الصفحة 270
1 _ قال: (وليس لمالك بن أوس في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في البيوع).

2 _ وقال: (تنبيه: ظنّ قوم أنّ الزهري تفرّد برواية هذا الحديث، فقال أبو علي الكرابيسي: أنكره قوم وقالوا: هذا من مستنكر ما رواه ابن شهاب، قال: فإن كانوا علموا أنّه ليس بفرد فهيهات، وإن لم يعلموا فهو جهل، فقد رواه عن مالك بن أوس، وعكرمة بن خالد، وأيوب بن خالد، ومحمد بن عمر، وابن عطاء وغيرهم).

3 _ قال: (زاد شعيب ويونس: فاستب علي وعباس، وفي رواية عقيل عن ابن شهاب في الفرائض: اقض بيني وبين هذا الظالم، استبا، وفي رواية جويرية: وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن، ولم أر في شيء من الطرق أنّه صدر من علي في حق العباس شيء بخلاف ما يفهم... واستصوب المازري صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث).

4 _ قال: (زاد في رواية عقيل: وانتما حينئذٍ _ وأقبل على علي وعباس _ تزعمان أنّ أبا بكر كذا وكذا، وفي رواية شعيب: كما تقولان... فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً).

5 - قال: (وكأن الزهري كان يحدث به تارة فيصرّح، وتارة فيكنّي، وكذلك مالك، وقد حذف ذلك في رواية بشر بن عمر عنه عن الإسماعيلي وغيره، وهو نظير ما سبق من قول العباس لعلي، وهذه الزيادة من رواية عمر عن أبي بكر حذفت من رواية إسحاق الفروي شيخ البخاري، وقد ثبتت أيضاً في رواية بشر بن عمر عنه عند أصحاب السنن، والإسماعيلي وعمرو بن مرزوق وسعيد بن داود كلاهما عند الدارقطني، كلاهما عن مالك على ما قال جويرية عن مالك، واجتماع هؤلاء عن مالك يدل على أنّهم حفظوه، وهذا القدر المحذوف من

الصفحة 271
رواية إسحاق ثبت من روايته في موضع آخر من الحديث، لكن جعل القصة فيه لعمر... واقتصر بعض الرواة على ما لم يذكره الآ خر، ولم يتعرض أحد من الشرّاح لبيان ذلك).

6 _ قال: (وفي ذلك إشكال شديد، وهو أن أصل القصة صريح في أنّ العباس وعلياً قد علما بأنّه (صلى الله عليه وآله) قال: لا نورّث، فإن كان سمعاه من النبي (صلى الله عليه وآله) فكيف يطلبانه من أبي بكر؟ وإن كانا إنّما سمعاه من أبي بكر أو في زمنه بحيث أفاد عندهما العلم بذلك، فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر؟ والذي يظهر والله أعلم حمل الأمر في ذلك على ما تقدم في الحديث الذي قبله في حق فاطمة، وأنّ كلاً من علي وفاطمة والعباس اعتقد أنّ عموم قوله (لا نورّث) مخصوص ببعض ما يخلّفه دون بعض، ولذلك نسب عمر إلى علي وعباس أنّهما كانا يعتقدان ظلم من خالفهما في ذلك).

إلى غير ذلك مما دلّ على مدى تلاعب الرواة بهذا الحديث فيزيد هذا وينقص ذاك، وكأنّ الأمر الأهم هو تزكية الشيخين فيما فعلا، وإن جرحهما علي وعباس على ما قاله عمر عنهما بمحضر من وجوه الصحابة كعثمان، والزبير، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، فلم ينكر علي وعباس ما نسبه اليهما عمر من رأيهما في أبي بكر: (فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً).

كما لم ينكرا ذلك من رأيهما فيه على نحو رأيهما في أبي بكر (فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً)، كما لم يستنكر ذلك وجوه الصحابة الحضور، وهذا يعني موافقتهم لعمر في صحة ما نسبه إلى علي وعباس، إن لم تكن موافقة منهم لرأي علي وعباس في الشيخين.

وفي صحيح مسلم وشروحه ما يؤيّد ما قلناه، فقد رواه بإسناده إلى مالك بن أوس وساق الحديث، وفيه فقال عباس: يا أمير المؤمنين إقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن (؟).


