وهذا النص هو بنفس السند في النص السابق إلى زياد بن كليب، ولم يذكر باقي السند وأحسبه كسابقه، ومهما يكن فهو صريح في مجيئ عمر إلى منـزل علي، لأنّ فيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، وهم لم يبايعوا أبا بكر، فهدّدهم بإحراق البيت عليهم، وأقسم على توعده بتنفيذه إن لم يخرجوا إلى البيعة.
والتهديد والإحراق لم يكن هيناً سماعه على الناس فضلاً عن فعله، وقد مرّ بنا أنّ الناس قالوا له: إنّ في البيت فاطمة، قال: وإن، فإنّها لصدمة ولدمة لمن سمع ورأى وهو خارج البيت، وإنّها لصدمة ولدمة لمن سمع ومن رأى وكان هو داخل البيت، وهذا ما دعا الزبير لأن يخرج مصلتاً عليه بالسيف.
وإلى هنا لا تستدعي صراحة النص تفسيراً لصرامة عمر، إلاّ أنّ فيه (فعثر _ الزبير _ فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه) ، وهذا أيضاً لا يثير حيرة ولا قلقاً، فالزبير وقد خرج على عمر مصلتاً بالسيف، (فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه) والضمير في المأخوذ سواء كان يعني السيف، أو كان يعني الزبير، فهو يدل على وجود جمع (فوثبوا عليه فأخذوه) وهذا ما يلفت النظر في طي ذكرهم أولاً في الخبر، فماذا جرى منهم على بقية من كان في البيت، فهذا كله طواه الخبر، إلاّ أن الطبري ساق بعد هذا خبر بإسناد غير ما قرأنا بها أخباره المتقدمة، مما يكشف عما طواه هذا النص المتقدم، فلنقرأ ما عنده:
النص السابع: روى الطبري(1) عن زكريا بن يحيى الضرير، عن أبي عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري قال: توفي
____________
1- تاريخ الطبري 3: 202 _ 203.
قال: فتكلّم أبو بكر وقال: أنصت، قال: فأبى عمر أن ينصت، فتكلم أبو بكر وقال: إنّ الله قال لنبيه (صلى الله عليه وآله): {إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُمْ مَيِّـتُونَ ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}(1)، {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ...}(2)، حتى ختم الآية، فمن كان يعبد محمداً فقد مات إلهه الذي كان يعبده، ومن كان يعبد الله لا شريك له، فإنّ الله حيّ لا يموت.
قال: فحلف رجال أدركناهم من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) ما علمنا أنّ هاتين الآيتين نـزلتا حتى قرأهما أبو بكر يومئذٍ، إذ جاء رجل يسعى فقال: هاتيك الأنصار قد اجتمعت في ظُلّة بني ساعدة يبايعون رجلاً منهم يقولون: منّا أمير ومن قريش أمير.
قال: فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان حتى أتياهم، فأراد عمر أن يتكلم فنهاه أبو بكر فقال: لا أعصي خليفة النبي (صلى الله عليه وآله) في يوم مرّتين، قال: فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئاً نـزل في الأنصار، ولا ذكره رسول الله (صلى الله عليه وآله) من شأنهم إلا وذكره، وقال: لقد علمتم أنّ رسول الله قال: لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار، وقد علمت ياسعد أنّ رسول الله قال _ وأنت قاعد _: قريش ولاة
____________
1- الزمر: 30 _ 31.
2- آل عمرن: 144.
قال: فقال عمر: أبسط يدك يا أبا بكر فلأبايعك، فقال أبو بكر: بل أنت يا عمر، فأنت أقوى لها منّي، قال: وكان عمر أشدّ الرجلين، قال: وكان كل واحد منهما يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها، ففتح عمر يد أبي بكر، وقال: إنّ لك قوتي مع قوتك، قال: فبايع الناس واستثبتوا للبيعة.
وتخلّف علي والزبير، واخترط الزبير سيفه، وقال: لا أغمده حتى يبايع عليّ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقال عمر: خذوا سيف الزبير فاضربوا به الحجر، قال: فانطلق إليهم عمر فجاء بهما تبعاً وقال: لتبايعان وأنتما طائعان، أو لتبايعان وأنتما كارهان، فبايعا. انتهى.
