الفصل السابع

الإيقاع في شعره

 

 

مفتتح الفصل

اللغة الإيقاعية

 

إنَّ لغة الشعر لغة موسيقية زاخرة بالنغم الذي يعد جزءاً من مكوناتها المتآزرة مع التعبير اللغوي، فالألفاظ تتواكب في وحدات ترنيمية ملحنة في سياق إيقاعي يعمل على اشباع رغبات وحاجات وجدانية عميقة تجذب الآخرين إليه، والأبيات الشعرية تتعاقب وتشع منها أصوات موسيقية تطرب لها الأذن، وصدور الأبيات في عدد وحداتها الصوتية متساوقة مع اعجازها في عدد وحداتها الصوتية بطريقة مرتبة، اما المقطع الصوتي المتمثل بالقافية، فهو القرار الأخير لنغم البيت .

ومن هذا كله تتكون عملية بناء هيكل هندسة القصيدة العربية من الوزن والقافية التي يحتويها البيت، ويتمثل الإيقاع فيها بضربات منظمة ومتناسقة لوزن التفعيلة الداخلية ذات الذبذبات المتوافقة لانفعالات الشاعر التي يمر بها وهو يقوم ببناء فكرته بانتقاء ألفاظ دقيقة تعبر عن مشاعره واحاسيسه وخلجاته المتوائمة مع موسيقى الألفاظ والمتشكلة مع الأبيات الأخرى، فتقوم الموسيقى التعبيرية الشعرية «بدور المساعد للعبارة اللغوية على تحقيق الغاية من التأثير ونقل المشاعر والاحاسيس» (1) بطريقة موحية إلى المتلقي، فالإيقاع بناء كيان متلاحم متكامل يقوم على جمع صياغة الألفاظ والعبارات المتلونة بالايحاء النفسي من ارتفاع وانخفاض، فيصدر لحنا فنيا متناسقا له اثره الخلاب في شد المتلقي بسبب تدفقات النغم الشعري المتولد من الترانيم الملحنة المتساوقة مع موقف الحياة، والمصور للشعور والاحساس منظمة في عمل فني متقن.

على اننا لا نغفل عن أن اختيار الشاعر الموسيقى من الوزن والقافية يبقى اختيارا عفويا منضبطا مبنيا على ما يمتلكه من خزين ثقافي يتيح له تلك الاختيارات التلقائية، وإحساس الشاعر بها لحظة انجاز عمله الابداعي الشعري تعتمده الأذن الموسيقية في اختيارها، ومقتضى طبيعة التجربة الشعرية.

 

أولاً: الوزن:

الوزن: هو تردد الوحدات الصوتية المتشكلة في التفعيلة التي يرمز لها بالمتحرك والساكن (/5)، وتمنح التفعلية القصيدة جمال نظام هيكلها في كل بيت من أبياتها المتكررة، ويعزف الشاعر على اوتار أصوات انغام التفعيلة في البناء الصوتي الداخلي للقصيدة في الحروف المتناغمة والمؤلفة بوسائل فنية محاولة منه لتطبيق هندسة عقلية متولدة من انفعالاته المحدودة بقالب الوزن الذي تصدح منه حدَّة نبرته الصوتية، فتكاد تعلو على الوزن العروضي، ولا ندركها إلا بقراءة الشعر بصورة مسموعة، فهو إيقاع باطني سحري يستوعب تجربته الشاعر ايا كان نوعها، وفي الوقت نفسه تكون تفعيلة الوزن خاضعة لسيطرته فتنتظم بأنغام موسيقية محكمة الترتيب في البيت تستثير عناية المتلقي بهذا النظام المتناسق للجمل الموسيقية