الصفحة 272
وفيه: فرأيتماه _ يعني أبا بكر _ كاذباً آثماً غادراً خائناً.

وفيه: فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً.

وعقب القاضي عياض في شرحه على قول العباس في علي بقوله: هذا الكلام لا يليق أن يقع من مثل العباس، وعلي منـزه عن بعضه فضلاً عن كله، والعصمة وإن كانت لا تثبت إلا لنبي ولمن شهد له بها نبي، لكنّا مأمورون بتحسين الظن بالصحابة، ونفي كل رذيلة عنهم، وقد أسقط بعضهم هذه الألفاظ من نسخته تورّعاً، ولعله وهم الراوي، وإن صحت هذه الألفاظ فأوجه ما فيها أن يقال: إنّها صدرت من العباس على وجه الدالة على ابن أخيه، لأنّه في الشرع بمنـزلة أبيه...)(1).

أقول: وعلى هذا كان قول المازري بالنسبة للموردين الآخرين المتعلقين بالشيخين (فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً) فقال: ويجب عندي تأويل قول عمر هذا في أبي بكر، وقوله على نفسه مثل ذلك، ثم تكلف في التوجيه ما زاد الحال في الغموض والتمويه(2).

ما ذكره مسلم بن الحجاج:

تاسعاًً: ماذا عند مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت 261 هـ)؟

النص الأول: أخرج في كتاب الوصية باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه(3)، قال: حدّثنا يحيى بن يحيى التميمي، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف قال: سألت عبد الله بن أبي

____________

1- راجع إكمال إكمال المعلم للوشتاني الآبي 5: 74.

2- المصدر نفسه 5: 75.

3- صحيح مسلم 5: 74.


الصفحة 273
أوفى: هل أوصى رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: لا، قلت: فلم كتب على المسلمين الوصية؟ أو فلم أُمِروا بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله (عزّ وجلّ)، ثم ذكر له أسانيد غير ما سبق.

وهذا الخبر سبق أن ذكرناه فيما رواه ابن هشام في سيرته، وعقبنا عليه بما وسع له المقام فراجع.

ولشرّاح صحيح مسلم فيه تطبيل وتضليل من غير تحصيل، فراجع النووي، والوشتاني الآبي، والسنوسي الحسيني في شروحهم في المقام.

النص الثاني: وأخرج في كتاب الوصية أيضاً وفي الباب الآنف الذكر(1)، بسنده عن الأسود بن يزيد قال: ذكروا عند عائشة أنّ علياً كان وصياً، فقالت: متى أوصى إليه، فقد كنت مسندته إلى صدري (أو قالت حجري) فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري وما شعرت أنّه مات، فمتى أوصى إليه؟!

وهذا الخبر أيضاً تقدم مثله عن أحمد في مسنده، في النص السابع وذكرنا ما يتعلق به، ونضيف هنا قول الوشتاني الآبي في شرحه المسمى إكمال اكمال المعلم بشرح صحيح مسلم(2)، فقد قال: (قوله: فلم يوص بشيء، فيه: انّ الشهادة على النفي من العلم مقبولة، وبهذا المعنى صار قولها حديثاً، كأنّه بمنزلة قوله: لا أوصي بشيء، ثم سبب الوصية إنّما هو حدوث المرض لا الانتهاء إلى هذه الحالة، وحينئذٍ لا يتقرر ما ذكرت دليلاً على أنه لم يوص، لاحتمال أن يكون أوصى قبل ذلك).

والشيعة إنّما كانت تقول أنّه (صلى الله عليه وآله) أوصى إلى علي بولاية الأمر والخلافة في امته من بعده، وهذا ما أنكرته عائشة وزعمت موته (صلى الله عليه وآله) بين حاقنتها وذاقنتها أو بين سحرها نحرها... كما مرّ ذلك عنها، ومرّ تكذيب زعمها عن ابن عباس وعن أم سلمة وعن عمر، فراجع ذلك في النص السابع عند أحمد.

____________

1- المصدر نفسه 5: 75.

2- إكمال إكمال المعلم 4: 352.


