الفصل الثالث
البحث عن متن الحديث
والبحث في هذا المجال يكون من خلال ست نقاط على النحو التالي:
النقطة الأولى: وفيها تحقيق المراد من اسم حرب، فهل هو اسم المعنى الوصفي؟ أم اسم العلم الشخصي؟ وما المراد منهما في الحديث.
النقطة الثانية: هل كان اسم حرب من الأسماء المبغوضة أم المحبوبة؟
النقطة الثالثة: ماذا كان يعني إصرار الإمام _ إن صدقت الأحلام _ في تسمية أبنائه بحرب اسم المعنى الوصفي، أم اسم العلم الشخصي؟
النقطة الرابعة: ما هي الدوافع المغرية في شخصية حرب اسم العلم الشخصي؟ بدءاً من آبائه، ومروراً به، وانتهاءاً بأبنائه؟
النقطة الخامسة: في كنى الإمام وما هي أحبّ كناه إليه؟
النقطة السادسة: وأخيراً ماذا وراء الأكمة من تعتيم وظلمة لتضليل الأمة؟
النقطة الأولى
في تحقيق المراد من اسم حرب
النقطة الأولى: في تحقيق المراد من اسم حرب وهل هو اسم المعنى؟ أم اسم العلم؟ ومن المراد منهما في الحديث؟
إذا رجعنا إلى المصدر الأول والحديث الثالث من المصدر الخامس، وجدنا قول الإمام _ فيما نسب إليه _: (وقد كنت أحبّ أن أكتني بأبي حرب) وفي مرسل أبي إسحاق كما في المصدر الثاني نقرأ قول أبي إسحاق: «وكان يعجبه أن يكنّى أبا حرب»، أما في مرسل سالم بن أبي جعد نقرأ قول الإمام: «كنت رجلاً أحبّ الحرب».
ومهما أغضينا النظر عن الاختلاف في معاني الكلمات الثلاث، فإنّ هذا إن دل على شيء فيدلّ على أنّ المراد بحرب هو اسم المعنى الوصفي، ولعله إستناداً إلى ذلك ذهب العقّاد _ وربما غيره أيضاً _ إلى أنّ المراد من حب الإمام أن يكتني بأبي حرب؛ لأنّه رجل شجاع يحب الحرب، فلنقرأ ما يقوله العقّاد، وهو يتحدث عن سيرة الإمام مع بنيه، بعد أن حكى قول الإمام في حق الوالد على الولد، وحق الولد على الوالد وهو: (أن يحسّن اسمه، ويحسّن أدبه، ويعلّمه القرآن).
قال العقّاد: ومن إحسان التسمية أنّه همّ بتسمية ابنه حرباً، لأنّه يرشحه للجهاد وهو أشرف صناعاته، لولا أنّ رسول الله سمّاه الحسن وهو أحسن، فجرى على
ولا نريد مناقشة العقّاد في تعليله العليل؛ بأنّ علياً لشجاعته المنقطعة النظير، كان يحبّ أن يعدّ ابنه فيرشحه لتلك الشجاعة عن طريق تسميته بحرب؟!
وكأنّ مجرّد التسمية باسم صفة، سوف يؤثّر خصائص تلك الصفة في المسمّى!؟ وما أدري بماذا يجيب _ لو كان حياً _ عن تخلّف الصفة فعلاً عن الموصوف بها اسماً، فكم من اسمه اسد وهو في الحروب نعامة، وكم من اسمه حاتم وهو في بخله زاد على ما در، وكم وكم...، ولنا في أسماء الأضداد ما يغني عن إكثار الشواهد، إذن ليس الأمر كما ذهب إليه العقّاد وغيره.
ثم هل لنا أن نسأل عن شجاعة أبناء عليّ التي ورثوها، وكانت ظاهرة للعيان خصوصاً في حرب الجمل، وصفين، والنهروان، هل كانت نتيجة تسميتهم بحرب؟! وهذا ما لم يكن ولم يقع، أم هي صناعة على نحو صناعات أبيهم كما قاله العقّاد فيه! ثمّ ما بالنا نجد التفاوت في تلك الصناعة، فيمتاز بعضهم على بعض في الحروب، أوليسوا هم جميعاً خرّيجوا مدرسة واحدة، والمربّي لهم واحد.
