الصفحة 126
25 _ مؤلّف نسمات الأسحار قال في كتابه(1): (ومحسناً أسقطته سقطاً).

هذه أسماء الذين ذكروا أنّ المحسن كان سقطاً، فوقفت على أسمائهم فعلاً، ولا شك أنّه قد فاتني الكثير غيرهم، كما لم أذكر معهم من مؤرخي القدامى كالمسعودي واليعقوبي وابن أعثم لعدّهم أو بعضهم من الشيعة، وان اعتمدهم أو بعضهم غير واحد من السنة كالذهبي وابن حجر في مقامات أخرى.

وإذا أمعنّا النظر في أعداد الأصناف الثلاثة نجدها جميعاً ناهزت المائة، لأنّ رجال الفصل الأول كانوا أربعين، ورجال الفصل الثاني نيّفوا على الثلاثين، ورجال الفصل الثالث كانوا خمساً وعشرين، وكلهم من رجال السنّة، ولا يتطرق الريب إلى اتهامهم بالرفض جميعاً وممالاة الشيعة.

وإذا قارنّا بين أعداد الفصول، فنجد الفصل الأول فاق الفصلين الثاني والثالث، ولمّا كان في مصادره ذكر المحسن فقط، ولم تفصح عن موته فهل مات صغيراً كما في مصادر الفصل الثاني؟ أو مات سقطاً كما هو في مصادر الفصل الثالث؟ فحينئذٍ لا تعارض بينها.

ومرّت بنا في مصادر الفصل الثاني بعض المؤشرات التي تدل على تعمد الابهام والايهام، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك تعقيباً على ما قاله البلاذري والبري التلمساني، وما قاله ابن حزم، مما يجعلنا في ريبة من صدق قول الآخرين، بل تعمّدهم كتمان الحقيقة في موت المحسن السبط وأنّه السقط، كما جاء في مصادر الفصل الثالث.

ونحن إذا قرأنا تاريخ سيدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) في أخريات أيام النبي (صلى الله عليه وآله)، وما جرى لها من حديث معه في مرضه الذي توفي فيه، نجد مؤشراً

____________

1- نسمات الاسحار: 109.


الصفحة 127
يلزمنا بالوقوف عنده، وذلك حين نقرأ ما أخرجه كل من الطبراني، وأبو نعيم، وابن مندة، وابن عساكر وغيرهم، وأخرجه عنهم الهيثمي في مجمع الزوائد(1) ، كما رواه السيوطي في الجامع الكبير، وعنه المتقي الهندي في كنــز العمّال(2) ، ورواه الزرقاني في شرح المواهب(3) ، وإليك لفظ الحديث بلفظ مجمع الزوائد عن أبي رافع قال:

جاءت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحسن وحسين إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه الذي قبض فيه، فقالت: هذان ابناك فورثهما شيئاً، فقال لها: أما حسن فله ثباتي وسؤددي، وأما حسين فإنّ له حزامتي وجودي. وبتفاوت يسير في اللفظ في المصادر الأخرى، وقد رواه من الشيعة أيضاً الطبري الامامي في دلائل الإمامة(4) وغيره.

والذي يسترعي الانتباه أنّها لم تذكر المحسن مع أخويه، فهو لا يخلو حاله إما أن يكون بعدُ لم يولد _ وهو كذلك لما سيأتي _ وإما أن يكون قد ولد ومات صغيراً، كما ذكره من زعمه ممن قد مرّ ذكرهم في الفصل الثاني، فلذلك لم تذكره أمّه باعتباره سالبة بانتفاء الموضوع، غير أنّ أولئك الذين ذكروا موته صغيراً، لم يذكروا لنا عن عمره وزمان وسبب موته ولا شيئاً عن دفنه، وهذا منهم على غير عادتهم حين يذكرون موت أبناء الذوات، فضلاً عن أبناء النبي (صلى الله عليه وآله) وأسباطه، فقد ذكروا شيئاً من ذلك في موت إبراهيم ابن النبي (صلى الله عليه وآله) ، وذكروا عن موت عبد الله بن رقية بنت النبي (صلى الله عليه وآله)، ومرت الاشارة إلى بعض من ذلك.

____________

1- مجمع الزوائد 9: 184 _ 185.

2- كنـز العمال 13: 102.

3- شرح المواهب 2: 207.

4- دلائل الامامة: 3.