الصفحة 274
النص الثالث: أخرج أيضاً تلو ما سبق بسنده، قال: حدّثنا سعيد بن منصور، وقتيبة بن سعيد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد (واللفظ لسعيد) قالوا: حدّثنا سفيان، عن سليمان الأحول، عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حتى بلّ دمعه الحصى، فقلت: يابن عباس وما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعه فقال: «إئتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي»، فتنازعوا، وما ينبغي عند نبي تنازع، وقالوا: ما شأنه أهجر استفهموه، قال: «دعوني فالذي أنا فيه خير، أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم». قال: وسكت عن الثالثة، أو قالها فأنسيتها. انتهى.

وأردف في هذا الحديث بثان في معناه ولفظه: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنّه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنّها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إئتوني بالكتف والدواة (أو اللوح والدواة) أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً»، فقالوا: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهجر.

وساق الحديث ثالثاً بسند آخر عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: لما حُضِر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده، فقال عمر: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «قوموا».


الصفحة 275
قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.

أقول: إنّ هذا الحديث رواه ابن سعد في الطبقات، وعبد الرزاق في المصنف، والبخاري في صحيحه مكرراً وفي عدة أبواب، وغيرهم كثير وهو (حديث الرزية) وقد استوفينا طرقه ومتونه باختلاف رواته في موسوعة (عبدالله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن) ، وذكرنا مختلف آراء العلماء فيه.

والتحقيق أنّ القائل للكلمة الجافية النابية (إنّه ليهجر) هو عمر بن الخطاب، وإنّ الغرض من الكتاب هو النص (تحريرياً) على خلافة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، حسماً للنـزاع، لكن عمر منع من ذلك واعترف بعد حين حيث قال لابن عباس: «واراده رسول الله للأمر فمنعت من ذلك» راجع الموسوعة تجد فيها ما يزيل البهمة ويكشف الغمة، وقد مرّ في ذيل حديث البخاري في تخاصم علي والعباس عند عمر ما يتعلّق برواية مسلم للحديث، وفيه ما لم يوجد عند البخاري في روايته فراجع.

ما ذكره ابن شبّة:

عاشراًً: ماذا عند عمر بن شبّة البصري النحوي الأخباري (ت 262 هـ)؟

ذكر في كتابه تاريخ المدينة المنورة (أخبار المدينة المنورة)(1) (ذكر فاطمة والعباس وعلي (رضي الله عنهم) وطلب ميراثهم من تركة النبي (صلى الله عليه وآله)) ثم ساق خمسة عشر حديثاً ننتخب منها ما يلي:

النص الأوّل: قال: حدّثنا سويد بن سعيد، والحسن بن عثمان قالا: حدّثنا الوليد بن محمد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أنّ فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)

____________

1- أخبار المدينة المنورة 1: 122.


الصفحة 276
أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما أفاء الله على رسوله، وفاطمة حينئذٍ تطلب صدقة النبي (صلى الله عليه وآله) التي بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول الله قال: (لا نورّث ما تركنا صدقة) إنّما يأكل آل محمد في هذا المال، وإنّي لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولأعملنّ فيها بما عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة (رضي الله عنها) منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ستة أشهر، فلما توفيت دفنها [زوجها] علي ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها علي (رضي الله عنه).

النص الثاني: وأيضاً روى تلو ذلك فقال: حدّثنا إسحاق بن إدريس، قال: حدّثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: انّ فاطمة والعباس أتيا ابا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهما حينئذٍ يطلبان أرضه من فدك [وسهمه] من خيبر، فقال لهما أبو بكر: انّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا نورّث، ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمد من هذا المال، وإنّي والله لا أغير أمراً رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصنعه إلا صنعته، قال: فهجرته فاطمة (رضي الله عنها)، فلم تكلمه في ذلك المال حتى ماتت.

ثالثاً:، قال(1): حدّثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، قال: حدّثنا فضيل بن مرزوق، قال: حدّثني النميري بن حسان، قال: قلت لزيد بن علي _ رحمة الله عليه _ وأنا أريد أن أهجّن أمر أبي بكر: أنّ أبا بكر انتزع من فاطمة (رضي الله عنها) فدك، فقال: انّ أبا بكر كان رجلاً رحيماً، وكان يكره أن يغيّر شيئاً تركه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأتته فاطمة فقالت: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطاني فدك، فقال لها: هل لك على هذا

____________

1- المصدر نفسه 1: 124.