وما دام الإمام _ إن صدقت الأحلام التي راودت مخيّلة الوضّاعين _ كان يحب أن يكتنى بأبي حرب لأنّه يحبّ الحرب، وقد حاول ثلاث مرّات أن يسمّي أحد أبنائه من ولد فاطمة (عليها السلام) فلم يقرّه النبي (صلى الله عليه وآله)، فلماذا لم يسمّ أحد الباقين من أبنائه الّذين هم من غير فاطمة (عليها السلام) بهذا الاسم المحبّب إليه!! ولم يكن ثمة النبي (صلى الله عليه وآله) موجوداً حتى يغيّره مثلاً.
____________
1- موسوعة العقّاد (العبقريات الإسلامية): 821.
أما عن تسمية أبناء الإمام بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان, فقد روى البلاذري في أنساب الأشراف 2: 192، قال: وكان عمر ابن الخطاب سمّى عمر بن عليّ باسمه ووهب له غلاماً. أقول: وما يدرينا لعلّ في مخبآت الآثار ما يكشف أنّ عمر تبع مَنْ قبله في ذلك, ومن أتى بعده كان على وتيرته, على أنّه ورد في تسمية ابنه عثمان: سماه باسم عثمان بن مظعون السلف الصالح, كما ورد في وصفه.
فقد جاء في حديث رواه الصدوق في معاني الأخبار(1) بسنده عن أحمد بن أشيم، قال للرضا (عليه السلام): جعلت فداك لم سمّوا العرب أولادهم بكلب ونمر وفهد وأشباه ذلك؟ قال: «كانت العرب أصحاب حرب، فكانت تهوّل على العدو بأسماء أولادهم»، ويسمون عبيدهم فرج ومبارك وميمون وأشباه ذلك يتيمّنون بها.
ثم لو كانت ارادته اسم المعنى الوصفي من حرب، لتحول بعد التغيير الأول إلى بعض مشتقاته اللفظية، مثل (محارب) فيسمى ولده الثاني أو الثالث، ولينظر هل كان النبي (صلى الله عليه وآله) يقرّه على ذلك أم يغيّره؟
ثم أنّ سيرة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في حروبه كلّها كانت سيرة مثلى، تأبى على مناوئيه وأعدائه فضلاً عن أوليائه أن يقولوا بأنّه كان يحب الحرب، لأنّه شجاع متعطش لإراقة الدماء وإزهاق الأرواح.
فإنّا نقرأ حياته في الحروب التي خاض غمارها أيّام الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) بدءاً من بدر ثم اُحد وحنين والأحزاب وخيبر وإلى آخرها، فلم يكن يعدو أوامر النبي (صلى الله عليه وآله) ، ولم يرهق الناس بطشاً حتى يؤذن له.
وما حديث مبارزته لعمرو بن عبدود إلا دليل على تلك السيرة المثلى، فهو حيث يقرّره بأنّه يجيب إلى إحدى خصال ثلاث، فيبدأ بدعوته إلى الاسلام،
____________
1- معاني الأخبار للصدوق: 391؛ عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 315.
وأما الحروب التي بعد النبي (صلى الله عليه وآله) فقد فرضت عليه، ولم يكن راغباً في إثارتها، لولا بغي البغاة عليه، من ناكثين وقاسطين ومارقين، ومع ذلك كله كان لا يبدؤهم بقتال حتى يعذر إليهم، يتريّث طويلاً، ويبعث الرسل تلو الرسل إلى أعدائه، بالأعذار تلو الأعذار، ثم الإنذار تلو الإنذار، يخوفهم عواقب البغي والعدوان، ويحذّرهم مغبّة إغواء الشيطان لهم، حذار عواقب الحرب الوخيمة، حتى إذا تمادوا في طغيانهم، وأصرّوا على منابذته ومناجزته، ثم هُم بدؤوه بالقتال، شمّر للحرب عن ساعده، فخاض الغمرة وأصلاهم نارها، وألزم عقباهم عارها.