وتعد أوزان الشعر الستة عشر الذي ضمها الشعر العربي في قوالب هيكلية شعرية بحرا دافقا يغترف منه الشاعر ما يريده بحسب التصاق تجربته الشعرية، ليمنحها ذاتها الفنية، ولايخفى أن انتقاء الشاعر هذا البحر الشعري، أو ذلك يأتي بصورة عفوية؛ لأن الشاعر القديم لا يعرف طبيعة البحور؛ وأوزانها وقوافيها، لأنَّ ملاذه في هذه العملية الاختيارية الموهبة الشعرية الفطرية، والأُذن الموسيقية(2)، وانتقى أبو طالب من الدوائر الوهمية لأوزان الشعر العربي بفطرته ما يتلاءم مع عاطفته وحالته الشعورية والنفسية المستوعبة لتجربته الآنية وذوقه الفطري الذي ينأى عن تحديد الإيقاع، والقوالب التي تنظم الشعر، وكما هو مبين في الجدول رقم(1) بحسب الكم.

جدول احصائي رقم (1)

لعدد الأوزان، وعدد القصائد، والمقطوعات، والاراجيز، والنسبة المئوية

التسلسل

البحر

عدد القصائد والمقطوعات

النسبة المئوية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

الطويل

الكامل

البسيط

الرجز

الوافر

المتقارب

الخفيف

السريع

الرمل

المنسرح

45

15

10

10

8

6

6

2

1

1

85/42

28/14

52/9

52/9

61/7

71/5

71/5

90/1

95/0

95/0

المجموع

105

أفرز الاحصاء نتائج استثمار أبي طالب لبحور الشعر العربي، فقد نظم في أكثرها بمختلف فنونه الشعرية الدالة على جودة طبعه وقوته، فإحساسه الفني الدقيق دفعه إلى براعة النظم بها، فكان من نتاج هذا الامر تنوع الإيقاع بمختلف طبقاته ونغماته الموسيقية التي اتاحت له اثراء تجاربه الشعرية المتباينة والمتوائمة مع الألفاظ ضمن تراكيبها السياقية التي احتوتها الاطر الفنية بجمل موسيقية تتدفق منها انفعالات نفسية بالوان مختلفة، وقد احتل البحر الطويل الصدارة في نظم قصائد أبي طالب ومقطوعاته الشعرية، فبلغت نسبتها (85، 42 %) من بقية البحور المستعملة، وبحر الطويل بحر شائع، فقد نظم فيه ما يقارب ثلث الشعر العربي(3)، ويعود ذلك إلى أنه ينماز بانه ذو «بهاء وقوة» (4) في ذبذباته الموسيقية، وذو امكانات متسعة تتيح للشاعر ان ينظم في شتى الموضوعات التي تحتاج الى طول النفس؛ لأنَّه سخي النغم يضم ثمانية واربعين صوتا، يعطي الشاعر الحرية في التصرف بالتعبير عما يجول في ذهنه بهذا القالب الإيقاعي، واستثمر أبو طالب البحر الطويل الذي منح إحساساً موسيقياً للقصيدة المتظافرة مع عناصر المحتوى: الألفاظ والتراكيب التي تكون الشكل، والمتلاحمة مع عناصر الصورة: المعاني والافكار التي تكون المضمون، فمنحت الامكانات الفنية في تشكيل إيقاع مكثف، وهو يتوقد فيه صوت الفخر، والحماسة،والعتاب، والرثاء، والمديح وموضوعات أُخرى تتعلق بالنصرة الى اخره(5).

ويحتل البحر الكامل المرتبة الثانية في ترتيب القصائد والمقطوعات في شعر أبي طالب، اذ بلغت نسبته (28، 14%) وللبحر الكامل «جزالة وحسن اطراد» (6) في نغماته الإيقاعية المنسابة بدفق، لابانة مواقف الحياة التي يمر أبو طالب بها موجها وناصحا، أو باديا لرأي في قضية معينة(7) .