الصفحة 277
بيّنة؟ فجاءت بعلي (رضي الله عنه) فشهد لها، ثم جاءت بأم أيمن فقالت: أليس تشهد أنّي من أهل الجنة؟ قال: بلى _ قال أبو أحمد: يعني أنّها قالت ذاك لأبي بكر وعمر _ قالت: فأشهد أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أعطاها فدك، فقال أبو بكر: فبرجل وامرأة تستحقينها أو تستحقين بها القضية؟ قال زيد بن علي: وأيم الله لو رجع الأمر إليّ لقضيت فيها بقضاء أبي بكر.

أقول: وهذا الخبر لا يصح سنداً لجهالة النميري بن حسان الذي خلت معاجم الرجال والتراجم عن ذكره، مضافاً إلى جرح فضيل بن مرزوق الذي قال فيه ابن حبّان: منكر الحديث جداً، وقال فيه الحاكم: عيب على مسلم إخراجه في الصحيح، وسئل ابن أبي حاتم عن حديثه يحتج به؟ فقال: لا. راجع بشأنه ميزان الاعتدال، وسير أعلام النبلاء، والمغني، والكاشف كلها للذهبي، وتهذيب التهذيب لابن حجر.

أما نكارة متنه فهو مستبطن لكذبه، إذ كيف يعقل أن يقول زيد ذلك، وهو الفقيه في دينه العالم بالأحكام، وهو يعلم أنّ جده علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): «علي مع الحق والحق مع علي»، مضافاً إلى عصمته بنص آية التطهير، وكذلك جدته فاطمة الزهراء (عليها السلام) المعصومة بآية التطهير، وهي بضعة النبي (صلى الله عليه وآله)، وهي صاحبة اليد، كل ذلك يمنع من التجاوز على ما تحت يدها ويغني عن طلب البينة، ودع أم أيمن المشهود لها بالجنة، واستشهادها لأبي بكر على ذلك فصدقها، أكل ذلك لا يعرفه زيد؟

ولو أغمضنا النظر عن جميع ذلك، ألم يعلم أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر؛ وأبو بكر هو المدّعي فكان عليه هو أن يقيم البيّنة، لا السيدة الزهراء صاحبة اليد؛ لانتزاعه منها فدكاً بنص الخبر، فكل هذا لا يعرفه زيد؟ معاذ الله، ثم خلوّ المصادر الزيدية عن ذكر هذا عن زيد (رحمه الله) يوهن الرواية.


الصفحة 278
رابعاً: ذكر خبر مالك بن أوس بن الحدثان في (خصومة علي والعباس (رضي الله عنهما) إلى عمر (رضي الله عنه))(1) وفيه شهادة عمر على علي والعباس أمامهما وأمام الحضور من وجوه الصحابة: (تزعمان أنّ أبا بكر فيها ظالم فاجر...)، وأيضاً: (فتزعمان أنّي فيها ظالم فاجر...).

وهذا الخبر مرّ بطوله فيما ذكرناه في النص الثامن عن عبد الرزاق من كتابه (المصنف) وذكرناه أيضاً عن البخاري فيما أخرجه في صحيحه بدون كلمة الشتيمة، وعقبنا عليه بما اقتضاه المقام فراجع النص الثالث ماذا عند البخاري، وقد علّق المحققان على كتاب عمر بن شبه في هامش الخبر بذكر المصادر(2).

ونحن سوف لا نذكر الخبر بعد هذا مرّة ثالثة ورابعة عن أصحاب تلك المصادر، كما لا يفوتنا التنبيه على أنّ عمر بن شبة قد ذكر الخبر بعد هذا ست مرّات بتفاوت في الألفاظ مطولاً ومختصراً.