هذا عليّ (عليه السلام) الذي كان يحب الحرب!؟ نعم يخوض الحرب حين لا مناص من خوضها وقد شبّت وقدتها، أما أنه يحبها ويدعو إليها فلا، بل هو رجل السلم والسلام، وما علم المسلمون الحكم في قتال أهل القبلة إلاّ من سيرته في الحروب الثلاثة: الجمل وصفين والنهروان.
فهل مثل هذا الإنسان يمكن أن يقال فيه كان يحب أن يكتني بأبي حرب، لأنه يحب الحرب، ويجعل العقّاد من ذلك دليلاً على حسن اختيار الإمام لأحسن الأسماء لأبنائه، على أنّ في باقي قوله بعد ذلك: وأتمّ حق أبنائه في إحسان أسمائهم فاختار لهم أسماء النبي (صلى الله عليه وآله) وأسلافه، ما يستبعد اسم المعنى الوصفي (لحرب) فلاحظ.
والآن وبعد هذه التساؤلات التي استبعدت أن يكون المراد بحرب في زعم الزاعمين أن علياً أحب أن يكتنى بأبي حرب، يعني الحرب ضد السلم، إذن هل المراد بحرب اسم علم شخصي شغف الإمام به حباً، فأحبّ أن يسمّي أحد أبنائه باسمه تيمناً به، وإذا كان ذلك فمن هو ذلك صاحب الاسم المزعوم؟
ولعل القارئ داعبت مخيلته ظنون توحي إليه بأنّ الحديث من نسيج أحفاد حرب، ليجعلوا من أبيهم انساناً محبباً ومرموقاً حتى همّ عليّ، أو سمّى، أو أحبّ أن يسمّي أحد أبنائه باسمه، وكرر ذلك ثلاث مرّات إلاّ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) غيّر، إذن كان لحرب ذكر ونباهة ومقام معلوم مزعوم، ولنترك التعقيب فعلاً على ذلك حتى نقرأ ما يلي من النقطة الثانية، ولكن أود تنبيه القارئ إلى أنّ الذي يشير إلى المراد بحرب هو اسم العلم الشخصي، هو قوله (عليه السلام): (ما شأن حرب)؟ كما مرّ في الحديث الثاني في المصدر الثاني.
النقطة الثانية
هل كان اسم حرب من الأسماء
المحبوبة أم المبغوضة؟
هذا سؤال يصح أن يقال إذا كان القارئ على علم بأنّ هناك أسماء محبوبة وأخرى مبغوضة، ورد التنبيه عليها من الشرع، وليس المقصود هنا بالمحبوبية والمبغوضية ما يراه الإنسان في نفسه.
وإذا رجعنا إلى الأحاديث التي وردت عن صاحب الشرع في تلك المسألة، نجد أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يغيّر الاسم القبيح _ كما في حديث عائشة (في الفتح الكبير للنبهاني) نقلاً عن الترمذي وهو في جامعه(1).
وقد روى الحميري في قرب الإسناد(2) بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) ، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يغيّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان.
وقد غيّر بعض الأسماء، كما في حديث سعيد بن المسيب بن حزن أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال لجده حزن: ما اسمك؟ قال: حزن، قال: أنت سهل، قال له: السهل يوطأ أو يمتهن، قال سعيد: فما زالت الحزونة فينا بعد. والحديث أخرجه أبو داود في السنن(3) كما أخرجه غيره.
____________
1- الفتح الكبير للنبهاني 2: 385، عن سنن الترمذي 2: 107.
2- قرب الإسناد للحميري: 45.
3- سنن أبي داود 4: 289.
قال أبو داود: وغيّر النبي (صلى الله عليه وآله) اسم العاص، وعزيز، وعقلة، وشيطان، والحكم، وغراب، وحباب، وشهاب فسماه هشاماً، وسمى حرباً سلماً، وسمى المضطجع المنبعث، وأرضاً تسمى عَفِرَة سماها خَضِرة _ بمعجمة _ وشعب الضلالة سماه شعب الهدى، وبنو الزنية سمّاهم بني الرشدة، وسمى بني مغوية بني رشدة.