ونحن إزاء هذا النص وهو كسابقه فيه ضغث من حق وضغث من باطل، لذلك نود تنبيه القارئ إلى ما فيه سنداً ومتناً من مواقع للنظر.
أما من ناحية السند فقد رواه الطبري عن زكريا بن يحيى الضرير، أحسبه الوقار المصري، قال ابن عدي: يصنع الحديث، ووصفه صالح جزرة بأنّه من الكذابين الكبار.
عن ابن عوانة وهو الوضاح بن عبد الله اليشكري، قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنّه ثقة فيما حدث من كتابه، وقال: إذا حدث من حفظه ربما غلط.
عن داود بن عبد الله الأودي، وثّقه ابن معين، وقال أحمد: شيخ ثقة قديم.
عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، وثقه العجلي، وقال ابن سعد: ثقة، وروى عن علي بن أبي طالب.
هذا حال رجال الإسناد، أما المتن فالخبر فيه عدة أمور تسترعي الإنتباه، ولا نقول إنّ جميع الخبر مكذوب، كما لا نقول هو صحيح بكل ما فيه مكتوب، بل علينا بعد ثبوت تدوينه عند الطبري أن نتساءل عما فيه من جديد لم نقرأ مثله فيما سبق.
ثم قال الراوي: (فحلف رجال أدركناهم من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) ما علمنا أنّ هاتين الآيتين نـزلتا حتى قرأها أبو بكر يومئذٍ)، وهذا مما يلفت النظر حقاً، كيف يقبل العقل تصديق الراوي على هذا النقل، فأين هم حفظة الكتاب من الصحابة؟ ولا غرابة، فالانفعال يولد الإفتعال، فأبو بكر الذي قال عنه الشيخ الفلاني في كتابه ايقاظ همم أولى الأبصار(1): (وقد مات أبو بكر وعمر وهما لم يستتما حفظ جميع القرآن) يحفظ تلكما الآيتين، ورجال أدركهم الراوي لم يعلموا بنـزولهما حتى قرأهما أبو بكر يومئذٍ، إنّها لدعوى عريضة، وإن ثبتت ذلك بالتدوين فلا يعني بالضرورة الثبوت بالـتصديق، ويبقى احتمال الشك في صدق الراوي.
2 _ جاء في الخبر: إذ جاء رجل يسعى وقال هاتيك الأنصار... يقولون: منّا أمير ومن قريش أمير، فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان... حتى أتياهم، فأراد عمر أن يتكلم فنهاه أبو بكر فقال: لا أعصي خليفة النبي (صلى الله عليه وآله) في يوم مرّتين.
وهنا مثار العجب من كثرة الكذب، فما أيسر التمويه أن يقول الساعي هاتيك الأنصار... يقولون منّا أمير ومن قريش أمير، بينما تأبى ذلك بقية مدونات الحوليات ومنها تاريخ الطبري، وإنّ ذلك قالوه بعد ما جاء إليهم أبو بكر ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح في خبر سبق ذكره.
ومما في هذا الخبر مما يخالف الصدق حذف اسم أبي عبيدة بن الجراح، فلم يذكر مع أبي بكر وعمر اللذين انطلقا يتقاودان، وزاد الراوي في الطين بلّة والتاريخ علّة حين ذكر قول عمر: لا أعصي خليفة النبي (صلى الله عليه وآله) في يوم
____________
1- ايقاظ همم اولى الأبصار: 75.
3 _ جاء في الخبر أنّ أبا بكر قرر سعد بن عبادة على سماعه من النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: (الناس تبع لقريش برهم لبرهم وفاجرهم لفاجرهم). صدّقه سعد على ذلك، فقال: صدقت فنحن الوزراء وأنتم الأمراء، وبهذا طوى بساط البحث، وبكلمة انتهت المسألة، فقال عمر: ابسط يدك يا أبا بكر لأبايعك، وهنا أيضاً وقفة تستدعي التنبيه وتسترعي الانتباه.
4 _ جاء في الخبر أنّ عمر قال لأبي بكر: ابسط يدك لأبايعك، فقال أبو بكر: بل أنت يا عمر، فأنت أقوى لها منّي، قال الراوي: وكان عمر أشد الرجلين.. وكان كل واحد منهما يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها، ففتح عمر يد أبي بكر وقال: إنّ لك قوتي مع قوتك، قال: فبايع الناس....