واحتلت الأبحر «البسيط، والرجز، والوافر، والمتقارب، والخفيف، والسريع، والرمل، والمنسرح» المرتبة الثالثة، فقد بلغت نسبتها (52،9%) ولكل بحر منها مزاياه الخاصة حيث يعزف الشاعر انغام تجربته الشعرية المصورة للنسيج اللغوي في موجات صوتية هادئة، أو عالية تبعا لتلون انفعالاته الخاصة بظرفها الذي يعتري الشاعر ساعة نظم ابداع عمله الشعري، وقد انتقينا من هذه المجموعة للابحر الشعرية، البحرين: الرجز والمنسرح، فالرجز هو الذي يرتجل ارتجالا مباشرا في مواقف الحياة اليومية وملابستها المختلفة(8)، ويبدو أن هذا اللون من الإيقاع يتناسب مع مناسبات الحياة المتباينة لتوافر النغم المقترن بالجمل الموسيقية التي تشكل التفعيلة المتدفقة باثر انفعالات الشاعر المصورة للحركة الدائبة للحياة في تلوين اجزائه، وصقل محتوياته،واثرائه بالصور في محاكاة الاحداث اليومية.

وقدم أبو طالب انجازا صعبا في استعماله البحر المنسرح الذي «عليه بعض اضطراب وتقلقل، وان كان الكلام فيه جزلا» (9) فتفعيلاته مركبة، فقد استوعب بحر المنسرح تجربة الشاعر في بث ما ينشده في عرض موضوعه من الحث على النصرة وتهديد الخصم وتوعيده(10).

ونأى أبو طالب عن استعمال البحور: المضارع والمقتضب والمجتث والمتدارك، فلم ينظم فيها، وهي من البحور المهملة، لم يقل بها الشعراء القدامى(11)، وبهذا كله ارتسم أبو طالب طريقا موازيا لشعراء قبله ومعاصريه، فلم يخرج على المعايير الوزنية لموسيقى الشعر العربي، وانتقاء أبي طالب هذا الوزن أو ذاك كان بدافع الحال الشعورية التي حددت اختيار الوزن في احداث الفعل المؤثر ليصل الى العقول والقلوب على السواء، وهذا لا يتم إلا إذا كان الإيقاع على درجة قوية من التأثير والنفاذ وهو يحشد فيه كثيراً من التفاصيل والجزئيات في استثمار التلون الصوتي المؤثر والتصوير الفني الدقيق ومكونات اللغة الفنية التي تستلزم الاتقان المتأني إلى جانب صدق العاطفة وقوتها المنسكبة في بنية الإيقاع.

 

ثانيا: القافية:

هي الجزء المكمل لإيقاع البيت الشعري،وهي الدفقة التي تمنحه وظيفة جمالية بترديدها في آخر الأبيات بوصفها اخر مظهر من مظاهر الإيقاع في البيت الشعري إذ يصل الإيقاع إلى مداه فيها بما توفره من انسجام صوتي بين حروفها تلك الحروف التي يشكل الروي والردف والتأسيس أبرز مظاهرها، فتشترك مع إيقاع البيت وتتجاوب معه في النسق العام، والإيقاع الشعري لا يمكن أن يحصر الشحنات الوجدانية للشاعر ما لم تتفق القافية معه، فهما المنظمان لانفعالاته ولاسيما القافية، بيد أنَّها لا تحول دون انطلاق الاحاسيس والعواطف ضمن المعاني والافكار التي تنتظمها، والألفاظ والتراكيب الفنية عندما تتشكل مقومات العمل الشعري، أو تقيدها، وانما هي الضابط الذي يحصر الشاعر ساعيا في تنظيم المكونات الشعرية إلى آخر وحدة موسيقية في البيت، ثم يعود لتنظيمها، في البيت الآتي بعده وهلم جرّا؛ لأن هذه المقومات الشعرية ممتدة إلى آخر القصيدة، أو المقطوعة بنظام فني متلاحم ينساق الشاعر وراءه ليشكل خطا لابداعه الشعري لا خيار له في سواه.