كما روى مكرراً خبر مطالبة الزهراء (عليها السلام) أبا بكر في فدك والصوافي، وهو يأبى أن يدفع إليها ذلك، حتى روى في خبر عنها أنّها طالبته واحتجت عليه بآيات الخمس والفيء فلم يستجب لها، وفي آخر الخبر قال لها: وهذا عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهما فاسأليهم عن ذلك، فانظري هل يوافق

____________

1- المصدر نفسه 1: 126.

2- أخرجه البخاري: 2904 و3094 و4033 و4885 و5357 و5358 و2728 و7305.

ومسلم: 757 ح48، 49 و50 , وأبو داود: 2965, والترمذي: 1610, والنسائي 7: 136 _ 137, وأحمد 1: 25 و48 و162 و164 و179 و191, والبيهقي في السنن 6: 297, والبغوي في مصابيح السنة: 2738, وفي التفسير 4: 416, وأبو يعلى 2: 3 و4, والطبري في التفسير: 38 _ 39, والمروزي: 1 و3, والحميدي: 22, وعبد الرزاق: 9772, وابن حبّان: 6608, وابن سعد 2: 314, كلهم بنحو هذا الإسناد مختصراً ومطولاً.


الصفحة 279
على ذلك أحد منهم؟ فانصرفت إلى عمر فذكرت له مثل الذي ذكرت لأبي بكر بقصته وحدوده، فقال لها مثل الذي كان راجعها به أبو بكر، فعجبت فاطمة وظنت أنهما قد تذاكرا ذلك واجتمعا عليه.

فهذا الخبر _ وإسناده حسن كما ذكر المحققان في هامشه _ جاء في آخره ما أوحى إلى أنّ فاطمة (عليها السلام) عجبت من موافقة عمر لصاحبه حتى (ظنت قد تذاكرا ذلك واجتمعا عليه) وهذا يشعر بسوء ظنها فيهما لتأمرهما على غصب النحلة منها، أليس كذلك!؟

ما ذكره ابن قتيبة:

الحادي عشر: ماذا عند ابن قتيبة (ت 270 هـ)؟

النص الأوّل: ذكر في كتابه المعارف (المحسن) وقد مرّ بنا في (نظرة في المصادر) ما يتعلق به فلا حاجة إلى الإعادة.

النص الثاني: ذكر في كتابه تاريخ الخلفاء الراشدين (الإمامة والسياسة)(1)، بيعة السقيفة وما جرى بين أبي بكر والأنصار، وامتناع سعد بن عبادة عن مبايعة أبي بكر حتى مات، وإنّ بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار إلى علي بن أبي طالب ومعهم الزبير بن العوام، وكانت أمه صفية بنت عبد المطلب، وإنّما كان يعدّ نفسه من بني هاشم، وكان علي _ كرّم الله وجهه _ يقول: ما زال الزبير منّا حتى نشأ بنوه فصرفوه عنّا....

واجتمعت بنو أمية إلى عثمان، واجتمعت بنو زهرة إلى سعد وعبدالرحمن بن عوف، فكانوا في المسجد الشريف مجتمعين، فلما أقبل عليهم أبو بكر وأبو عبيدة _ وقد بايع الناس أبا بكر _ قال لهم عمر: ما لي أراكم مجتمعين حلقاً شتّى، قوموا

____________

1- الإمامة والسياسة 1: 11.


الصفحة 280
فبايعوا أبا بكر فقد بايعته وبايعه الأنصار، فقام عثمان بن عفان ومن معه من بني أمية فبايعوه، وقام سعد وعبد الرحمن بن عوف ومن معهما من بني زهرة فبايعوا.

وأما علي والعباس بن عبد المطلب ومن معهما من بني هاشم، فانصرفوا إلى رحالهم ومعهم الزبير بن العوام، فذهب اليهم عمر في عصابة فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن اشيم، فقالوا: انطلقوا فبايعوا أبا بكر، فأبوا، فخرج الزبير بن العوام بالسيف، فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار، وانطلقوا به فبايع، وذهب بنو هاشم أيضاً فبايعوا.

وفي هذا الخبر تطالعنا ثلاثة أمور لم نقف عليها من قبل فيما عرضناه من المصادر:

الأول: وهو تكتلات سياسية قبلية، تجمّعت في المسجد الشريف، وما اجتمعت، مما يدل على تباين في وجهات النظر.