الصفحة 128
فسكوتهم عن جميع ذلك في المحسن، مع اعترافهم بأنّه كان ولداً لفاطمة واسمه المحسن، وأنه مات صغيراً، فيه تعمد استبهام، وعليه أكثر من علامة استفهام، لذلك يبقى الذين ذكروا أنّه مات سقطاً، هم أقرب إلى واقع الحدث من غيرهم، خصوصاً وانّ شواهد الأحداث المتلاحقة يوم إسقاطه تؤيّدهم.

فثمة إتساق داخلي وواقعي بين مضمون رواية موته سقطاً من أثر زحم قنفذ وغيره، وبين روايات أخرى تضمّنت ذكر الأحداث المريعة في ذلك اليوم، كمجيء عمر بن الخطاب ومعه جماعة _ كما سيأتي ذكرهم بأسمائهم، نقلاً عن مصادر أتباعهم _ ومعهم الحطب، وهم يهددون بإحراق دار فاطمة على مَن فيها، وممانعة فاطمة لهم ثم...، وثم... إلى ما هنالك من أحداث متتالية.

كل ذلك يستدعي الوقفة الفاحصة بالنظر إلى تلك الصور المرعبة والمريعة، والتي لا تحتمل رؤيتها أنظار كثير من المسلمين لبشاعتها وفضاعتها، إما لضغط الرواسب الموروثة في تقدير الشخوص والرموز، أو لعظم الأحداث فلا يكاد يصدّق بها حتى من لم يؤمن بقداسة الموروث لعظيم الرزية وعظم الضحية، ويبقى التصديق نصيب من وضحت عنده الرؤية، بعد إزالة غشاء التضليل عن عينيه، فيقرأ النص في ملابسات الحديث فيما له وعليه.

وكم قرأنا نماذج تشير إلى حدوث السقط على استحياء أو استخذاء أمام الرأي العام المحكوم لإعلام الحاكمين، وحتى في العصر الحديث _ عصر حرية الرأي وحرية التعبير _ نجد بعض الكتّاب المحدثين يراوغ أو يصارع مع نفسه حين يقول: (ولم يكن بالزهراء من سُقم كامن يعرف من وصفه، فإنّ العرب وصّافون _ وإن كان حولها من آل بيتها لمن أقدر العرب على وصف الصحة والسقم _ فما وقفنا من كلامهم وهم يصفونها في أحوال شكواها على شيء يشبه أعراض الأمراض التي تذهب بالناس في مقتبل الشباب، وكل ما يتبين من

الصفحة 129
كلامهم أنه الجهد، والضعف، والحزن، وربما اجتمع إليها اعياء الولادة في غير موعدها، إن صح أنها أسقطت محسناً بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) كما جاء في بعض الأخبار(1)).

كما نجد نمطاً آخر من القدامى يذكرون خبر إسقاط المحسن وينسبونه إلى الشيعة، ثم هم لا يزيدون على ذلك نفياً، أليس يعني ذلك هو الإمضاء على استحياء أو استخذاء، وربما هو التصديق، ولكن على خوف عند التحقيق.

فمن هؤلاء المقدسي (ت 355 هـ) في كتاب البدء والتاريخ(2) ، قال عند ذكر أولاد فاطمة (عليها السلام): (وولدت محسناً، وهو الذي تزعم الشيعة أنّها أسقطته من ضربة عمر).

ومن هؤلاء أيضاً أبو الحسين الملطي (ت 377 هـ) في كتابه التنبيه والرد(3) ، قال:... (فزعم هشام... إنّ أبا بكر مرّ بفاطمة (عليها السلام) فرفس في بطنها فأسقطت، وكان سبب علتها ووفاتها... وأنّه غصبها فدكاً).

أما آخرون ذكروا الحدث _ إسقاط المحسن _ ونسبوه إلى الشيعة، ونددوا بهم إذ لم يتهضموا إدانة الشخوص، ولم يأتوا بحجة مقبولة، ولم يستندوا إلى ركن وثيق، فمنهم ابن حجر المكي الهيتمي (ت 974 هـ) في الصواعق المحرقة(4)، قال: (ألا ترى إلى قولهم _ يعني الشيعة _ انّ عمر قاد علياً بحمائل سيفه، وحصر فاطمة فهابت فأسقطت ولداً اسمه المحسن...).

