).
فاقرأ ولا تعجب، فلعلماء التبرير من التحوير والتطوير وحتى التزوير، ما فاق التصوير وقصر عنه التفكير: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}(2).
وأما النص الثالث وهو الخلاف الخامس في الامامة، وهو _ كما قال _ أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان.
ثم ذكر اختلاف المهاجرين والأنصار فيها، إلى أن قال عن عمر: فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه _ إلى أبي بكر _ فبايعته وبايعه الناس وسكنت النائرة، إلاّ أنّ بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرّها... إلى آخر كلام عمر، وقد مرّ نحوه عند البخاري وغيره.
واللافت للنظر أنّ الشهرستاني راوغ في آخر كلامه حين قال: ثم لمّا عاد إلى المسجد انثال الناس عليه وبايعوه عن رغبة، سوى جماعة من بني هاشم، وأبي
____________
1- الأنفال: 24 _ 25.
2- العاديات: 11.
فأول ما فيه زعمه من انثيال الناس على أبي بكر وبايعوه عن رغبة، بينما مرّ بنا في أقوال عمر وتخلف الأنصار عنهم، وتخلف جماعة من المهاجرين، وأخذ الناس إلى البيعة بالرهبة، وقد احتجزوا بالأزر الصنعانية وبأيديهم عسيب النخل يخبطون الناس إلى البيعة.
ثانياً ما ذكره عن الذين لم يبايعوا وهم جماعة من بني هاشم، بينما الصحيح كل بني هاشم وليس بعضهم، كما هو معنى (من) التبعيضية، وأما أبو سفيان فلم يكن حاضراً يومئذٍ، وإنّما اتى بعد ذلك، وقد مرّ بعض خبره وكيف رشوه بما جاء به من مال في سعايته، وولّوا ابنه يزيد على الشام، فوالاهم.
وأما قوله في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فصحيح لا غبار عليه، إلاّ أنّه لم يذكر هل بايع أبابكر بعد ذلك أم لا؟ وهذا ما راوغ فيه الشهرستاني أيضاً.
وقد حكى عن النظام عدة مسائل، قال: انّه انفرد عن أصحابه _ المعتزلة _ بمسائل...، الحادية عشر: ميله إلى الرفض ووقيعته في كبار الصحابة، قال أولاً: لا إمامة إلاّ بالنص والتعيين ظاهراً مكشوفاً، وقد نص النبي (صلى الله عليه وآله) على علي _ كرّم الله وجهه _ في مواضع، وأظهره إظهاراً لم يشتبه على الجماعة، إلاّ أنّ عمر كتم ذلك وهو الذي تولى بيعة أبي بكر يوم السقيفة، ونسبه إلى الشك يوم الحديبية في سؤاله عن الرسول (صلى الله عليه وآله) حين قال: ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ قال: نعم، قال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: هذا شك في الدين ووجدان خرج في النفس مما قضى وحكم، وزاد في الفرية فقال: انّ عمر ضرب بطن فاطمة (عليها السلام) يوم البيعة حتى ألقت المحسن من بطنها، وكان يصيح: أحرقوا الدار بمن فيها، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين...(1).
____________
1- الملل والنحل 1: 77، وهذا الذي ذكره الشهرستاني عن النظام وتحامل عليه في نقله وأنه افتراء؛ فقد جانب الصواب، وذكر نحوه الصفدي عن النظام ولم يتحامل عليه بظلم كما صنع الشهرستاني، كما أن ابن قتيبة ذكر التهديد بالإحراق في كتابه الإمامة والسياسة كما مرّ، ومر كذلك عن غيره, راجع الطبري وابن سعد وغيرهما ممن تقدم ذكره في النصوص, وسيأتي عن أبي الفداء وابن الشحنة، وحسب القارئ أن يعيد ما تقدم عن ابن عبد البر, وما جرى عليه من تحريف متعمد في قول عمر: (لأفعلنّ ولأفعلنّ) كما في نهاية الأرب للنويري 19: 40، نقلاً عن الاستيعاب.
ما ذكره الجزري:
العشرون: أبو السعادات ابن الأثير الجزري (ت 606 هـ)، صاحب جامع الأصول وكتاب النهاية في غريب الحديث وغيرهما. وقد نقل في جامع الأصول بعض النصوص عن أصحاب الصحاح مما له علاقة بالمقام ننقل بعضها:
النص الأول(1): نقلاً عن سنن أبي داود(2) عن عمر قال: ان أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خاصة، قرى عرينة وفدك وكذا وكذا، ينفق على أهله منها نفقة سنتهم، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدّة في سبيل الله، وتلا قوله تعالى: {مَا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى}(3).
