الصفحة 217
فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمّل(1) ، قلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ماله؟ فقالوا: وجع.

فلما جلسنا تشهّد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو له أهل، ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا، وقد دفّت دافّة من قومكم(2) ، قال: وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر.

فلمّا سكت أردت أن أتكلم، وقد زوّرت(3) في نفسي مقالة قد أعجبتني، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد، فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر، فكرهت أن أغضبه، فتكلم وهو كان أعلم منّي وأوقر، فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في بديهته أو مثلها أو أفضل حتى سكت.

قال: أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيّهما شئتم، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا، ولم أكره شيئاً ممّا قاله غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يُقرّبني ذلك إلى إثم أحبّ إليّ من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر.

قال قائل من الأنصار: أنا جُذيلها المحكك(4) وعذيقها المرجب(5) ، منّا أمير ومنكم أمير، يا معشر قريش، قال: فكثر اللغط وارتفعت الأصوات، حتى تخوّفت

____________

1- مزمّل: ملتفٌ في كساء أو غيره.

2- الدافة: القوم يسيرون جماعة سيراً ليس بالشديد؛ وفي المقام كناية عن بوادر غير محمودة لهضم حقوق الأنصار.

3- زوّرت مقالة: أصلحتها وحسّنتها.

4- الجذيل: تصغير جذل، وهو عود يكون في وسط مبرك الإبل تحتك به، وتستريح إليه، فتضرب به المثل للرجل يستشفى برأيه ووجد عنده الراحة.

5- العذيق: تصغير عذق وهي النخلة بنفسها، والمرجب الذي تبنى إلى جانبه دعامة ترفده لكثرة حمله، يضرب به المثل في الرجل الشريف الذي يعظمه قومه.


الصفحة 218
الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، ونـزونا(1) على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عُبادة؛ قال: فقلت: قتل الله سعد بن عبادة(2).

وفي هذا الخبر عدّة وقفات تدعو إلى التأمّل، نشير إلى بعضها لغرض تنبيه القارئ عليها، وله رأيه في تفسيرها:

أ _ التكتم على اسم الرجل الذي أتى عمر فقال له: «هل لك في فلان يقول»، فمن هو ذلك الرجل النمّام؟ ومن هو فلان القائل: «والله لو قد مات عمر... لقد بايعت فلاناً؟»، وأخيراً: فمن هو فلان الذي يريد مبايعته؟

تكتّم يبعث على الريبة في الرواة بدءاً من ابن إسحاق ومروراً برجال إسناده، وانتهاءً بعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن عوف، وإن كانا هما آخر من تتوجه اليهما أصابع الاتهام، لأنّهما كانا يرويان ما هو أشد إدانة.

أما ابن عباس فمروياته في تلك الأحداث سابقاً ولاحقاً كثيرة، وفي محاججته مع عمر في أمر الخلافة ما يرفع عنه إصر الإتهام، وأما عبد الرحمن بن عوف، فلا مجال لتهمته في المقام بعد أن قرأنا له فيما سبق روايته مثلثات أبي بكر، وهي تكفي في الإدانة، فتبقى أطراف الشبهة بين الأربعة:

أولهم: ابن إسحاق، وقد مرّ التعريف به.

وثانيهم: شيخه عبد الله بن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، أثنى عليه علماء الرجال، فوثّقه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي وغيرهم.

وثالثهم: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وهذا هو أقرب إلى التهمة من غيره، فقد كان مبالغاً في ركاب الأمويين، وله روايات عديدة كتم فيها اسم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وردت في مصنّف عبد الرزاق وغيره، فراجع.

____________

1- وثبنا عليه ووطئناه.

2- السيرة النبوية لابن هشام: ق2، 657 _ 660.


الصفحة 219
ورابعهم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو أحد فقهاء المدينة، تابعي كثير الحديث، وثّقه وأثنى عليه غير واحد، فهو بعيد عن التهمة.

ب _ وفي الخبر إشعار بأنّ هناك اُناس يتربصون موت عمر ليبايعوا من يرونه أهله، وقد أقلق ذلك عمر، فصار يعدّ لتحذير الناس منهم عدّته، وأراد أن يفاجأ الناس في أيام منى، لولا أنّ عبد الرحمن بن عوف حذّره مغبة ذلك، فأخذ بنصيحته.