قال أبو داود: وتركت أسانيدها للاختصار(1).
وأخرج الترمذي في صحيحه(2) والبغوي في مصابيح السنّة(3) أنه غيّر اسم عاصية بنت عمر فسماها جميلة.
وقد ذكر البخاري في صحيحه في كتاب الأدب بعض تلك الأسماء، وزاد في كتاب الأدب المفرد كثيراً من الأحاديث في ذلك فلتراجع.
وإذا علمنا أنّ هناك أسماء مبغوضة غيّرها النبي (صلى الله عليه وآله) ، وكان منها اسم حرب فغيّره وسمّاه سلماً _ كما مرّ عن أبي داود _ فما بال الإمام عليّ (عليه السلام) يحبّ أن يكتني بحرب؟ أو لم يكن يعلم بما رواه أبو وهب الجشمي في خصوص حرب؟ وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد(4) وغيره بأسانيدهم عن أبي وهب _ وكانت له صحبة _ عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (تسمّوا بأسماء الأنبياء، وأحبّ الأسماء إلى الله (عزّ وجلّ) عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبح الأسماء حرب ومرّة)(5).
____________
1- سنن أبي داود 4: 289.
2- صحيح الترمذي 2: 137.
3- مصابيح السنّة للبغوي 2: 148.
4- الأدب المفرد للبخاري: 211، وأبو داود في السنن 2: 307؛ والبيهقي في السنن الكبرى 9: 306؛ وأحمد في المسند 4: 345، وابن القيم في زاد المعاد: 258 _ 260؛ والنبهاني في الفتح الكبير 2: 385؛ وابن عبد البر في الاستيعاب 2: 78.
5- لقد ورد الحديث عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) كما في الجعفريات ملحقاً بكتاب قرب الإسناد؛ بلفظ (نعم الأسماء عبد الله وعبد الرحمن والأسماء المعبّدة، وشرها همام والحارث...) وأخرجه السيد الراوندي في نوادره: 9، وفيه: (نعم الأسماء عبد الله وعبد الرحمن والأسماء المعبدة، وشرها همام والحارث...) ونقله عن النوادر في البحار 104: 130، ومستدرك الوسائل3: 618، ولقد ورد في حديث جابر مرفوعاً أنّه (صلى الله عليه وآله) قال: (وشر الأسماء ضرار ومرّة وحرب وظالم) راجع الخصال للصدوق: 228.
أوليس يدل اصرار الإمام على التسمية بحرب _ سواء قلنا بأنّه اسم معنى أي ضد السلم، أو قلنا بأنّه اسم علم كما يحلو لواضعيه _ أنّ علياً يصرّ على مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله)، وأستغفر الله من ذلك.
قال ابن قيّم الجوزية في زاد المعاد(2):
(فصل) ولمّا كان مسمى الحرب والمرة أكره شيء للنفوس وأقبحها عندها، كان أقبح الأسماء حرباً ومرة، وعلى قياس هذا حنظلة وحزن وما أشبههما، وما أجدر هذه الأسماء بتأثيرها في مسمياتها كأثر اسم حزن الحزونة في سعيد وأهل بيته.
وقال أيضاً في فصل آخر بعده: ولمّا كان الأنبياء سادات بني آدم... كانت أسماؤهم أشرف الأسماء، فندب النبي (صلى الله عليه وآله) أمّته إلى التسمّي بأسمائهم، كما في سنن أبي داود والنسائي عنه: «تسمّوا بأسماء الأنبياء».
ولو لم يكن في ذلك من المصالح إلاّ أنّ الاسم يذكّر بمسماه، ويقتضي التعلق بمعناه لكفى به مصلحة، مع ما في ذلك من حفظ أسماء الأنبياء وذكرها، وأن لا تنسى وأن يذكر أسماؤهم بأوصافهم وأحوالهم.
____________
1- نهج البلاغة، شرح محمّد عبدة 2: 182.