النص الثاني(4): عن سنن أبي داود عن مالك بن أوس قال: كان فيما احتج عمر أن قال: كانت لرسول الله ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك....
أقول: انّ فدكاً وبقية الصفايا كانت خالصة للنبيّ (صلى الله عليه وآله) خاصة، وليس للمسلمين فيها من حق؛ لأنّها ما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، كما هو نص الكتاب
____________
1- جامع الأصول 2: 707، ح 1202.
2- سنن أبي داود 3: 141، ح 2965.
3- الحشر: 7.
4- جامع الأصول 2: 706، ح 1202، عن سنن أبي داود 3: 141، ح 2967.
ولما كان ذوو القربى هم علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله) في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى}(2)، روى الزمخشري في الكشاف، والسيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية من سورة الشورى، وقال السيوطي: وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى}، قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: «علي وفاطمة وولداهما».
وهذا ما أخرجه أيضاً المحب الطبري(3)، نقلاً عن أحمد في المناقب، وذكره الهيثمي(4)، وقال فيهما: رواه الطبراني، وذكره ابن حجر المكي في صواعقه(5)، وقال: أخرجه أحمد، والطبراني، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن عباس، ونقله الشبلنجي في نور الأبصار(6) نقلاً عن تفسير البغوي وغيرهم.
فإذاً حق ذوي القربى فيما أفاء الله مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ثابت على حدّ حق الله وحق الرسول الكريم بنص الآية المباركة، فلا يقبل قول عمر وغير عمر ممن قال: «كان النبي (صلى الله عليه وآله) ينفق على أهله فيها نفقة سنتهم، ثم يجعل ما
____________
1- الحشر: 7.
2- الحشر: 7.
3- ذخائر العقبى: 25.
4- مجمع الزوائد 7: 103، 9: 101.
5- الصواعق (لابن حجر المكي): 101.
6- نور الأبصار: 101.
النص الثالث: من كتابه (منال الطالب في شرح طوال الغرائب) ط مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، والكتاب هو الثامن من سلسلة (من التراث الإسلامي) فقد ذكر في الكتاب المذكور(1)، خطبة السيدة الزهراء (عليها السلام) في مسجد أبيها محتجة على أبي بكر وعلى المهاجرين والأنصار،وسيأتي على ذكرها وما قاله تعقيباً عليها.
ما ذكره ابن الأثير:
الحادي والعشرون: أبو الحسن علي بن محمد ابن الأثير (ت 630 هـ) صاحب الكامل في التاريخ، واُسد الغابة، واللباب في الأنساب وغيرها، فماذا عنده؟
وسأقتصر على نصّ واحد ورد عنده في ترجمة أبي بكر في اُسد الغابة(2).
قال: وكان عمر بن الخطاب أول من بايعه، وكانت بيعته في السقيفة يوم وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ثم كانت بيعة العامة من الغد، وتخلّف عن بيعته علي وبنو هاشم، والزبير بن العوام، وخالد بن سعيد بن العاص، وسعد بن عبادة الأنصاري، ثم انّ الجميع بايعوا بعد موقف فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ سعد بن عبادة، فانّه لم يبايع أحداً إلى أن مات، وكانت بيعتهم بعد ستة أشهر على القول الصحيح، وقيل غير ذلك.
____________
1- منال الطالب في شرح طوال الغرائب: 501 _ 534.
2- اُسد الغابة 3: 222 _ 223.
ما ذكره الكلاعي الأندلسي:
الثاني والعشرون: أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي (ت 634 هـ) ، فماذا عنده؟
النص الأول:(1) قال ابن إسحاق: ولما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، واعتزل علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة....
النص الثاني: ذكر حديث ابن عباس عن خطبة عمر التي قال فيها: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة... وهذا مر عن البخاري وغيره.
النص الثالث: ذكر(2) تنازع الأنصار والمهاجرين في مسألة تولّي الحكم، فقال: فكثر القول حتى كادت الحرب تقع بينهما، وأوعد بعضهم بعضاً...، فقال رجل من الأنصار: اتقوا سعداً لا تطؤوه فتقتلوه، فقال عمر وهو مغضب: قتل الله سعداً فإنّه صاحب فتنة....
____________
1- الاكتفاء.
2- نفس المصدر: 54 _ 55.
شكراً لمن هو بالثنا نطيق | ذهب اللجاج وبويع الصدّيق |
إلى تمام ستة أبيات، وقد مرت برواية ابن عبد البر في الاستيعاب وغيره، وقلنا: إنّها كذب ومصنوعة، وليس في بني جمح إلاّ أبو عزّة الذي قتله النبي (صلى الله عليه وآله) صبراً، وهذا ليس له ولد، كما في جمهرة أنساب العرب لابن حزم.