ج _ وفي الخبر تصريح خطير من عمر في المدينة في ذكره آية الرجم: (فقرأناها وعلمناها ووعيناها) وليس في كتاب الله أيّ آية في ذلك، وقد شرق أصحاب الحديث وغرّبوا في توجيه ذلك، وسيأتي ما يتعلق به فيما عند البخاري.

د _ وفي الخبر كذلك ما ذكر من قراءته في كتاب الله: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) وهذا ما خلا منه كتاب الله، ولأئمة الحديث في توجيهه كسابقه كلام طويل عريض.

هـ _ إقرار عمر بأنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة، وإنّ الله قد وقى شرّها. فهي فلتة عن غير سابق مشورة بين المسلمين، ولا عهد من النبي (صلى الله عليه وآله) وقد تمت، وفيها شرّ إلاّ أنّ الله قد وقى شرها.

و _ وفي الخبر ذكر تخلف علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ومن معهما، وفي إقراره بتخلّف هؤلاء يكفي لنسف زعم الإجماع على خلافة أبي بكر.

ذ _ وفي الخبر: «واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر»، وتكرر ذكر المهاجرين مرّة أخرى، ولم يصرّح باسم واحدٍ غير أبي عبيدة بن الجراح كان معه، فمن هم أولئك المهاجرون الذين كانوا معه؟

ح _ وفي الخبر قول أبي بكر في حجته: (ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش...) فأين هذا من مزاعم حيكت له من بعد كدعوى تقديمه في الصلاة، وصحبة الغار وو....


الصفحة 220
ط _ وفي الخبر قول أبي بكر: (وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم...) وكأن ولاية الأمر إليه مفوضة، وله أن يرشح من يرضاه.

ي _ وفي الخبر قول الأنصاري: (منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش...) وهذا يدلّ على أنّ الاجتماع كان لاقتسام السلطة بين من حضر من قريش وبين الأنصار، وليس ثمة عهد نبوي، ولا هناك حساب لآخرين من المهاجرين لم يحضروا.

ك _ وأخيراً تمت البيعة بقول عمر: (ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته...).

ما ذكره عبد الرزاق الصنعاني:

ثانياً: ماذا عند عبد الرزاق بن همام الصنعاني؟

عنده عدّة نصوص نختار منها ما يلي:

النص الأول: لقد روى في كتابه المصنّف(1) عن معمر قال: وأخبرني أيوب عن عكرمة قال: قال العباس بن عبد المطلب: والله لأعلمنّ ما بقاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فينا، فقلت: يا رسول الله لو اتخذت شيئاً تجلس عليه يدفع عنك الغبار، ويردّ عنك الخصم، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): «لأدعنّهم ينازعوني ردائي ويطؤون عقبي، ويغشاني غبارهم حتى يكون الله يريحني منهم»، فعلمت أنّ بقاءه فينا قليل.

قال: فلما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام عمر فقال: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يمت، ولكن صعق كما صعق موسى، والله أنّي لأرجو أن يعيش رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى يقطع أيدي رجال وألسنتهم من المنافقين يقولون: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد مات.

فقام العباس بن عبد المطلب فقال: أيّها الناس هل عند أحد منكم عهدٌ أو عقدٌ من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قالوا: اللهم لا، قال: فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يمت حتى وصل

____________

1- مصنف عبد الرزاق 5: 433.


الصفحة 221
الحبال، ثم حارب وواصل وسالم ونكح النساء وطلّق، وترككم عن حجة بيّنة وطريق ناهجة، فإن يك ما يقول ابن الخطاب حقاً فإنّه لن يعجز الله أن يحثو عنه فيخرجه إلينا، وإلاّ فخل بيننا وبين صاحبنا، فإنّه يأسن كما يأسن الناس.

فهذا الخبر يكشف لنا عن أمور هي كما يلي:

1 _ ثمة غبار يُثار عند النبي (صلى الله عليه وآله) فيؤذيه، فيشير عليه عمه العباس باتخاذ ما يدفع عنه الغبار.