ومن هنا طبعت القافية بطابع الدلالة والنغم في بناء العمل الشعري(12)، فترديد موسيقى القافية في نهاية العمل الابداعي الشعري تمنح قوة للإيقاع وتخلق شعورا ذا وقع طيب في أذن السامع إذا كان المعنى المطروق في البيت يدل عليه،وبخلافه إذا كان المعنى ينبو عن ذوق السامع(13).

ومن أبرز مظاهر القافية واوضحها حرف الروي، و«هو النبرة أو النغمة التي ينتهي بها البيت ويلتزم الشاعر تكراره في أبيات القصيدة؛ ليكون الرباط بين هذه الأبيات يساعد على حبكة القصيدة وتكوين وحدتها، وموقعه اخر البيت وإليه تنسب القصيدة» (14)، أي أنه تردد صوتي واحد في أواخر الأبيات ذو جرس موسيقي ناشيء من انفعال الشاعر ساعة ابداع عمله الشعري، يحدث رنينا موسيقيا متناغما يشد انتباه السامع اليه، ويثبته في ذهنه عند قراءة القصيدة بصوت مسموع، فهو أهم عناصر مقومات الأصوات في القافية، فلولا وجوده لعمت الفوضى والاضطراب والتبعثر والتشتت في نظام بناء القصيدة.

استثمر أبو طالب اربعة عشر حرفا من حروف المعجم العربي خدمة للقافية بوصفها قيمة تعبيرية موسيقية يرمز لها بالصوت كما مبين في الجدول الاحصائي رقم(2) بحسب الكم .

جدول احصائي رقم (2) لحرف الروي، وعدد القصائد، والمقطوعات، والاراجيز، والنسبة المئوية

التسلسل

حرف الروي

عدد القصائد والمقطوعات والاراجيز

النسبة المئوية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

الباء

الدال

الراء

اللام

الميم

القاف

الفاء

النون

التاء

السين

الهاء

الجيم

الحاء

العين

17

17

15

15

15

6

5

4

3

3

2

1

1

1

19/16

19/16

28/14

28/14

28/14

71/5

76/4

80/3

85/2

85/2

90/1

95/0

95/0

95/0

المجموع

105

وأفرزت نتائج الاحصاء استعمال أبي طالب لحروف الروي التي يمكن تصنيفها إلى صنفين: الأول: يضم حروف الروي: «الباء، والدال،والراء، واللام، والميم»، ويحتل نسبة عالية في شعره، والثاني: يضم حروف الروي: «القاف، والفاء، والنون،والتاء،والسين، والهاء، والجيم، والحاء،والعين»،ويحتل نسبة متوسطة، أو قليلة في شعره.

وعند موازنة هذين الصنفين بالإحصاء التقريبي لاحد الدارسين للشعر العربي(15) يتبين أن الصنف الأول من حروف الروي التي وظفها أبو طالب في شعره تحتل الصدارة في نظم الشعراء، اما الصنف الثاني منها، فهو متوسط الاستعمال، أو قليل في نظم الشعراء.

ومن هنا نتوصل إلى أنَّ أبا طالب درج على منهج سابقيه من الشعراء، ومعاصريه في البناء الصوتي لحروف الروي في نظام القصيدة، أو المقطوعة، أو الارجوزة، فهو متمكن من صناعته الشعرية بما يمتلك من امكانات عالية وواسعة تؤهله لانجاز عمله الفني، ومتمتعاً بمادة لغوية كثيفة تمكنه من التصرف بها كيفما شاء، وأنى شاء في أفانين الكلام بأية وسيلة يختارها من دون ان يشعر بعوائق القافية الموحدة في جميع أبيات العمل الشعري، ولاسيما وهو يطيل في أراجيزه التي تدل على طول نفسه الشعري.

ولهذا كله أتاحت حروف الروي للشاعر التنوع في استعمالها بحسب التجارب التي عالجت موضوعاته الشعرية.