النص الخامس: ذكر موسى بن عقبة أنّ رجالاً من المهاجرين غضبوا في بيعة أبي بكر، منهم علي والزبير، فدخلا بيت فاطمة ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعهما السلاح (؟) فجاءها عمر بن الخطاب في عصابة من المهاجرين والأنصار فيهم أسيد بن حضير، وسلمة بن سلامة بن وقش الأشهليان، وثابت بن قيس بن شماس الخزرجي، فكلموهما حتى أخذ أحد القوم سيف الزبير فضرب به الحجر حتى كسره.
أقول: انّ الجديد الذي فاجأنا به النص انّ علياً والزبير دخلا بيت فاطمة (ومعهما السلاح) فجملة (معهما السلاح) لم يسبق أن ذكرها من تقدم، فإن كانت تعني انّ كلاً منهما معه سيفه، فذلك أمر طبيعي يومئذٍ وليس مستغرباً، وإن كان المراد غير ذلك فلا شاهد عليه.
ثم إنّ التعبير «فدخلا بيت فاطمة» غير صحيح، لأنّ بيت فاطمة (عليها السلام) هو بيت علي (عليه السلام) ، وما كان له بيت آخر غير ذلك البيت الذي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأتي غداة كل يوم طيلة ستة أشهر، فيقف على بابه ويقرأ: { إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(2).
____________
1- نفس المصدر: 55.
2- الأحزاب: 33.
ما ذكره ابن أبي الحديد:
الثالث والعشرون: عز الدين ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 هـ) ، وقد مرّت ترجمته وعرفناه معتزلي الأصول، شافعي الفروع، إن لم يكن حنفياً حيناً من الدهر، فالرجل كما قال عنه صاحب نسمة السحر وقد مر قوله فيه: (وكانت حالة عز الدين المذكور عجباً بيّناً، وهو شيعي متعصب كما في القصائد _ السبع العلويات _ المشار إليها، صار معتزلياً جاحظياً أو أصمعياً كما في أكثر شرحه).
والآن لنقرأ بعض ما قاله هو من عنده تعقيباً على بعض الأحداث التي رواها في كتابه شرح نهج البلاغة، مما يكشف عن حقيقة رأيه في تقويمه لمواقف الصحابة يوم السقيفة وما بعده من أحداث، ونظراً لكثرة ما روى في ذلك عن مصادر لم تصل إلى أيدينا فكان والحق يقال: هو خير مُعين في الوصول إلى تلك المصادر التي هي خير مَعين، فلنقرأ بعض ما ذكره مما ينبغي الاطلاع عليه.
النص الأول: قال(1): وعمر هو الذي شيّد بيعة أبي بكر، ورقم المخالفين فيها، فكسر سيف الزبير لما جرّده، ودفع في صدر المقداد، ووطئ في السقيفة سعد بن عبادة، وقال: اقتلوا سعداً قتل الله سعداً، وحطّم أنف الحباب بن المنذر الذي قال
____________
1- شرح النهج 1: 174.
أقول: إذن كيف يقول العمريون انّ بيعة أبي بكر كانت بالاختيار والإجماع، وهذا قول أحدهم وهو يذكر الإكراه لمن كان في السقيفة أو كان خارجها حتى ولو كان في بيت فاطمة (عليها السلام)، فأين الإجماع المزعوم؟!
النص الثاني: قال(1): اختلفت الروايات في قصة السقيفة، فالذي تقوله الشيعة _ وقد قال قوم من المحدّثين بعضه ورووا كثيراً منه _: إنّ علياً (عليه السلام) امتنع من البيعة حتى أخرج كُرهاً، وإنّ الزبير بن العوام امتنع من البيعة وقال: لا أبايع إلاّ علياً (عليه السلام)، وكذلك أبو سفيان بن حرب، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، والعباس بن عبد المطلب وبنوه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وجميع بني هاشم.
وقالوا: إنّ الزبير شهر سيفه، فلما جاء عمر ومعه جماعة من الأنصار وغيرهم، قال في جملة ما قال: خذوا سيف هذا فاضربوا به الحجر، ويقال: إنه أخذ السيف من يد الزبير فضرب به حجراً فكسره، وساقهم كلهم بين يديه إلى أبي بكر، فحملهم على بيعته، ولم يتخلّف إلاّ علي (عليه السلام) وحده، فإنّه اعتصم ببيت فاطمة (عليها السلام)، فتحاموا إخراجه منه قسراً وقامت فاطمة (عليها السلام) إلى باب البيت فأسمعت من جاء يطلبه، فتفرقوا وعلموا أنه بمفرده لا يضرّ شيئاً فتركوه.