2 _ وثمة خصومة مع النبي (صلى الله عليه وآله) أشار إليها عمه بقوله: ويرد عنك الخصم.

3 _ وثمة سخط وألم من أولئك الذين يؤذون النبي (صلى الله عليه وآله) ، فينازعونه رداءه، ويطؤون عقبه، ويغشونه غبارهم، وهو (صلى الله عليه وآله) يصبر على جميع ذلك حتى يكون الله يخرجه منهم.

4 _ وثمة مقالة عمر الفجة الجوفاء الحمقاء بإنكار موت النبي (صلى الله عليه وآله) ، والقرآن فيه: {إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُمْ مَيِّـتُونَ}(1) وفيه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَر مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ}(2) وفيه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ..}(3) فهل يعقل أنّ عمر كل هذا لم يقرأه ولم يسمعه.

وهب أنّ ذلك كله كان، أفهل نسي حديث الكتف والدواة الذي انبرى هو للرد على النبي (صلى الله عليه وآله) بكلمته الجافية النابية: (إنّه يهجر).

5 _ ثم ما باله يصف من قال مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمنافقين، فمن هم أولئك؟ إنّها مكابرة وقحة، وجرأة عظيمة على أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله).

6 _ وفي قيام العباس للرد عليه في سؤاله من الناس عمّن عنده عهد أو عقد من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفي هذا كشف عمّا تكنّه الصدور، وتقرير بأن ليس عند

____________

1- الزمر: 30.

2- الأنبياء: 34.

3- آل عمرن: 144.


الصفحة 222
واحد من الناس أيّ عهد أو عقد يمكن أن يحتج به بعد ذلك، وهي لفتة بارعة تدلّ على حنكة وحزم في مثل ذلك الموقف الرهيب أمام الوعيد العمري.

7 _ وأخيراً يكشف آخر الخبر أنّ عمر كان ممانعاً من تجهيز الرسول (صلى الله عليه وآله)؛ لذلك قال العباس: فخل بيننا وبين صاحبنا، فانّه يأسن كما يأسن الناس.

وهذا الخبر رواه ابن سعد في الطبقات، والدارمي في سننه، وابن حجر في فتح الباري، وغيرهم بتفاوت يسير في ألفاظهم(1).

النص الثاني: عبد الرزاق(2) قال: أخبرنا معمر عن الزهري، قال: أخبرني أنس بن مالك أنّه سمع خطبة عمر الآخرة، حين جلس على منبر النبي (صلى الله عليه وآله)، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فتشهد عمر وأبو بكر صامت لا يتكلم، ثم قال عمر: أما بعد، فإنّي قلت مقالة وإنّها لم تكن كما قلت، وإنّي والله ما وجدت المقالة التي قلت في كتاب الله تعالى، ولا في عهد عهده إليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكنّي كنت أرجو أن يعيش رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى يدبرُنا _ يريد بذلك حتى يكون آخرنا _ فإن يك محمد قد مات فإنّ الله قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به، هذا كتاب الله فاعتصموا به تهتدون لما هدى الله به محمداً (صلى الله عليه وآله) ، ثم إن أبا بكر صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وثاني اثنين، وانّه أولى الناس بأموركم، فقوموا فبايعوه.

وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر، قال الزهري: ، أخبرني أنس، قال: لقد رأيت عمر يُزعج أبا بكر إلى المنبر إزعاجاً.

وهذا الخبر أخرجه ابن سعد في الطبقات(3) إلى ذكر كتاب الله والاهتداء به، إلا أنّ البخاري رواه في صحيحه كما في فتح الباري(4) ، وفي آخره: سمعت عمر

____________

1- طبقات ابن سعد 2: 266، والدارمي في سننه 1: 22 وابن حجر في فتح الباري 8: 103.

2- المصنف 5: 437.

3- طبقات ابن سعد 2: 270.

4- صحيح البخاري، فتح الباري 13: 164 _ بتمامه.


الصفحة 223
يقول لأبي بكر يومئذٍ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر، فبايعه الناس عامة.

وفي الخبر دلالة واضحة على موقف عمر من شد أزر أبي بكر، وحرصه على إتمام الأمر له.