وهذه مهزلة المسألة، ومعظلة المشكلة، خلافة المسلمين يتبارى الشيخان في تعاطيها أحدهما للآخر، والمسلمون ينتظرون الفائز ليبايعوه، وتغيب عن الخبر، بل غيّب الراوي ذكر ما جرى في السقيفة من تنازع بين الأنصار وأبي بكر حول تعيين الخليفة، فلا تهديد: أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجّب، ولا: أعيدوها جذعة، ولا ولا، وكأنّ الإجماع تمّ لأبي بكر في هذا الخبر ببيعة عمر له بعد مرادة دون مشادة، وهذا من لعب الهوى وشطط الخيال.
وقد ذكر الطبري خبر السقيفة بعد هذا الخبر برواية عمر نفسه، وفيه قول عمر: فلا يغرّنّ امرئٌ أن يقول: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة، فقد كانت كذلك، غير أنّ الله وقى شرها.
ثم سرد خبر السقيفة وما جرى فيها، وقد سبق أن ذكرنا الخبر برواية البخاري وغيره فراجع، فلا حاجة بنا إلى إعادته، كما لا حاجة بنا إلى ذكر ما ساقه من
فهذا الخبر سواء كان من مفتريات سيف أو من مفتريات غيره، لا يقبل بأيّ وجه كان في تفسيره، والطبري وإن لم يعلّق عليه إلاّ أنّه ساق بعده خبراً ينسف ذلك نسفاً، ويعصف بمرويات أمثاله عصفاً، وذلك هو النص الآتي:
النص الثامن: قال الطبري(3): حدّثنا أبو صالح الضراري، قال: حدّثنا عبد الرزاق بن همام، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: إنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يطلبان ميراثهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله)....
وهذا تقدم في مرويات عبد الرزاق في المصنف، وقد تقدم ذكره فراجع، تجد فيه قالت عائشة: فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت، فدفنها علي ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، وكان لعلي وجه من الناس حياة فاطمة، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي، فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم توفيت.
____________
1- راجع ما قاله عنه علماء الجرح والتعديل أيسرها ميزان الاعتدال للذهبي جاء في ترجمته: تركوه واتهم بالزندقة.
2- تاريخ الطبري 3: 207.
3- تاريخ الطبري 3: 207 _ 208.
فهذا الخبر يكفي في دحض مفتريات سيف في ذكره بيعة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وانّه خرج عجلاً بغير إزار ولا رداء فبايع، وبه نكتفي من انتقاء بقية النصوص من تاريخ الطبري.
ما ذكره ابن عبد ربّه:
الرابع عشر: ماذا عند ابن عبد ربه الأندلسي (ت 328 هـ) في كتابه العقد الفريد(1):
النص الأول: جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، قال: تُوفي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأبو سفيان غائب في مسعاة أخرجه فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما انصرف لقي رجلاً في بعض طريقه مقبلاً من المدينة، فقال له: مات محمد؟ قال: نعم، قال: فمن قام مقامه؟ قال: أبو بكر، قال أبو سفيان: فما فعل المستضعفان علي والعباس؟ قال: جالسين، قال: أما والله لئن بقيت لهما لأرفعنّ من أعقابهما، ثم قال: إنّي أرى غَبرة لا يطفئها إلا دم، فلما قدم المدينة جعل يطوف في أزقّتها ويقول:
بني هاشم لا تطمعُ الناسُ فيكم | ولا سيما تيم بن مرة أو عديّ |
فما الأمر إلا فيكمُ وإليكمُ | وليس لها إلا أبو حسن عليّ |
فقال عمر لأبي بكر: إنّ هذا قد قدم وهو فاعلٌ شراً، وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) يستألفه على الإسلام، فدع له ما بيده من الصدقة، ففعل فرضي أبوسفيان وبايعه.
____________
1- العقد الفريد 4: 257.
النص الثاني: أحمد بن الحارث، عن أبي الحسن، عن أبي معشر، عن المقبريّ: إنّ المهاجرين بينما هم في حجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد قبضه الله إليه، إذ جاء معن بن عدي وعويم بن ساعدة فقالا لأبي بكر: باب فتنة إن يغلقه الله بك، هذا سعد بن عبادة والأنصار يريدون أن يبايعوه، فمضى أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح حتى جاؤوا سقيفة بني ساعدة، وسعد على طنفسة متكئاً على وسادة وبه الحمّى.