قسمت أصوات حروف الروي في شعر أبي طالب بحسب اهميتها في ضوء شدتها إلى: أصوات متوسطة أو مائعة(16)، فاظهرت نتائج الاحصاء إلى شيوع حروف الروي: «الراء، والعين ، واللام،والميم، والنون» في شعر أبي طالب من بين الأصوات المرتبطة بالبناء الموسيقي، فقد بلغ تردد مجموعها في الاستعمال خمسين مرة، أي بنسبة (61،47%) من عدد القصائد والمقطوعات والاراجيز، فاحتلت الصدارة في استعمال حرف الروي.

وحروف الروي: «الراء، واللام، والميم، والنون» من حروف الذلاقة، فمن خصائصها قدرتها على الانطلاق من دون تعثر في تلفظها، ولمرونتها وسهولة النطق بها «كثرة في ابنية الكلام» (17)، ومما يسوغ كثرة استعمالها انها من الأصوات المجهورة(18)،«اذ لولا ذلك لفقدت اللغة اهم عنصرفيها وهو تنغيمها وموسيقيتها ورنينها الخاص الذي يميز به الكلام من الصمت» (19) وهذا الأمر يفسر وجود الائتلاف بين هذه الأصوات وطبيعة التكوين الشعري، أو التجارب الشعرية المعبر عنها، وارتباطها بالفاصلة الموسيقية للقافية المتلاحمة مع الحال النفسية للشاعر وهو يعزف على انغام بنائه الموسيقي في الموضوعات: الرثاء والنصرة والعتاب والفخر والحماسة والتعريض والمعاناة الذاتية(20) التي تحتاج إلى النغم والرنين العاليين لتشكل جزءا من الوحدة الموسيقية الشعرية التي يتوقع السامع تكرارها، وهي أصوات ذات قيمة تعبيرية تحقق التأثير المطلوب في السامع، ومنها ما قاله أبو طالب في شأن الرهط الذين نقضوا الصحيفة في مديحه لهم:

{من المتقارب}

سَقى اللهُ رَهطاً هُمُ بِالحُجونِ

 قَضَوا ما قَضَوا في دُجى لَيلِهِم

 بَهاليلُ غُرٌّ لَهُمُ سورَةٌ

كَشِبهِ المُقاوِلِ عِندَ الحُجو

لَدى رَجُلٍ مُرشِدٍ أَمرُهُ

فَلَولا حِذاري نَثا سُبَّةٍ

وَرَهبَةَ عارٍ عَلى أُسرَتي

لَتابَعتُهُ غَيرَ ذي مِريَةٍ

كَقَولِ قُصَيٍّ أَلا أَقصِروا

 

قِيامٌ وَقَد هَجَعَ النُوَّمُ

وَمُستَوسِنُ الناسِ لا يَعلَمُ

يُداوى بِها الأَبلَحُ المُجرِمُ

نِ بَل هُم أَعَزُّ وَهُم أَعظَمُ

إلى الحَقِّ يَدعو وَيَستَعصِمُ

يُشيدُ بِها الحاسِدُ المُفعَمُ

إِذا ما أَتى أَرضَنا المَوسِمُ

وَلَو سيءَ ذو الرغْمِ

وَالمُحرمُ وَلا تَركَبوا ما بِهِ المَأثَمُ(21)

منح الشاعر حرف الروي «الميم» قيمة موسيقية ضمن الوحدة الإيقاعية الكامنة لدلالة الانغلاق في الوحدات التعبيرية اللغوية «النومُ، لايعلمُ، المجرمُ، أعظمُ، يستعصمُ، المفعمُ، الموسمُ، المُحرمُ، المأثمُ» .

وصوت «الميم» مجهور فطريقة التلفظ به تتراوح بين انضمام الشفتين وانفراجها التي تتناسب مع حالات انغلاق النوم والعلم والاجرام، والتعظيم والاستعصام إلى آخره، التي استقصيت تجربة الشاعر الفنية.