النص الثالث: روىأيضاً(1) خطبة عمر التي قال فيها تعقيباً على ما بلغه من مقالة بعضهم: لو مات _ عمر _ قد بايعت فلاناً.

وجاء فيها: (إنّ الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) بالحق وأنـزل معه الكتاب، فكان مما أنـزل الله عليه آية الرجم، فرجم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورجمنا بعده، وإنّي خائف أن يطول بالناس زمان فيقول قائل: والله ما الرجم في كتاب الله، فيضل أو يترك فريضة أنـزلها الله، ألا وانّ الرجم حق على من زنى إذا أحصن وقامت البينة، وكان الحمل والاعتراف.

ثم قد كنّا نقرأ: (ولا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم) أو (فإنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم)، ثم إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم صلوات الله عليه، فإنّما أنا عبد الله، فقولوا عبد الله ورسوله، ثم أنّه بلغني أنّ فلاناً منكم يقول: انّه لو قد مات أمير المؤمنين قد بايعت فلاناً، فلا يغرنّ أمرءاً أن يقول: انّ بيعة أبي بكر كانت فلتة، وقد كانت إلا أن الله وقى شرها، وليس فيكم من يقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر.

إنّه كان من خبرنا حين توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإن علياً والزبير ومن معه تخلفوا عنه في بيت فاطمة، وتخلّفت عنّا الأنصار بأسرها في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون على أبي بكر، فقلت: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نؤمّهم فلقينا رجلين صالحين من الأنصار قد شهدا بدراً، فقالوا:....

____________

1- المصنف 5: 439.


الصفحة 224
ثم قال _ أبو بكر _: ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، فهم أوسط العرب داراً ونسباً، وإنّي قد رضيت لكم هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم... فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح....

قام رجل من الأنصار فقال: أنا جُذيلها المحكك وعذيقها المرجّب، منّا أمير ومنكم أمير، يا معشر قريش، فقال عمر بن الخطاب: لا يصلح سيفان في غمدٍ واحد؟ ولكن منّا الأمراء ومنكم الوزراء....

فارتفعت الأصوات بيننا، وكثر اللغط حتى أشفقت الاختلاف، فقلت:


الصفحة 225
يا أبا بكر ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعته فبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار، ونـزونا على سعد حتى قال قائل: قتلتم سعداً، قلت: قتل الله سعداً... فلا يغرنّ امرأ أن يقول انّ بيعة أبي بكر كانت فلتة، فقد كانت كذلك غير أنّ الله وقى شرّها....

وهذا الخبر أخرجه البخاري في صحيحه في باب رجم الحبلى، وأحمد في المسند، وفيه عدّة مواقع للنظر وكلها عليها علامات استفهام، لماذا الطعن في كتاب الله المقروء والموجود فعلاً، وليس فيه ما زعمه عمر بقوله: فكان مما أنـزل الله عليه _ على النبي _ آية الرجم؟ فأين هي اليوم في القرآن؟، وأيضاً قوله: قد كنّا نقرأ (ولا ترغبوا...) فأين هي الآن في القرآن؟ بماذا يجيب البخاريون عن رواية بخاريّهم.

وقوله: وإنّ علياً والزبير ومن معه تخلفوا عنه في بيت فاطمة، عمّن تخلفوا؟ ولماذا تخلّفوا؟ وقوله: وتخلفت عنّا الأنصار بأسرها، لماذا تخلفوا؟ وعن أيّ شيء تخلفوا؟ وقوله: واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فمن هم أولئك؟ وما هي أسماؤهم؟ ولم نجد التصريح بهم إلاّ ما جاء من تسمية أبي بكر أبا عبيدة بن الجراح، فتبيّن أنّهما المهاجرون، فجمعهم على طريقة المناطقة وهو أقلّ الجمع!!

وقوله: فارتفعت الأصوات بيننا وكثر اللغط حتى أشفقت الاختلاف، فقلت: يا أبا بكر ابسط يدك أبايعك؟ فهذا اعتراف خطير من عمر في شرعية بيعة أبي بكر، وإنّها لم تكن باجماع بل ولا باختيار، أليس كذلك؟

وقوله: ونـزونا على سعد _ أي تواثبنا _ لماذا المواثبة، وقد تمت المغالبة؟ هل كان ذلك لقتله، وربما دل عليه قول القائل قتلتم سعداً، وجواب عمر: قتل الله سعداً.