فقال له أبو بكر: ماذا ترى أبا ثابت؟ قال: أنا رجل منكم، فقال حُباب بن المنذر: منّا أمير ومنكم أمير، فإن عمل المهاجري في الأنصاري شيئاً ردّ عليه، وإن عمل الأنصاري في المهاجري شيئاً رد عليه، وإن لم تفعلوا فأنا جذيلها المحكّك وعُذيقها المرجّب، لنعيدنّها جذعة.
قال عمر: فأردت أن أتكلّم وكنت زوّرت كلاماً في نفسي، فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر..، وقال: نحن المهاجرون، وأول الناس إسلاماً، وأكرمهم أحساباً، وأوسطهم داراً، وأحسنهم وجوهاً، وأمسّهم برسول الله (صلى الله عليه وآله) رحماً، وأنتم إخواننا في الإسلام، وشركاؤنا في الدين، نصرتم وواسيتم، فجزاكم الله خيراً، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، فلا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما فضّلهم الله به، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الأئمة من قريش، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين _ يعني عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح _ فقال عمر: يكون هذا وأنت حيّ! ما كان أحد ليؤخرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم ضرب على يده فبايعه، وبايعه الناس وازدحموا على أبي بكر، فقالت الأنصار: قتلتم سعداً، فقال عمر: اقتلوه قتله الله، فإنه صاحب فتنة.
فهذا الخبر رواه ابن عبد ربه، عن أحمد بن الحارث الذي لم أقف على من ذكره في تراجم الرجال، وهو عن أبي الحسن المجهول النكرة، وهو عن أبي معشر نجيح السندي، ضعّفه القطان، وابن معين، وأبو داود، والنسائي، وابن عدي، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو زرعة: صدوق وليس بقوي. وقال أحمد: كان صدوقاً لكنه لا يقيم الاسناد، ليس بذلك (خلاصة الخزرجي).
وهو عن المقبري _ سعيد بن أبي سعيد _ أرسل عن أم سلمة، وعن أبيه، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأنس وخلق، اختلط قبل موته بثلاث سنين كما عن الواقدي، وعن غيره بأربع سنين، مات سنة 123، وقيل: 125، وقيل: 126، كما في الخلاصة وتهذيب التهذيب.
والآن إلى ما في المتن بعد الغض عن الإرسال في السند، لنرى ما فيه مما هو مقبول وما هو مرفوض ومرذول.
أ _ لقد قرأنا في أوله أن المهاجرين بينما هم في حجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)... إذ جاء معن بن عدي وعويم بن ساعدة فقالا لأبي بكر:... فمضى أبو بكر وعمر وأبو عبيدة حتى جاؤوا سقيفة بني ساعدة.
وهذا أوّل ما فيه من المرفوض المرذول، إذ لا يعقل أن يكون المهاجرون جميعاً في الحجرة، فهي لا تسعهم جميعاً مهما قيل في سعتها، والخبر لم يفصح عن أسماء من كان في الحجرة منهم، غير أنّ اليقين كل اليقين أنّ الذين كانوا داخل الحجرة هم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) علي والعباس وآلهما، كما مرّ في أول النصوص عن أول المؤرخين الذين ذكرنا أقوالهم، وهو ابن إسحاق فقد مر في
فهذا يدل على أنّ عمر وأبا بكر لم يكونا في داخل الحجرة، وإذا لم يكونا هما فيها، فغيرهما أولى بأن لا يكون في داخلها.
ومن الراجح الذي يقارب اليقين أنهما وسائر الحاضرين كانوا في المسجد قريباً من الحجرة، وهذا يقوّيه ما مرّ من سَورة عمر وثورته في إنكاره موت النبي (صلى الله عليه وآله)، وخروج العباس إلى الناس وكلامه معهم في تفنيد مزاعم عمر، ولم يهدأ عمر حتى أتى أبو بكر وكان غائباً بمنزله في السنح، وكل هذا تقدمت النصوص بذكره مما دلّ على تبييت في منازعة أهل البيت على حقهم في الخلافة، ولنطوي عن التفاصيل في ذلك، ونعود إلى ما في خبر المقبري من مزاعم تثبت الإدانة.