2- زاد المعاد لابن قيّم الجوزية 2: 6.
والآن لابدّ لنا من وقفة وتأمل عند هذا الإصرار المزعوم، لنطلع من خلال ذلك على طبيعة الحدث الذي عاشه الإمام يوم أحب أن يكتني بأبي حرب كما يزعمون.
النقطة الثالثة
ماذا يعني إصرار الإمام في
تسمية أبنائه بحرب؟
النقطة الثالثة: ماذا كان يعني إصرار الإمام _ إن صدقت الأحلام _ في تسمية أبنائه بحرب؟
إنّ في زعم إصرار الإمام عليّ (عليه السلام) تكرار التجربة الفاشلة _ إن صدقت أحلام صُنّاعي الحديث _ حمل كثير من الآصار على عليّ؟!
فعليٌ يحب أن يُسمي أوّل أبنائه حرباً _ الاسم المبغوض _ وكأنّه إنسان لا يعلم أنّ ذلك من أقبح الأسماء؟ وعلي يكرّر تلك الرغبة الملحّة مع تغيير النبي (صلى الله عليه وآله) لذلك الاسم أول مرّة، وعلي لا ينتفع بتلك التجربة، ولا يأخذ منها عبرة، وكأنّه إنسان لا تعظه التجارب! فيعاود مُصرّاً على اسم حرب والنبي (صلى الله عليه وآله) يغيّره، وعلي يكرر تجربته الثالثة _ كما يقولون _ ثم يغيّر النبي (صلى الله عليه وآله) الاسم.
ثم عليّ (عليه السلام) لا يدرك مغزى قول النبي: (صلى الله عليه وآله) (ما شأن حرب هو حسن) ومرّة ثانية يقول كلمته: (ما شأن حرب هو حسين) وثالثة يقول أيضاً: (ما شأن حرب هو محسن)؟
ففي كلّ هذه المرّات وعلي (عليه السلام) بعد على اصراره؟ يا لله أهكذا كان أبو الحسن عليّ بن أبي طالب يضحي بكل ما لديه من رصيد الجهاد والجهود في خدمة النبي (صلى الله عليه وآله) ودينه الحنيف، وهو أول من آمن به! كيف يضحي بجميع ذلك على مذبح الشهوات والرغبات؟ أهي الأنانية؟ ليحقق مكسباً عظيماً حين يسمي أحد أبنائه حرباً ولا يصغي لتغيير النبي (صلى الله عليه وآله) سمعاً؟ أهذا هو عليّ الذي همّ أو
لاها الله إنّها الشناشن الأخزمية، والضغائن الجاهلية، ووراء ذلك كله بعدُ سر مصون، ليس في الغيب المكنون، ولكن من باب ذر الرماد في العيون، وإذا تمّ لهم ما يريدون، ففي ذلك مكسب عظيم يجني المفترون الأفّاكون، في طمس الحقائق وتشويه التاريخ، وسنكشف عنه بعد أن نقرأ البيان عن النوازع المغرية في اسم حرب، وذلك في النقطة الرابعة.
ولم يكن هذا هو الافتراء الوحيد على عليّ (عليه السلام) ، فقد افترى عليه في زمانه وبعد زمانه، كما افتري على أخيه الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) من قبل، وما ذلك الافتراء إلاّ نتائج الحكم الأموي البغيض، الذي شوّه ما استطاع لذلك سبيلاً، فكانت سماسرة الوضع يلهثون وراء أصفره الرنّان، فيضعون له ما يشاء ويطلب منهم الحكام، ولا نريد الخوض في تفاصيل ذلك لئلاّ يطول الكلام.
ولنرجع البصر إلى خصوص الافتراء على عليّ (عليه السلام) في خصوص الأسماء، فقد أخرج الكليني في الكافي والطوسي في التهذيب(1) باسنادهما عن معمر بن خثيم قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): «ما تكتني»؟ قال: ما اكتنيت بعدُ، ومالي من ولد ولا امرأة ولا جارية، قال: «فما يمنعك من ذلك»؟ قال: قلت: حديث بلغنا عن عليّ (عليه السلام) قال: من اكتنى وليس له أهل فهو أبو جعر، فقال أبو جعفر (عليه السلام): «شوه، ليس هذا من حديث عليّ، إنّا لنكنّي أولادنا في صغرهم مخافة النبز أن يلحق بهم».