ومنهم العصامي المكي (ت 1111 هـ) في سمط النجوم العوالي(5)، وقد اجتر ما قاله ابن حجر كما مر ولم يزد عليه شيئاً.

ومنهم أحمد زيني دحلان (ت 1304 هـ) في الفتح المبين(6).

____________

1- عباس محمود العقّاد (فاطمة الزهراء والفاطميون): 68.

2- البدء والتاريخ 5: 20.

3- التنبيه والرد: 25 _ 26.

4- الصواعق المحرقة: 51.

5- سمط النجوم العوالي 2: 295.

6- الفتح المبين 1: 87 , (بهامش السيرة النبويّة).


الصفحة 130
وهكذا يبقى الشيعة هدفاً لاتهامات من لا يرعوي لصدق ولا يذعن لحق.

وما أدري ما ذنب الشيعة إذا كانوا رووا ما رواه غيرهم أيضاً في أحداث يوم هجوم الشلّة على دار الزهراء (عليها السلام)، وكان منها إسقاط المحسن، وقد مرت بنا في الفصول الثلاثة أسماء من اعترفوا بالمحسن كحقيقة ثابتة، ثم مرّ بنا في الفصل الثاني من زعم أنه مات صغيراً، وذلك ستراً على المهاجمين، ثم قرأنا أسماء من ذكروا أنه كان سقطاً، وكل اولئك من غير الشيعة، فلماذا يدان الشيعة ويُندّد بهم؟

والجواب بكل بساطة: لأنّهم تبعوا الحق فقالوا الحقيقة، وهذا يدين رموز الخالفين بعد النبي (صلى الله عليه وآله) والإدانة فيها المهانة، وهذا لا ينبغي في لغة الحاكمين، ومع كل ما اتخذوا من وسائل الإغراء والوعيد في رفع الإصر عنهم لم يتمكنوا من كمّ الأفواه جميعاً، فوصل إلينا ما قد وصل، ولنا الحجة على المنكرين فيما حصل.

ولنختم هذا الباب _ الثاني _ بحوار جرى بين ابن أبي الحديد المعتزلي، وبين شيخه الشريف يحيى بن أبي زيد العلوي الزيدي (المتوفى قبل644 هـ)، فقد روى ابن أبي الحديد في شرح النهج(1) عن ابن إسحاق خبر ترويع هبار بن الأسود الفهري لزينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فروّعها بالرمح وهي في الهودج وكانت حاملاً، فلما رجعت طرحت ما في بطنها، وقد كانت من خوفها رأت دماً وهي في الهودج، فلذلك أباح رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكة دم هبار بن الأسود(2).

____________

1- شرح النهج لابن أبي الحديد 3: 351.

2- قال ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة زينب (عليها السلام): وتوفيت زينب بنت رسول الله في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) سنة ثمان من الهجرة، وكان سبب موتها أنها لما خرجت من مكة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمد لها هبار بن الاسود ورجل آخر، فدفعها أحدهما فيما ذكروه، فسقطت على صخرة فأسقطت وأهرقت الدماء, فلم يزل بها مرضها ذلك حتى ماتت سنة ثمان من الهجرة.


الصفحة 131
ثم قال ابن أبي الحديد: قلت: وهذا الخبر أيضاً قرأته على النقيب أبي جعفر (رحمه الله) فقال: إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أباح دم هبّار بن الأسود لأنه روّع زينب فألقت ذا بطنها، فظهر الحال أنه لو كان حياً لأباح دم من روع فاطمة حتى ألقت ذا بطنها، فقلت: أروي عنك ما يقوله قوم إنّ فاطمة رُوّعت فألقت المحسن؟ فقال: لا تروه عنّي، ولا ترو عنّي بطلانه، فإنّي متوقف في هذا الموضع، لتعارض الأخبار عندي فيه.