الثاني: هيمنة عمر بن الخطاب على الموقف المتأزم، وبمجرد دعوة أولئك النفر المتحلقين المتخلفين إلى بيعة أبي بكر قاموا فبايعوا.

الثالث: بيعة بني هاشم.

وليس في الأمر الأول والثاني ما يستدعي النظر فيهما، لكن الأمر الثالث وهو بيعة بني هاشم يومئذٍ لافت للنظر، وهو مما انفرد ابن قتيبة بروايته، إذ أنّ بني هاشم ما بايعوا حتى بايع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو لم يبايع إلاّ بعد ستة أشهر حيث انصرفت وجوه الناس عنه بعد موت الزهراء (عليها السلام)، فضرع لفك الحصار الإجتماعي خشية تطوّره إلى المقاطعة، فيحل به ومعه بنو هاشم مثل ما حلّ بهم من قبل في مكة المكرمة إبان الدعوة الإسلامية، حين حوصروا في شعب أبي طالب (عليه السلام).

النص الثالث: قال(1) (إباية علي _ كرّم الله وجهه _ بيعة أبي بكر).

____________

1- المصدر نفسه 1: 12.


الصفحة 281
ثم إنّ علياً _ كرّم الله وجهه _ أتي به إلى أبي بكر وهو يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله، فقيل له: بايع أبا بكر، فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (صلى الله عليه وآله)، وتأخذوه منّا أهل البيت غصباً! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة، وسلّموا إليكم الإمارة، فإذاً أحتج عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار، نحن أولى برسول الله حياً وميّتاً، فانصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلا فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون.

فقال عمر: إنّك لست متروكاً حتى تبايع، فقال له علي: احلب حلباً لك شطره، وشدّ له اليوم يردده عليك غداً، ثم قال: يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه، فقال له أبو بكر: فإن لم تبايع فلا أكرهك.

فقال أبو عبيدة بن الجراح لعلي _ كرّم الله وجهه _: يابن عم إنّك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك، وأشد احتمالاً واستطلاعاً، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر، فإنّك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك.

قال علي _ كرّم الله وجهه _: الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، وتدفعون أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لأنا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم، ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المتطلع لأمر الرعية، الدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسويّة، والله أنه لفينا فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بُعداً.


الصفحة 282
وقال بشير بن سعد الأنصاري: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلفت عليك، قال: وخرج علي _ كرّم الله وجهه _ يحمل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) على دابة ليلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يابنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا عنه، فيقول علي _ كرّم الله وجهه _: أفكنت أدعُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيته لم أدفنه، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟

فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم.

النص الرابع: (كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه).

قال(1): وإنّ أبا بكر تفقد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند علي _ كرّم الله وجهه _، فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم في دار علي، فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنّها على مَن فيها، فقيل له: يا أبا حفص إنّ فيها فاطمة، قال: وإن.

فخرجوا فبايعوا إلا علياً، فإنّه زعم أنّه قال: حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن، فوقفت فاطمة (رضي الله عنها) على بابها فقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوء محضر منكم، تركتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) جنازة بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم لم تستأمرونا ولم تردوا لنا حقّاً.

فأتى عمر أبا بكر فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة، فقال أبو بكر لقنفذ وهو مولى له: إذهب فادع لي علياً، قال: فذهب إلى علي، فقال له: ما حاجتك؟ فقال: يدعوك خليفة رسول الله، فقال علي: لسريع ما كذبتم على رسول الله، فرجع فأبلغ الرسالة، قال: فبكى أبو بكر طويلاً.

____________

1- المصدر نفسه 1: 13.


الصفحة 283
فقال عمر الثانية: أن لا تهمل هذا المتخلف عنك بالبيعة، فقال أبو بكر لقنفذ: عد إليه فقل له: أمير المؤمنين يدعوك لتبايع، فجاءه قنفذ فأدّى ما أمر به، فرفع عليّ صوته فقال: سبحان الله لقد ادعى ما ليس له، فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة، فبكى أبو بكر طويلاً.