النص الرابع: وروى عبد الرزاق في المصنف(1)، عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال: قال عمر: اعقل عنّي ثلاثاً: الإمارة شورى، وفي فداء العرب مكان كل عبد عبد، وفي ابن الأمة عبدان، وكتم ابن طاووس الثالثة.

فماذا كانت الثالثة؟ وهل هي على نحو وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) الثالثة، كما في حديث الكتف والدواة؟(2).

ربما كانت كذلك، فتلك كانت وصيته بأهل بيته، إلاّ أنّ بعض الرواة كتمها تناسياً وليس نسياناً، ولكن هاهنا كتمها ابن طاووس عمداً، لماذا؟ فهل خشي على نفسه من بطش الأمويين؟ كيف وهو على خاتم سليمان بن عبد الملك: وكان كثير الحمل على أهل البيت (عليهم السلام)(3).

النص الخامس: وروى عبد الرزاق(4)، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة قال: لمّا بويع لأبي بكر تخلّف علي في بيته، فلقيه عمر فقال: تخلّفت عن بيعة أبي بكر؟! فقال: إنّي آليت بيمين حين قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألاّ أرتدي برداء إلاّ إلى الصلاة المكتوبة حتى أجمع القرآن، فإنّي خشيت أن يتفلت القرآن، ثم خرج فبايعه.

____________

1- المصنف 5: 446.

2- راجع بشأنها موسوعة (عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن) الحلقة الأولى1: 227_ 229.

3- تهذيب التهذيب 5: 268.

4- المصنف 5: 450.


الصفحة 226
وهذا الخبر رواه البلاذري في أنساب الأشراف(1) موقوفاً عن ابن سيرين.

ومهما يكن فهو جزء من عملية التعتيم الإعلامي السياسي، وبجرّة من القلم تخلف علي في بيته ولقيه عمر وقال:... ثم خرج فبايعه؟

النص السادس: وقال عبد الرزاق(2)، أخبرنا ابن مبارك، عن مالك بن مغول، عن ابن أبجر قال: لما بويع لأبي بكر جاء أبو سفيان إلى علي فقال: غلبكم على هذا الأمر أذلّ أهل بيت في قريش، أما والله لأملأنّها خيلاً ورجالاً، قال: فقلت: ما زلت عدواً للإسلام وأهله، فما ضر ذلك الإسلام وأهله شيئاً، انّا رأينا أبا بكر لها أهلاً.

وهذا الخبر أيضاً كسابقه في عملية التعتيم الإعلامي السياسي، وقد روى البلاذري معناه مسنداً عن الحسين عن أبيه(3).

النص السابع: وقال عبد الرزاق(4) بسنده عن الزهري في حديث (غزوة ذات السلاسل وخبر علي ومعاوية) فجاء فيه: ثم بعث أبو بكر حين ولّي الأمر بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاث (كذا) أمراء إلى الشام، وأمّر خالد بن سعيد على جند... ثم انّ عمر كلّم أبا بكر، فلم يزل يكلّمه حتى أمّر يزيد بن أبي سفيان على خالد بن سعيد وجنده، وذلك من موجدة وجدها عمر بن الخطاب على خالد بن سعيد، حين قدم من اليمن بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فلقي علي بن أبي طالب خالد بن سعيد فقال: أغلبتم يابني عبد مناف على أمركم؟ فلم يحملها عليه أبو بكر وحملها عليه عمر، فقال عمر: فإنك لتترك إمرته على الثعالب _ كذا _ فلما استعمله أبو بكر ذكر ذلك، فكلم أبا بكر فاستعمل مكانه يزيد بن أبي سفيان.

____________

1- أنساب الأشراف 1: 587.

2- المصنف 5: 451.

3- راجع أنساب الأشراف 1: 588.

4- المصنف 5: 454.