أقول: وإذا كان النقيب أبو جعفر متوقف في هذا الموضع لتعارض الأخبار عنده فيه، فإنّا لسنا من المتوقفين فيه، بل هو من الثابت عندنا لتواتر الخبر فيه عند الشيعة منذ عصر الحَدَث وحتى يومهم الحاضر، وقد وردت روايات أهل البيت في ذلك، بل لقد وردت رواية نبوية تشير إلى وقوع الحدث قبل وقوعه، وهي في نفسها تكفي في الإثبات، لأنّها من رواية الأثبات، وحسبنا أنّها مما رواه ابن عباس _ حبر الأمة وترجمان القرآن _ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأخرجها الحمويني الشافعي في كتابه فرائد السمطين(1) ، باسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان جالساً إذ أقبل الحسن، فلما رآه بكى، ثم قال: «إليّ يا بني...»، ثم أقبل الحسين فلما رآه بكى، ثم قال: «إليّ يا بني...»، ثم أقبلت فاطمة... فلما رآها بكى، ثم قال: «إليّ...»، ثم أقبل أمير المؤمنين فلما رآه بكى، ثم قال: «إليّ...»، فسأله أصحابه عن بكائه، فقال _ ثم ذكر ما سيجري على كل واحد منهم فكان مما قاله في حق ابنته فاطمة: _ «وأما ابنتي فاطمة فإنّها سيدة نساء العالمين... وإنّي لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي، كأنّي بها وقد دخل الذل بيتها، وانتهكت حرمتها، وغُصب حقها،

____________

1- فرائد السمطين 2: 34 _ 35.


الصفحة 132
ومنعت إرثها، وكسر جنبها، وأسقطت جنينها، وهي تنادي يا محمد فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية...».

وهذا الخبر قد مرّ بتمامه قبل هذا في ص 121 فراجع.

وقد رواه الشيخ الصدوق في الأمالي بسند معتبر عن ابن عباس أيضاً(1)، كما رواه الفضل بن شاذان في الفضائل(2).

____________

1- راجع الأمالي: 99 _ 101.

2- الفضائل: 8 _ 11.


الصفحة 133

الباب الثالث




وفيه ثلاثة فصول:

الفصل الأول:
1- وقفة مع المؤرّخين.  2- من ذا سنختار منهم.  3- نظرة في المصادر.

الفصل الثاني:
1- ما هي الأحداث.  2- وقفة عند الأحداث.  3- نتائج الأحداث.

الفصل الثالث:
1- تمهيد.  2- لكل سؤال جواب.  3- نصوص ثابتة.





الصفحة 134

الصفحة 135

الفصل الأول


ونقرأ فيه:

1- وقفة مع المؤرّخين.

وأعني بهم، كل من روى لنا رواية تتعلق بالحدث، سواء كان من المؤرّخين الأخباريين، أو من المحدّثين أهل الحديث.

2- من ذا سنختار منهم؟

3- نظرة في المصادر.





الصفحة 136

1- وقفة مع المؤرّخين:

والحاجة إليها لا لمحاسبتهم فقط على مواقفهم المتخاذلة في تسجيل الأحداث بصدق كما ينبغي، وهذا هو جزء من الحساب عليه الثواب والعقاب يوم الحساب، لكن الذي نقف عنده ونتساءل عنه تلك المعايير المزدوجة في تسجيلهم الأحداث، وهو الذي يسترعي الإنتباه، وهذا ما لمسناه عند مؤرخي الوقائع التي صاحبت شهادة (المحسن السبط السقط) من قبل ومن بعدُ.

لذلك هم وحدهم يتحملون وزر ما يذكرون، ولا يخفّف عنهم إصر التبعات ذكرهم اسناد الروايات، فإنّ رجال السند أيضاً هم ناس أمثالهم، فيهم الموثوق بروايته فيروي لنا ما يعرف، وفيهم غير الموثوق بروايته، فهو يهرف بما يعرف وما لا يعرف، عن كل من هبّ ودبّ، تبعاً لما عنده من أهواء وما لديه من انتماء، فقد يميل عن سنن الحق وإن تلبس بلباس أهل الصدق، غير آبهٍ أن يغضب لذلك مَن يغضب، أو يرضى مَن يرضى، والمهم عنده إرضاء نفسه وإشباع رغباته ونـزواته، مما شب عليه من موروث.

وهذه حال الناس في كلّ زمان ومكان، إلاّ من صَانه الله بورع يحجزه عن اتباع الهوى، ومهما احتطنا في أخذ الوقائع من كتب المؤرّخين، سواء من وثّق تسجيله بإسناد، أو أرسل ذكره، فإنّا سنختار ثلّة تتفق رواياتهم ولو إجمالاً في أصل ذكر الحَدَث، وإن اختلفوا في السند أو تفاصيل المتن، ومن مختلفي الشرائح زماناً ومكاناً.