ب _ جاء في خطبة أبي بكر في السقيفة ما ساقه من حجج الأولوية للمهاجرين على الأنصار: (نحن المهاجرون أول الناس إسلاماً، وأكرمهم أحساباً، وأوسطهم داراً، وأحسنهم وجوهاً، وأمسّهم برسول الله (صلى الله عليه وآله) رحماً...).
وهذا كل الذي احتج به أبو بكر على الأنصار _ إن صح _ فهو محجوج به قبل غيره، فإنّ أولية الإسلام _ وهي اُولى حججه _ فقد سبقه لها أكثر من خمسين إنساناً(1) ، وأولهم سيدهم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)(2)، وما أكرم أحساباً من بني هاشم لقوله (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»(3)، فهذا وما يليه مما ذكره أبو بكر محتجاً به يكون به محجوجاً إذا ما ذكرنا علياً (عليه السلام).
____________
1- راجع تاريخ الطبري 3: 167.
2- علي إمام البررة 1: 416 _ 418.
3- هذا حديث صحيح رواه مسلم كما في جمع الفوائد (ينابيع المودّة 12) وفي سنن الترمذي: باب مناقب النبي (صلى الله عليه وآله).
قال أحمد أمين في كتابه يوم الإسلام(1): (ومن مظاهر هذا _ يعني عصبية العرب في تولية الأمر نقلاً عن ابن خلدون _ ما كان من خلاف الصحابة على من يتولى الأمر بعد الرسول، وكان هذا ضعف لياقة منهم، إذ اختلفوا قبل أن يدفن الرسول، ولكن كان عذرهم في ذلك العمل على ضم الشمل وجمع الكلمة، فلما مات النبي (صلى الله عليه وآله) حصل هذا الإختلاف فبايع عمر أبا بكر ثم بايعه الناس، وكان هذا مخالفة لركن الشورى، ولذلك قال عمر: إنّها غلطة وقى الله المسلمين شرها، وكذلك كانت غلطة بيعة أبي بكر لعمر، وإن كان قد استشار كبار الصحابة في ذلك، فبعضهم حمده وبعضهم خاف من شدته...).
ونحن لا نزيد على ما قاله أحمد أمين إلا بما جاء في مآثر الإنافة للقلقشندي(2): لأنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة، وهم: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وأسيد بن حضير، وبشير بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة، ثم تابعهم الناس على ذلك.
النص الثالث(3): الذين تخلّفوا عن بيعة أبي بكر: عليّ، والعباس، والزبير، وسعد بن عبادة، فأما علي والعباس والزبير، فقعدوا في بيت فاطمة حتى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة، وقال له: إن أبوا فقاتلهم.
____________
1- يوم الإسلام: 53 _ 54.
2- مآثر الإنافة للقلقشندي: 43.
3- المصدر نفسه: 259.
وهذا من أقبح الكذب فإن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»(1)، في خبر عن علي بن رباح قال: جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي وأبّي(2).
وقد روى الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل(3) بسنده عن عبد خير عن علي (عليه السلام) أنّه رأى من الناس طيرة عند وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأقسم أن لا يضع على ظهره رداء حتى يجمع القرآن، فجلس في بيته حتى جمع القرآن، فهو أول مصحف جمع فيه القرآن، جمعه من قلبه، وكان عند آل جعفر.
وفي خبر عن ابن سيرين قال: فكتبه على تنزيله فلو أصبت ذلك الكتاب كان فيه علم كثير، ومع هذه الآثار والأخبار يقول خبر ابن عبد ربه (حتى أحفظ القرآن) وليس غريباً من النواصب قول مثل هذا، ألم يقل الشعبي من قبل وهو يحلف بالله: (لقد دخل علي حفرته وما حفظ القرآن)(4).
قال الصاحبي في فقه اللغة(5): وهذا كلام شنيع جداً فيمن يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فما من آية إلاّ أعلم بليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل.
____________
1- مستدرك الحاكم 3: 124، والجامع الصغير للسيوطي 4: 356.
2- شواهد التنزيل للحسكاني 1: 25.
3- المصدر نفسه 1: 27.