الصفحة 227
وهذا الخبر رواه ابن كثير في تاريخه(1)، وفيه: انّ خالد قدم وعليه جبّة ديباج، فلما رآها عمر أمر مَن هناك من الناس بتخريقها عنه، فغضب خالد وقال لعلي بن أبي طالب: يا أبا الحسن أغلبتم يابني عبد مناف عن الامرة؟ فقال له علي: أمغالبة تراها أو خلافة؟ فقال: لا يغالب على هذا الأمر أولى منكم، فقال له عمر بن الخطاب: اسكت فضّ الله فاك، والله لا تزال كاذباً تخوض فيما قلت ثم لا تضر إلاّ نفسك، وأبلغها عمر أبا بكر فلم يتأثر لها أبو بكر.

والخبر كسابقيه اعلامي سياسي لتبرير أمر الخلافة، وانّ علياً مقرّ بشرعيتها.

النص الثامن: وروى عبد الرزاق(2)، (خصومة علي والعباس) عن معمر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري، قال: أرسل إليّ عمر بن الخطاب... فبينا أنا كذلك جاءه مولاه فقال: هذا عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام... يستأذنون عليك، قال: إئذن لهم.

ثم مكث ساعة... فقال: هذا العباس وعلي يستأذنان عليك، فقال: إئذن لهما... فلما دخل العباس قال: اقض بيني وبين هذا، وهما يومئذٍ يختصمان فيما أفاء الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) من أموال بني النضير، فقال القوم: اقض بينهما يا أمير المؤمنين، وأرح كل واحد منهما من صاحبه فقد طالت خصومتهما، فقال عمر: أنشدكم الله... فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعده، أعمل فيه بما كان يعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيها، ثم أقبل على عليّ والعباس فقال: وأنتما تزعمان أنّه فيها ظالم فاجر، والله يعلم أنّه فيها صادق بار تابع للحق، ثم وليتها بعد أبي بكر سنين من إمارتي، فعملت فيها بما عمل رسول الله وأبو بكر، وأنتما تزعمان إنّي فيها ظالم فاجر....

____________

1- تاريخ ابن كثير 7: 3.

2- المصنف 5: 469.


الصفحة 228
وأخرج هذا الخبر الشيخان في صحيحهما بتحريف متعمد عند البخاري، حيث حذف جملة (ظالم فاجر) في المقامين مع أنّه أخرجه عن عبد الرزاق بسنده، ولم يذكر في الخبر عند كل من رواه انّ علياً والعباس تنصلا من كلمتهما واعتذرا عنها، مما يدل على إصرارهما بأنّ أبا بكر ظالم فاجر، وعمر مثله ظالم فاجر، وما أدري هل شهادة عمر عليهما بذلك مقبولة عند العمريين أم لا.

النص التاسع: وروى عبد الرزاق(1)، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: إنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهما حينئذٍ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا نورّث، ما تركنا صدقة إنّما يأكل آل محمد (صلى الله عليه وآله) من هذا المال...، قال: فهجرته فاطمة، فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت، فدفنها عليّ ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر.

قالت عائشة: وكان لعلي من الناس حياة فاطمة حبوة _ كذا _ فلمّا توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عنه، فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم توفيت.

قال معمر: فقال رجل للزهري: فلم يبايعه علي ستة أشهر؟ قال: لا، ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي، فلما رأى عليّ انصراف وجوه الناس عنه أسرع إلى مصالحة أبي بكر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا تأتنا معك بأحد، وكره أن يأتيه عمر لما يعلم من شدّته، فقال عمر: لا تأتهم وحدك، فقال أبو بكر: والله لآتينّهم وحدي وما عسى أن يصنعوا بي؟.

قال: فانطلق أبو بكر فدخل على عليّ وقد جمع بني هاشم عنده، فقام عليٌ فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد، يا أبا بكر فإنّه لم يمنعنا أن

____________

1- مصنف عبد الرزاق 5: 472 - 473.


الصفحة 229
نبايعك إنكار لفضيلتك، ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك، ولكنّا نرى أنّ لنا في هذا الأمر حقاً فاستبدتم به علينا، قال: ثم ذكر قرابته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحقهم، فلم يزل يذكر ذلك حتى بكى أبو بكر.