كما إنّا سنقف على مجمل أحوالهم من خلال كتب الجرح والتعديل في تراجمهم، لغرض التوثق في سياق الحجة واستبعاد التهمة عنهم.


الصفحة 137
ولا شك ليس كلهم على درجة واحدة في الإعتبار، ومن ذا الذي يسلم من جرح، وليس فيهم الأوحدي الذي خلصت سريرته فطهرت سيرته، وقبلت روايته من دون تهميش بغمز أو بلمز.

ولمّا كنّا أمام قراءة نصوص تحكي أخبار وقائع حدثت في الصدر الأول من عصر الصحابة، وكان من رموزها ممّن تبوّأ مكان الصدارة في المجتمع، بحق أو بغير حق، بما فيهم من مهاجرين وأنصار الّذين تبوؤا الدار والإيمان، إلاّ أنّهم أساؤوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) في خلافتهم إلى أهل بيته وعترته، فلم يرعوا له فيهم حقاً ولا حرمة، فعدوا عليهم بالإساءة وهو بعدُ بين ظهرانيهم، لم يواروا الجدَثَ حتى أحدثوا الحدث.

ومن الطبيعي أن يثير سلوكهم ذلك حفائظ الآخرين ممّن لم يزالوا مواظبين ومحافظين على ولائهم لأهل بيت نبيهم، ولم يشيبوا إيمانهم بظلم أبداً.

ومن هنا بدأت الفُرقة، وتشرذمت الكلمة والجماعة، وهُدّت دعائم الوحدة التي أقامها النبي (صلى الله عليه وآله) بالمؤاخاة والمفادات.

وصار التاريخ يروي لهؤلاء ولهؤلاء، وفي المنقول بعض المعقول والمقبول كما فيه كثير من الهراء والافتراء، فضاعت بعض الحقائق في ركام التقية لمصلحة المحكومين، وضاعت أكثر في ضبابية التعتيم السياسي لمصلحة الحاكمين، وفي إطار من العوامل النفسية العاصفة والمضطربة التي كانت سائدة حينذاك رويت (قضية السقيفة) التي هي أساس الفرقة والفجائع، وما جرى هناك من غرائب الوقائع.

وكلما ورد من الروايات عن تلك الفترة، وما جرى فيها من أحداث رواها الرواة، وسجّلها المؤرّخون، فهي كما قال عنها الاستاذ عبد الفتاح مقصود المصري في كتابه (السقيفة والخلافة)(1): (إنك لتلمح في صور هذه الروايات

____________

1- السقيفة والخلافة: 34.


الصفحة 138
وأوضاعها ألواناً شتى من الدقائق والتفصيلات لها من (الحبكة) ما يظهرها _ لفرط إحكامها وتوثق نسجها _ وهي أشبه بما يقع في الأقاصيص الموضوعة منها بما يكون في واقع الحياة.

ثم نعثر فيها على (الصدفة) التي تطرأ عفواً بلا مقدمات وعلى غير ميقات، حتى ليوشك من يتحسّسها أن يحسبها قد أقحمت إقحاماً، لتؤدي دوراً مرسوماً أريد لها أن تؤديه فأدّته بإحكام كما هو مرسوم.

ثم تجد (التعاقب الحَدَثي) الذي ينساب في نسق منتظم طيّع، إنسياب سلسلة لِدنةتماثلت حلقاتها كل التماثل، طولاً وعرضاً، وزناً وحجماً، لوناً وهيئة، أصلاً ومعدناً، فلا تزيد منها حلقة أو تنقص حلقة عن أخواتها الأخريات بمثل ذرة من غبار، حتى لتظهر حوادثها _ لدقة تواترها وانتظامها _ وهي أدنى إلى ما يجري على مسارح التمثيل.

وليس من ريب في أنّ الإغراق كل الإغراق في التأليف بين هذه الجوانب والتفصيلات كفيل بأن يصيغها بصيغة الحقيقة، ولكنها الصبغة التي لا يمكن أن تصنع من الزيف حقيقة.

وليس أيضاً من ريب في أن الحرص البالغ على أن تبيّن بعض الأحداث المروية أمام الأفهام كأنها طبيعية، خليق بأن يشي بأنها ليست طبيعية.