وقيل: إنّهم أخرجوه فيمن أخرج وحمل إلى أبي بكر فبايعه، وقد روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري كثيراً من هذا(2).
____________
1- المصدر نفسه 2: 21.
2- تاريخ الطبري 3: 199، وما بعده.
النص الثالث: قال(1): فأما امتناع علي (عليه السلام) من البيعة حتى أخرج على الوجه الذي أخرج عليه، فقد ذكره المحدثون ورواه أهل السير، وقد ذكرنا ما قاله الجوهري في هذا الباب، وهو من رجال الحديث ومن الثقات المأمونين، وقد ذكر غيره من هذا النحو ما لا يحصى كثرة.
فأمّا الأمور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة (عليها السلام)، وأنّه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدملج وبقي أثره إلى أن ماتت، وأنّ عمر أضغطها بين الباب والجدار، فصاحت يا أبتاه يا رسول الله، وألقت جنيناً ميتاً، وجُعل في عنق علي (عليه السلام) حبل يقاد به وهو يعتلّ ، وفاطمة خلفه تصرخ وتنادي بالويل والثبور، وابناه حسن وحسين معهما يبكيان، وأنّ علياً لما أحضر ساموه البيعة فامتنع فتهدد بالقتل، فقال: اذن تقتلون عبد الله وأخا رسول الله، فقالوا: أما عبد الله فنعم وأما أخو رسول الله فلا، وأنّه طعن فيهم في أوجههم بالنفاق، وسطر صحيفة الغدر التي اجتمعوا عليها، وبأنّهم أرادوا أن ينفروا ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة العقبة، فكلّه لا أصل له عند أصحابنا، ولا يثبته أحد منهم، ولا رواه أهل الحديث ولا يعرفونه، وإنما هو شيء تنفرد الشيعة بنقله.
النص الرابع: قال(2) وهو يذكر خبر السقيفة عن الجوهري إلى أن قال: وكثر الناس على أبي بكر، فبايعه معظم المسلمين في ذلك اليوم، واجتمعت بنو هاشم
____________
1- شرح النهج 2: 59 _ 60.
2- المصدر نفسه 6: 11 _ 13.
واجتمعت بنو أمية إلى عثمان بن عفان، واجتمعت بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن، فأقبل عمر إليهم وأبو عبيدة، فقال: مالي أراكم ملتاثين؟ قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايع له الناس وبايعه الأنصار، فقام عثمان ومن معه، وقام سعد وعبد الرحمن ومن معهما فبايعوا أبا بكر.
وذهب عمر ومعه عصابة إلى بيت فاطمة، منهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم فقال لهم: انطلقوا فبايعوا، فأبوا عليه، وخرج إليهم الزبير بسيفه، فقال عمر: عليكم الكلب، فوثب عليه سلمة بن أسلم فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار، ثم انطلقوا به وبعلي ومعهما بنو هاشم، وعلي يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله حتى انتهوا به إلى أبي بكر، فقيل له: بايع، فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله، فأعطوكم المقادة، وسلّموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم، وإلا فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون.
فقال عمر: إنّك لست متروكاً حتى تبايع، فقال له علي: احلب يا عمر حلباً لك شطره، أشدد له اليوم أمره ليردّ عليك غداً، ألا والله لا أقبل قولك ولا أبايعه، فقال أبو بكر: فإن لم تبايعني لم أكرهك، فقال أبو عبيدة: يا أبا الحسن إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قريش قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك، وأشدّ احتمالاً له واضطلاعاً به، فسلّم له هذا الأمر وارض به، فإنّك إن تعش ويطل عمرك فأنت لهذا الامر خليق وبه حقيق، في فضلك وقرابتك وسابقتك وجهادك.
فقال بشير بن سعد: لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان، ولكنهم قد بايعوا، وانصرف علي إلى منزله ولم يبايع، ولزم بيته حتى ماتت فاطمة فبايع.
قلت: _ والقائل هو ابن أبي الحديد _: هذا الحديث يدل على بطلان ما يدعى من النص على أمير المؤمنين وغيره، لأنه لو كان هناك نص صريح لاحتج به، ولم يجر للنص ذكر، وإنما كان الاحتجاج منه ومن أبي بكر ومن الأنصار بالسوابق والفضائل والقرب، فلو كان هناك نص على أمير المؤمنين أو على أبي بكر لاحتج به أبو بكر أيضاً على الأنصار، ولاحتج به أمير المؤمنين على أبي بكر، فإنّ هذا الخبر وغيره من الأخبار المستفيضة، يدل على أنه قد كان كاشفهم وهتك القناع بينه وبينهم، ألا تراه كيف نسبهم إلى التعدي عليه وظلمه، وتمنّع من طاعتهم وأسمعهم من الكلام أشده وأغلظه، فلو كان هناك نص لذكره أو ذكره بعض من كان من شيعته وحزبه، لأنّه لا عطر بعد عروس.