فلمّا صمت عليّ، تشهد أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فوالله لقرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحرى إلي أن أصل من قرابتي، والله ما ألوت في هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم عن الخير، ولكنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا نورّث، ما تركنا صدقةٌ، وإنّما يأكل آل محمد في هذا المال، وإنّي والله لا أذكر أمراً صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه إلا صنعته إن شاء الله.

ثم قال عليّ: موعدك العشية للبيعة، فلمّا صلّى أبو بكر الظهر، أقبل على الناس ثم عذر علياً ببعض ما اعتذر به، ثم قام عليّ فعظّم من حق أبي بكر، وفضيلته وسابقيته، ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه، فأقبل الناس إلى علي، فقالوا: أصبت وأحسنت، قالت _ يعني عائشة _: فكانوا قريباً إلى علي حين قارب الأمر والمعروف.

وهذا الخبر بطوله اختصره أحمد في المسند(1) ، والبخاري في صحيحه(2) اختصاراً مشيناً ومهيناً مع روايتهما له عن عبد الرزاق، فلم يذكرا جملة: فهجرته فاطمة فلم تكلّمه في ذلك حتى ماتت، إلى قوله: فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم توفيت، كما لم يذكرا سؤال رجل من الزهري عن عدم مبايعة الإمام لأبي بكر ستة أشهر، ولا جوا ب الزهري.

ولم يذكرا انصراف وجوه الناس عن الإمام علي بعد موت فاطمة (عليها السلام) مما اضطره لأن أسرع إلى مصالحة أبي بكر... ولم يذكرا أشياء أخرى فيها إدانة، فتحمل وزر الخيانة ولم يؤد الأمانة، والخبر كلّه من رواية الزهري الذي أوضح

____________

1- مسند أحمد 1: 26 برقم 9.

2- صحيح البخاري 5: 20.


الصفحة 230
سبب المصالحة كما سمّاها فقال: لما رأى علي إنصراف وجوه الناس عنه أسرع إلى مصالحة أبي بكر....

وهذا يعني مبلغ الجهد الذي كان يعانيه من ذلك الحصار الإجتماعي المضروب حوله، وبالتالي حول بني هاشم، وكأن قريشاً أعادت ذكرى الحصار الذي قاسوه منهم في أوائل البعثة بمكة أيام زعيمهم أبي طالب، وهاهم اليوم يعيشون الحصار بشكل آخر مع ابن أبي طالب.

النص العاشر: وروى عبد الرزاق(1) عن معمر، عن قتادة أنّ علياً قضى عن النبي (صلى الله عليه وآله) أشياء بعد وفاته كان عامتها عدة، قال: حسبت أنه قال: خمس مائة ألف.

قال عبد الرزاق: يعني دراهم، قلنا لعبد الرزاق: وكيف قبض النبي (صلى الله عليه وآله) وأوصى إليه النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك؟ قال: نعم، لا أشك أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أوصى إلى علي، فلولا ذلك ما تركوه أن يقضي.

وهذا الخبر علّق عليه محقق المصنف على قوله: (وأوصى إليه النبي....) فقال: النص هكذا في (ص) والصواب عندي: (وكيف قضى علي أو أوصى...).

وقلت: مهما كان هو الصحيح فإنّ قوله (صلى الله عليه وآله): عليّ منجز عدتي، ورد في عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة، ولم يقل ذلك مرّة واحدة، بل بدءاً من يوم حديث الانذار ثم ما بعده من الأيام(2).

____________

1- المصنف 7: 294.

2- راجع عليّ إمام البررة 1: 87 _ 90، ستجد قوله (صلى الله عليه وآله) في حديث الانذار: (يضمن عنّي ديني ومواعيدي، ويكون معي في الجنة، ويكون خليفتي ووصيي من بعدي)، أخرجه أحمد في مسنده 2: 265، ح883، تحقيق أبو الأشبال وقال: اسناده حسن، وهذا رواه ابن كثير في تفسيره 3: 350، وابن عساكر في تاريخه (ترجمة الإمام) 1: 85، والهيثمي في مجمع الزوائد 8: 302، وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات، وورد في منتخب كنز العمّال (بهامش مسند أحمد 5: 42) إلى غير ذلك من الأحاديث؛التي أثبتت الوصاية للإمام، وأنّه يقضي الدين وينجز العداة.