فانظر بربك إلى هذا الحديث الذي كشف عن دوافع الافتراء المؤلم في أيّام الإمام الباقر (عليه السلام) الذي توفي سنة 114، فما ظنك بما حدث من بعد ذلك؟
____________
1- الكافي 2: 87، التهذيب للطوسي 7: 438 و 2: 246.
النقطة الرابعة
الدوافع المغرية في شخصية
حرب؟
النقطة الرابعة: في بحث الدوافع المغرية في شخصية حرب بدءاً من آبائه ومروراً به وانتهاءاً بأبنائه.
ليس العجب من رواة السوء حين يروون مثل ذلك الحديث المزعوم، وليس العجب من زوامل الأسفار الّذين يثبتون الحديث في أسفارهم، وليس العجب من تهالك بعض الحفاظ في تصحيح الاسناد، ليثبت للأشهاد أنّه حصل على صك الغفران بصحة السند، وكأنّ ذلك يكفي ويغني عن النظر في المتن، وإن كان منكراً من القول وزوراً.
ليس العجب من كل أولئك، ما داموا جميعاً في صف المعسكر المناوئ لعلي (عليه السلام) ، أو ممّن شايع مناوئيه.
ولكن العجب كل العجب أن نقرأ الحديث في بعض كتب شيعة عليّ (عليه السلام) ، ينقلونه عن الخصوم ويمرّون عليه مرور الكرام، وكأنّهم لم يفقهوا ما فيه، وتلك _ لعمر الحق _ مصيبة سلامة الطوية التي تجني البلية، مع فقدان الرويّة، وفتح الشهيّة لجمع كل ما هبّ ودبّ مما روى الأولياء والأعداء من دون تمحيص، غافلين عن دس السم في العسل.
وأعجب من ذلك كلّه أن يكون ضحية الكذب والافتراء عليه شخصية الإسلام الأولى بعد نبيه الكريم، والذي صحّ فيه قول زائره: (أشهد أنّك أوّل مظلوم وأوّل من غصب حقه).
ولكن العجب أشد العجب من أن يفترى على عليّ فيضحى به باسم الإسلام، وهو أوّل من آمن به، فيجعل منه إنسان كأنّه لا يفقه من الإسلام حكماً ولا أدباً، وهو الذي لولاه ما قام للإسلام عمود، ولا اخضرّ له عود، وحين تقرع طبول أعدائه، وتتراقص على أنغامهم أقلام بعض السذّج من أوليائه، دون أن يشعروا، بأنّ ذلك الطبل إنّما كان للحرب، وليس هو طبل الميلاد أو طبل الأفراح، ولم يشعروا _ ويا للأسف _ أنّ بني حرب _ حزب الشيطان _ قد حاربوا علياً بكل حول وطول، وبشتى الوسائل التي واتتهم السبل إليها.
فلئن حاربوه بالسيف ولم يشف ذلك غليلهم، ولئن حاربوه باللعن على منابر المسلمين تنقيصاً له ولم يبرد بذلك أوار حقدهم، ولئن قعدوا له بكل مرصد فافتروا عليه خطبة ابنة أبي جهل، ونسجوا لها ما ساعدتهم أنوالهم، ولئن.. ولئن... وفي كل ذلك لم يصنعوا شيئاً، بل كانت النتائج عكس ما أرادوا.
فهم كلّما أرادوا النيل منه وإذا هم كأنّما يأخذون بضبعيه، ويرفعونه إلى سماء المجد والعظمة، والآن ماذا يمنعهم أن يصوروه إنساناً يحبهم؟ وإن كانوا هم لا يحبّونه؟ وما الذي يمنعهم أن يبنوا لهم صرحاً ممرداً من قوارير الأحلام على قاعدة عليّ (عليه السلام) الصُلبة في الإسلام، فيجعلوا من آبائهم وأجدادهم شخوصاً محببة، يتمنّى إنسان مثل عليّ في مكانته المفضّلة أن يكتني باسم جدهم، وهذا هو ما يوحيه الحديث المزعوم، حديث يروي: كان عليّ يحب أن يكتني بأبي حرب.