ثم قام عمر فمشى معه جماعة حتى أتوا باب فاطمة، فدقوا الباب، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبت يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة؟

فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تنصدع وأكبادهم تتفطّر؛ وبقي عمر ومعه قوم فأخرجوا علياً فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا: إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، قال: إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله؛ قال عمر: أمّا عبد الله فنعم، وأمّا أخا رسوله فلا. وأبو بكر ساكت لا يتكلم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك، فقال: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه، فلحق علي بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصيح ويبكي وينادي: «يابن أم إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني».

النص الخامس: قال(1): فقال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما، فأتيا علياً فكلّماه فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط، فسلّما عليها فلم تردّ عليهما السلام، فتكلم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله والله إنّ قرابة رسول الله أحب إليّ من قرابتي، وإنّك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أنّي مت ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك، وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله، إلا أنّي سمعت أباكِ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا نورّث، ما تركنا فهو صدقة.

____________

1- المصدر نفسه 1: 14.


الصفحة 284
فقالت: «أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعرفانه تفعلان به»؟ قالا: نعم، فقالت: «نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني»؟ قالا: نعم، سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قالت: «فإنّي أشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي لأشكونّكما إليه»، فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطكِ يا فاطمة، ثم انتحب أبو بكر يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: «والله لأدعونّ الله عليك في كل صلاة أصليها».

ثم خرج باكياً، فاجتمع إليه الناس فقال لهم: يبيت كل رجل منكم معانقاً حليلته مسروراً بأهله وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي، قالوا: يا خليفة رسول الله، إنّ هذا الأمر لا يستتم، وأنت أعلمنا بذلك إنّه إن كان هذا لم يقم لله دين، فقال: والله لولا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة بعدما سمعت ورأيت من فاطمة.

النص السادس: قال(1): فلم يبايع علي _ كرّم الله وجهه _ حتى ماتت فاطمة (رضي الله عنها)، ولم تمكث بعد أبيها إلا خمساً وسبعين ليلة.

النص السادس: قال(2): فأتى المغيرة بن شعبة فقال: أرى يا أبا بكر أن تلقوا العباس، فتجعلوا له في هذا الأمر نصيباً يكون له ولعقبه، وتكون لكما الحجة على علي وبني هاشم إذا كان العباس معكم.

____________

1- المصدر نفسه 1: 15.

2- المصدر نفسه 1: 15 _ 16.


الصفحة 285
قال: فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة حتى دخلوا على العباس (رضي الله عنه)، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه ثم قال: إنّ الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) نبياً وللمؤمنين ولياً، فمنّ الله تعالى بمقامه بين أظهرنا حتى اختار الله له ما عنده، فخلى على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم متفقين لا مختلفين، فاختاروني عليهم والياً ولأمورهم راعياً، وما أخاف بحمد الله وهناً ولاحيرة ولا جبناً، وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم عليه توكلت وإليه أنيب.

وما زال يبلغني عن طاعن يطعن بخلاف ما اجتمعت عليه عامة المسلمين، ويتخذونكم لحافاً (لجأ / ظ) فاحذروا أن تكونوا جهد المنيع، فإما دخلتم فيما دخل فيه العامة، أو دفعتموهم عما مالوا إليه، وقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً، يكون لك ولعقبك من بعدك، إذ كنت عم رسول الله، وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان أصحابك فعدلوا الأمر عنكم، على رسلكم بني عبد المطلب فإن رسول الله منّا ومنكم.

ثم قال عمر: أي والله واخرى إنّا لم نأتكم حاجة منّا إليكم، ولكنا كرهنا أن يكون الطعن منكم فيما اجتمع عليه العامة فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم ولعامتكم.

فتكلم العباس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنّ الله بعث محمداً كما زعمت نبياً وللمؤمنين ولياً، فمنّ الله بمقامه بين أظهرنا حتى اختار له ما عنده، فخلّى على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين للحق لا مائلين عنه بزيغ الهوى، فإن كنت برسول الله طلبت فحقنا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن منهم متقدمون فيهم، وإن كان هذا الأمر إنّما يجب لك بالمؤمنين، فما وجب إذ كنّا كارهين، فأما ما بذلت لنا فإن يكن حقاً لك فلا حاجة لنا فيه، وإن يكن حقاً للمؤمنين فليس لك أن تحكم عليهم، وإن كان حقنا لم نرض عنك فيه ببعض

الصفحة 286
دون بعض، وأما قولك إن رسول الله منّا ومنكم، فإنّه قد كان من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها.