ولسوف نتبيّن من بعد نماذج من (الحبكة) و (الصدفة) و (التعاقب الحدثي) المحكم الإنسياب، وغيرها من سمات الروايات القصصية التي يدبّجها الابتداع، واضحة جليّة في الروايات التاريخية التي جاءتنا بالسقيفة على ألسنة رواة الأخبار.

لكن قطعة الزجاج المصقول المتلألئ، لا يغيّر من طبيعتها أن تبدو كأنها من مأسي، وقطعة الماس الغشيم الخام لا يغيّر من طبيعتها أن تبدو كأنها حصاة، فالحقيقة ثابتة لا تضيع لأنها غير قابلة للذوبان في أحماض الترهات، ولا للاحتراق في نيران المغالطات).


الصفحة 139
أقول: فعلينا أن لا نتسرع في الحكم رعاية لرضا من يرضى، أو اغاضة سخط من يسخط، فلسنا قضاة موقف، بل علينا أن نستعرض الأحداث بجميع حيثياتها من خلال قراءة رواياتها، من مصادرها المقبولة لدى الراضي والساخط، بعد الانتقاء مما شيب بالتلميع أو التشنيع.

أما اختيارنا لمجموعة المؤرّخين، فسيكون كما أشرنا من قبل من مختلفي المشارب والمذاهب، بل وحتى من مختلفي البقاع والاصقاع في الشرق والغرب، فمن الدينور إلى الأندلس.

وهؤلاء ليس فيهم جميعاً من الشيعة أحد؛ لأنّهم سرعان ما تتناولهم ألسنة الطاعنين بأسنّة القدح والتجريح، وأنّهم لا يحتج بهم في المقام لأنّهم رافضة؟!

ومع كل هذه الحيطة، لم نعدم زعم الزاعمة ولا تنطع راغم: إنّ المؤرّخ الفلاني لا يعتمد قوله لأنّه يميل إلى الرفض، كما قيل عن ابن جرير الطبري، والحاكم النيسابوري، والمسعودي الشافعي، وغيرهم.

بل تتصاعد حمّى التجريح للمؤرّخ إذا روى ما يدين السلف، ويجرح كبرياء الذات لدى الجارح، ألم يقولوا عن الشهرستاني صاحب الملل والنحل الذي هو في أشعريته أشهر من أن يذكر، وأظهر من نار على علم، قالوا: بأنّه غال في التشيع؟

والرجل في كتابيه (الملل والنحل) و (نهاية الإقدام في علم الكلام) يحمل على الشيعة بلا هوادة، وأحسب فيما أظن أتاه التجريح لأنّه روى في كتابه (الملل والنحل) قول النظام _ من شيوخ المعتزلة _ في الهجوم على بيت الزهراء (عليها السلام) ، وضربها وإسقاطها المحسن السبط.

وإن عزّت تلك التهم في إلصاقها بالمؤرخ، فثمة نفثة تسرب الشك في نسبة المصدر إلى صاحبه؛ ليسقط الكتاب الذي روى الحَدَث عن الإعتبار ما دام لم

الصفحة 140
تصح نسبته إلى مؤلفه، كما قيل ذلك في ابن قتيبة وكتابه (الإمامة والسياسة = تاريخ الخلفاء الراشدين) وسيأتي الحديث عنه مفصلاً، واثبات صحة النسبة في الملحق الثالث في آخر الكتاب.

وإذا أوصدت أبواب التجريح والشك في وجوه الباغين، فثمة أبواب التصحيف والتحريف مفتوحة للراغبين، وهذه الحال تسببت في ضياع كثير من الروايات ذات الدلالة على الإثبات، كما وقع بعضه في كتاب (المعارف) لابن قتيبة، وسيأتي ما ينفع في المقام في الملحق الثاني في آخر الكتاب.

وما كان ذلك ليحدث لو كانت الذمم تراقب الله ورسوله وتخشى سوء الحساب، ولكنّها عمدت وتعمّدت على إخفاء الحقائق انتصاراً لمن حادّ الله ورسوله، وتضييعاً لمعالم الجريمة، فضاعت حقائق كثيرة، وما وصل إلينا فهو فلتة من فلتات الزمان، وتبقى الإدانة مؤودة في سلة الخيانة:


كم حادث جلل في الكتب نقرؤه لذي الكتاب وللراوين فيه هوى
فضيّع الحق من يهوى لغير هدى ومبلغ العذر أقصى ان ندين لمن روى

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.


*  *  *