4- القرطين للكناني 1: 158.
5- فقه اللغة: 170.
النص الرابع(2): ومن حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة، وذلك ستة أشهر من موت أبيها (صلى الله عليه وآله) فأرسل علي إلى أبي بكر، فأتاه في منزله فبايعه، وقال: والله ما نفسنا عليك ما ساق الله إليك من فضل وخير، ولكنّا كنّا نرى أنّ لنا في هذا الأمر شيئاً فاستبددت به دوننا، وما ننكر فضلك.
أقول: ما جاء في النص الثالث صريح في استعمال منتهى القسوة والفظاظة لأخذ البيعة من علي والعباس والزبير، ومع ذلك ففي آخره: فخرج علي حتى دخل على أبي بكر فبايعه... وهذا لا يتسق مع ما مرّ قبله من قول أبي بكر: وإن أبوا فقاتلهم، ومجيئ عمر بقبس من نار على أن يُضرم عليهم الدار، وما قالته فاطمة لعمر: أجئت لتحرق دارنا، وجواب عمر: نعم أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة، فإنّ علياً لم يخرج باختياره ولم يبايع حتى بعد أن أخرج قهراً.
وحسبنا النص الرابع، وهو يرويه من لا يتهم بمبالاة علي ولا موالاته، فالزهري عن عروة عن عائشة، ثلاثتهم من المنحرفين عن علي، والنص يصرح: لم يبايع علي حتى ماتت فاطمة، وذلك لستة أشهر من موت أبيها (صلى الله عليه وآله).
ثم إنّ بيعة علي _ إن صحّت _ لم يخرج هو إلى أبي بكر، بل أرسل إلى أبي بكر فأتاه في منزله فبايعه؟(3)
ما ذكره المسعودي:
الخامس عشر: أبو الحسن المسعودي (ت 346 هـ)، وقد مرّت ترجمته وانه كان شافعياً فيما أراه أولاً، ثم استبصر كما مرّ.
____________
1- الأنعام: 120.
2- مآثر الإنافة للقلقشندي: 260.
3- سيأتي في موقف الإمام (عليه السلام) كلام حول هذه البيعة.
النص الأول: (ولم يخلّف من الولد إلاّ فاطمة (عليها السلام)، وتوفيت بعده بأربعين يوماً، وقيل سبعين يوماً، وقيل غير ذلك).
النص الثاني(2): (وفيها _ سنة إحدى عشرة _ كانت وفا ة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) على حسب ما ذكرنا من تنازع الناس في مقدار عمرها ومدة بقائها بعد أبيها، ومن الذي صلى عليها: العباس بن عبد المطلب أم بعلها علي، ولما قبضت ابنة الرسول جزع عليها بعلها جزعاً شديداً، واشتد بكاؤه، وظهر أنينه وحنينه، وقال في ذلك:
لكل اجتماع من خليلين فرقة | وكل الذي دون الممات قليل |
وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمد | دليل على أن لا يدوم خليل |
النص الثالث(3): قال: (ولما بويع أبو بكر في يوم السقيفة وجدّدت البيعة له يوم الثلاثاء على العامة، خرج علي فقال: أفسدت(4) علينا أمورنا ولم تستشر، ولم ترع لنا حقاً، فقال أبو بكر: بلى، ولكني خشيت الفتنة، وكان للمهاجرين والأنصار يوم السقيفة خطب طويل، ومجاذبة في الإمامة، وخرج سعد بن عبادة ولم يبايع، فسار إلى الشام فقتل هناك في سنة خمس عشرة، وليس كتابنا هذا موضعاً لخبر مقتله، ولم يبايعه أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة (رضي الله عنها)).
النص الرابع(5): قال: (ولما احتضر _ أبو بكر _ قال: ما آسى على شيء إلا على ثلاث فعلتها وددت أنّي تركتها، وثلاث تركتها وددت أنّي فعلتها، وثلاث وددت
____________
1- مروج الذهب 2: 289.
2- المصدر نفسه 2: 298.
3- المصدر نفسه 2: 307 _ 308.
4- كذا في تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد, وفي شارل: أفت, وعلق في الهامش _ 4: افتقت، ت: أفتيت، والظاهر صواب ما في تحقيق عبد الحميد.
5- المصدر نفسه 2: 308.