النص الثامن: قال(1): ثم خرج أبو بكر إلى المسجد الشريف، فأقبل على الناس فعذر علياً بمثل ما اعتذر عنده، ثم قام علي فعظّم حق أبي بكر وذكر فضله وسابقته، ثم مضى فبايعه، فأقبل الناس على علي فقالوا: أصبت يا أبا الحسن وأحسنت.

النص التاسع: قال(2): فلما تمت البيعة لأبي بكر أقام ثلاثة أيام يقيل الناس ويستقيلهم، يقول: قد أقلتكم في بيعتي هل من كاره؟ هل من مبغض، فيقوم علي في أول الناس فيقول: «والله لا نقيلك ولا نستقيلك أبداً، قد قدّمك رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتوحيد ديننا من ذا الذي يؤخرك لتوجيه دنيانا».

النص العاشر: قال(3): (مرض أبي بكر واستخلافه عمر).

ثم إنّ أبا بكر عمل سنتين وشهوراً ثم مرض مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه أناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) فيهم عبد الرحمن بن عوف، فقال له: كيف أصبحت يا خليفة رسول الله، فإنّي أرجوا أن تكن بارئاً. قال: أترى ذلك؟ قال: نعم.

قال أبو بكر: والله إنّي لشديد الوجع لما ألقى منكم يا معشر المهاجرين أشدّ عليّ من وجعي، إنّي ولّيت أمركم ولّيت خيركم في نفسي فكلكم ورم أنفه، إرادة أن يكون هذا الأمر له، وذلك لما رأيتم الدنيا قد أقبلت.

أقول: ثم ساق ابن قتيبة حديث أبي بكر وما تمنّاه من مثلثاته، وقد مرّ ذكر ذلك في مقدمة هذا الباب فراجع.

____________

1- المصدر نفسه 1: 16.

2- المصدر نفسه 1: 16.

3- المصدر نفسه 1: 18.


الصفحة 287
النص الحادي عشر: قال ابن قتيبة(1): ودخل عليه المهاجرون والأنصار حين بلغهم أنّه استخلف عمر، فقالوا: نراك استخلفت علينا عمر وقد عرفته، وعلمت بوائقه فينا، وأنت بين أظهرنا فكيف إذا وليت عنّا، وأنت لاق الله (عزّ وجلّ) فسائلك فما أنت قائل؟

النص الثاني عشر: قال(2): ثم قال أبو بكر لعمر: خذ هذا الكتاب، واخرج به إلى الناس، وأخبرهم أنّه عهدي، وسلهم عن سمعهم وطاعتهم، فخرج عمر بالكتاب وأعلمهم، فقالوا: سمعاً وطاعة، فقال له رجل: ما في الكتاب يا أبا حفص؟ قال: لا أدري، ولكنّي أول من سمع وأطاع، قال: لكني والله أدري ما فيه، أمّرته عام أول وأمّرك العام.

ما ذكره البلاذري:

الثاني عشر: ماذا عند البلاذري (ت 279 هـ)، في كتاب أنساب الأشراف(3)؟

النص الأوّل: بسنده عن ابن عباس قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) عاصباً رأسه، حتى جلس على المنبر، وكان الناس قد تكلموا في أمره _ يعني أسامة _ حين أراد توجيههم إلى مؤتة، فكان أشدّهم قولاً في ذلك عياش بن أبي ربيعة، فقال: أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمرته، لقد قلتم في إمرة أبيه من قبله، ولقد كان أبوه للإمارة خليقاً، وأنه لخليق بها، وكان في جيش أسامة: أبو بكر وعمر، ووجوه من المهاجرين والأنصار، وخرج فعسكر بالجرف، فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستخلف أبو بكر، أتى أسامة فقال له: قد ترى موضعي من خلافة

____________

1- المصدر نفسه 1: 19.

2- المصدر نفسه 1: 20.

3- أنساب الأشراف 1: 474.