ووظف أبو طالب الأصوات الشديدة «الانفجارية» (22) ومنها «الباء، والتاء، والجيم، والدال، والقاف» في ثلاث وأربعين قصيدة ومقطوعة وارجوزة، أي بنسبة (95،40%) عالجت موضوعات: الرثاء والنصرة والمديح، والعتاب، والتحذير والنصيحة(23)، وقد نجح أبو طالب في خلق تجربة شعرية معادلة لتجربته الحياتية، وهو يقف سدا منيعا بوجه المعارضين لدعوة ابن أخيه (صلى الله عليه وآله)، وينذرهم عاقبة عداوتهم منتقيا حرف الروي المنساب مع البحر الطويل المستعمل، فحرف الروي «الباء» غني بالرنين لمزاياه التي يتمتع بها في أنه شديد الانفجار يجد الشاعر فيه متنفسا للموقف النفسي العنيف في الحال التي يرغب فيها ايصال صوته إلى بطون بني لؤي بن غالب، فقال:

{من الطويل}

أَلا أَبلِغا عَنّي عَلى ذاتِ بَينِنا

أَلَم تَعلَموا أَنّا وَجَدنا مُحَمَّداً

وَأَنَّ عَلَيهِ في العِبادِ مَحَبَّةً

وأَنَّ الَّذي نَمَّقْتُم في كِتابِكُم

أَفِيقوا أَفِيقوا قَبلَ أنْ يُحفَرَ الثَّرى

 وَلا تَتبَعوا أَمرَ الغُواةِ وَتَقطَعوا

 وَتَستَجلِبوا حَرباً عَواناً وَرُبَّما

 فَلَسنا ـ وبيتِ اللَّهِ ـ نُسلِمُ أَحمَداً

 وَلمّا تَبِن مِنّا وَمِنكُم سَوالِفٌ

 بِمُعتَركٍ ضَنكٍ تُرى كسرُ القَنا

 كَأَنَّ مُجَالَ الخَيلِ في حجَراتِهِ

 أَلَيسَ أَبونا هاشِمٌ شَدَّ أَزرَهُ

 وَلَسنا نَمَلُّ الحَربَ حَتّى تَمَلَّنا

 وَلَكِنَّنا أَهلُ الحَفائِظِ وَالنُّهى

 

لُؤَيّاً وَخُصّا مِن لُؤَيٍّ بَني كَعبِ

 نَبيّاً كَموسى خُطَّ في أَوَّلِ الكُتبِ

 وَلا خَيرَ مِمَّن خَصَّهُ اللَّهُ بِالحُبِّ

 لَكُم كائِنٌ نَحساً كَراغِيَةِ السَّقبِ

 وَيُصبِح مَن لَم يَجنِ ذَنباً كَذي الذَّنبِ

أَواصِرَنا بَعدَ المَوَدَّةِ وَالقُربِ

أَمَرَّ عَلى مَن ذاقَهُ حَلَبُ الحَربِ

 لِعَزّاءَ مِن نَكْبِ الزَمانِ وَلا كَربِ

 وَأَيدٍ أُتِرَّت بِالقُساسيّةِ الشُهبِ

بِهِ وَالنُّسورُ الطُّهْمَ يَعكُفنَ كَالشَّربِ

وَمَعمَعَةَ الأَبطالِ مَعرَكَةُ الحَربِ

 وَأَوصى بَنيهِ بِالطِعانِ وَبِالضَّربِ

 وَلا نَشتَكي مما نلاقي مِنَ النَكبِ

 إِذا طارَ أَرواحُ الكُماةِ مِنَ الرُعبِ(24)

ورد حرف الروي «الباء» في القافية منساقا في خدمة البناء الموسيقي للقصيدة المطبوعة بطابع انفعال الشاعر المتلون، وهو يبلِّغ ويحذر ويهدد ويتوعد ويفخر، فعند النطق به تنطبق الشفتان انطباقا محكماً، وبعد انفصالهما فجائيا ينفجر النفس المحبوس محدثا صوتا انفجاريا مدويا(25)، وهذه الأمر يتفق مع طبيعة تجربة الشاعر الآنية، وهو ازاء تحدي معارضي بطون قريش من لؤي بن غالب.