____________
1- راجع كتاب (عليّ إمام البررة) 2: 80 _ 95.
في ذكر حرب بن أميّة:
إنّه حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وفي عبد مناف يجتمع نسب عليّ (عليه السلام) والهاشميين مع أبناء عبد شمس.
قال المقريزي: وقد كانت المنافرة لا تزال بين بني هاشم وبين عبد شمس(1).
وقال: وكانت المنافرة بين هاشم بن عبد مناف بن قصي، وبين ابن أخيه أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وسببها أن هاشماً كانت إليه الرفادة مع السقاية، وذلك أنّ أخاه عبد شمس كان يسافر وكان يقيم بمكة، وكان رجلاً مقلاً وله ولد كثير، فاصطلحت قريش على أن يلي هاشم السقاية والرفادة، وكان هاشم رجلاً موسراً، وكان إذا حضر موسم الحج قام في قريش فقال:
يا معشر قريش إنّكم جيران الله وأهل بيته، وإنّكم يأتيكم في هذا الموسم زوّار الله يعظمون حرمة بيته، وهم ضيوف الله، وأحق المضيّف بالكرامة ضيفه، وقد خصّكم الله بذلك وأكرمكم به، حفظه منكم أفضل ما حفظ جار من جاره، فأكرموا ضيفه وزوّاره، فإنّهم يأتون شعثاً غُبراً من كلّ بلد على ضوامر كالقداح، وقد أزحفوا وتفلوا وقملوا، فأقروهم وأنموهم وأعينوهم.
وكانت قريش ترافد على ذلك، حتى أن كان أهل البيت يرسلون اليسير على قدرهم، فيضمّه هاشم إلى ما أخرج من ماله وما جمع مما يأتيه به الناس فإن عجز كمّله، وكان هاشم يخرج في كلّ سنة مالاً كثيراً، وكان قوم من قريش يترافدون فكانوا أهل يسار، فكان كلّ إنسان منهم ربما أرسل بمائة مثقال هرقلية.
وكان هاشم يأمر بحياض من أدُم فتجعل في موضع زمزم _ من قبل أن تحفر زمزم _ ثم يستقي فيها من البئار التي بمكة فيشرب الحاج، وكان أوّل ما
____________
1- النـزاع والتخاصم: 18.
عمرو العلا هشم الثريد لقومه | ورجال مكة مسنتون عجاف |
وكان أمية بن عبد شمس ذا مال، فتكلّف أن يفعل كما فعل هاشم من إطعام قريش فعجز عن ذلك، فشمت به ناس من قريش وعابوه، فغضب ونافر هاشماً على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة، وعلى جلاء عشر سنين، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي_ جد عمرو بن الحمق_ وكان منـزله عسفان،وخرج مع أمية أبو همهمة حبيب بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر بن مالك الفهري.
فقال الكاهن: والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدي بعَلَم مسافر، من مُنجد وغائر، لقد سبق هاشمُ أمية إلى المآثر، أوّل منه وآخر، وأبو همهمة بذلك خابر.
وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعم لحمها من حضر، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين(1).
قال العقّاد: فكان هذا أوّل عداوة وقعت في بني هاشم وبني أمية.
أقول: وتجد حديث هذه المنافرة في جملة من المصادر التاريخية منها المنمّق لمحمد بن حبيب(2) ، ثم قال ابن حبيب:
ومن ثم يقال: انّ أمية استلحق أبا عمرو ابنه، وهو ذكوان وهو رجل من أهل صفورية، فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه بعده، فأولدها أمية وهو أبو معيط، ويقال: استلحق ذكوان أيضاً أبان.
____________
1- شخصيات اسلامية ضمن موسوعة العقّاد: 549.
2- المنمق: 103.