وهذا أيضاً يدل على أنّ الخبر المروي في أبي بكر في صحيحي البخاري ومسلم غير صحيح، وهو ما روي من قوله (عليه السلام) لعائشة في مرضه: (ادعي لي أباك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً فإنّي أخاف أن يقول قائل، أو يتمنى متمنٍ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) وهذا هو نص المعتزلة.
ثم أتاهم من الليل فناشدهم، فقالوا: نصبّحك غدوة، فما جاء منهم إلاّ الأربعة، وكذلك في الليلة الثالثة، وكان الزبير أشدهم له نصرة، وأنفذهم في طاعته بصيرة، حلق رأسه وجاء مراراً وفي عنقه سيفه، وكذلك الثلاثة الباقون، إلاّ أنّ الزبير هو كان الرأس فيهم.
النص السادس: قال(2): في شرح قول الإمام (عليه السلام):
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْش، فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَأَكْفَأُوا إِنَائِي، وَأجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي، وَقَالُوا: أَلاَ إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَفِي الْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ، فَاصْبِرْ مَغْمُوماً، أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً. فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ، وَلاَ ذَابٌّ وَلاَ مُسَاعِدٌ، إِلاَّ أَهْلَ بَيْتِي، فَضَنْنتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ، فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذى، وَجَرعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا، وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْم الغَيْظِ عَلى أَمَرَّ مِنَ العَلْقَم ِ، وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْز ِالشِّفَار».
واعلم أنّ هذا الكلام قد نُقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يناسبه، ويجري مجراه، ولم يؤرّخ الوقت الذي قاله فيه، ولا الحال التي عناها به، وأصحابنا يحملون ذلك على أنّه (عليه السلام) قاله عَقِيب الشّورى وبيعة عثمان، فإنه ليس يرتاب أحدٌ من
____________
1- المصدر نفسه 11: 14.
2- المصدر نفسه 11: 109 _ 114.
ولقائل أن يقول لهم: أتقولون إنّ بيعة عثمان لم تكن صحيحة؟ فيقولون: لا، فيقال لهم: فعلى ماذا تحملون كلامه (عليه السلام)، مع تعظيمكم له وتصديقكم لأقواله؟ فيقولون: نحمل ذلك على تألّمه منهم إذ تركوا الأولى والأفضل. فيقال لهم: فلا تكرهوا قول مَنْ يقول من الشيعة وغيرهم: إنّ هذا الكلام وأمثاله صدر عنه عقيب السقيفة، وحملوه على أنّه تألم وتظلّم من كونهم تركوا الأولى والأفضل، فإنكم لستم تنكرون أنّه كان الأفضل والأحق بالأمر، بل تعترفون بذلك، وتقولون: ساغت إمامة غيره، وصحّت لمانع كان فيه (عليه السلام)، وهو ما غلب على ظنون العاقدين للأمر من أنّ العرب لا تطيعه، فإنّه يخاف من فتنة عظيمة تحدث إن ولي الخلافة؛ لأسباب يذكرونها ويعدّونها.
وقد روى كثير من المحدّثين أنّه عقيب يوم السقيفة تألّم وتظلّم، واستنجد واستصرخ، حيث ساموه الحضور والبيعة، وأنّه قال وهو يشير إلى القبر: يـ{ابْنَ اُمَّ إنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي}(1) وأنّه قال: واجعفراه! ولا جعفر لي اليوم! واحمزتاه ولا حمزة لي اليوم!
وقد ذكرنا من هذا المعنى جملة صالحة فيما تقدّم، وكلّ ذلك محمول عندنا على أنّه طلب الأمر من جهة الفضل والقرابة، وليس بدالٍّ عندنا على وجود النصّ، لأنّه لو كان هناك نصّ لكان أقلّ كلفةً وأسهل طريقاً، وأيسر لما يريد تناولاً أن يقول: يا هؤلاء إنّ العهد لم يطل، وإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمركم بطاعتي، واستخلفني عليكم بعده، ولم يقع منه (عليه السلام) بعد ما علمتموه نصّ ينسخ ذلك ولا يرفعه، فما الموجب لتركي، والعدول عني!
____________
1- الأعراف: 150.