ومن الاضاءة بالجدول الاحصائي رقم «2» يتبين أنَّ أبا طالب استعمل في شعره الأصوات الرخوة والاحتكاكية(26)، فقد ترددت أربع مرات في مقطوعات شعرية، بلغت نسبتها (80، 3%) من مجموع عدد القصائد والمقطوعات والأراجيز، ويتضح أن أبا طالب لم يتكأ إلى استعمال أصوات الأطباق(27)، وهي من اصناف الأصوات الرخوة والاحتكاكية التي انمازت بالفخامة، و«لها رنة قوية في الاذان، مما يلائم طباع البدو وخشونتهم» (28) ويبدو أنَّ عيش الشاعر في بيئة حضرية مثل مكة استدعت ان يكون لها اثرها في هذه الموسيقى وذوقه الفني وهو ينتقي الروي الذي يتناسب وذوقه الحضري، وهو ذوق الشعراء السابقين والمعاصرين له، وربما عزف الشعراء عن هذه الحروف؛ لأنَّها قليلة الدلالة لاتتناسب مع ذوق المستمع، ولذلك استعملها أبو طالب في قصيدة ومقطوعتين وبيت يتيم(29)، فمما ورد في شعره حرف الروي «الحاء» في قصة عمار بن الوليد وعمرو بن العاص البعيدة عن الخلق العربي ، فقال:

{من الطويل}

تَصاحَبتُما ـ لا باركَ اللهُ فيكما ـ

سقيتَ الفتى خمراً فأفسدتَ عقلَهُ

 رأت رجلاً من اجملِ الناسِ منتشٍ

أذنتَ لها في قبلةٍ من جبِينها

 

على فَجْرَةٍ تَنْثي عليكم وتُفْصِحُ

 وزوجتكَ الحسنى إليه تُلّوِّحُ

 وأنت عياءٌ أصفرُ اللون افْلَحُ

 فطالبها جهراً بما ليس يصلحُ(30)

لم يرفل حرف الروي «الحاء» بالإيقاع النغمي ذي الجرس الموسيقي الذي يساعد على اثارة المتلقي، فهو من الحروف المهموسة(31)، فمن خصائصه عند التلفظ به يسمع منه نوعٌ من الحفيف في الحلق، ويرتبط ببنية القافية بنغم موسيقي هاديء يعبر عن تجربة الشاعر في استنكار قبح العمل المخزي الذي تنأى عنه العادات والتقاليد العربية الاصيلة، فعبر الشاعر عن همسه في بنية الوحدات اللفظية والتعبيرية «تُفْصِحُ، تُلوَِّحُ، أفلّحُ،يُصْلِحُ» المتوائمة مع الوحدات الإيقاعية في خلق تجربة شعرية .

ومن مظاهر القافية الأصوات الساكنة والردف والتأسيس المعتمدة على ما تقدمه أصوات المد للشاعر من نغمات موسيقية منتظمة في إيقاع القافية، وهي تضيء نفس الشاعر ببطء الحركة المتساوقة مع احاسيسه ومشاعره، والمتناسقة مع المعنى الشعري في ايحاءات قوية وضعيفة لتتحد في بناء موسيقى القافية، وقد استعمل أبو طالب الحروف الساكنة ومنها حروف الروي الموصولة بالف الاطلاق المترددة عشر مرات بنسبة (52، 9%) من عدد القصائد والمقطوعات والأراجيز(32)، على نحو ما انشد أبو طالب عندما اجتمعت قريش على خلافه في متابعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فخاطبهم معاتبا ومحذرا ومادحا لابن أخيه :

{من الطويل}

وما إنْ جنينا في قريشٍ عظيمةً

 

سوى أنْ مَنَعْنا خَيرَ مَنْ وطَىءَ التُّربا(33)

تعامل أبو طالب مع القافية المطلقة التي حركها الروي بحركة مد طويلة في تموجات القافية المتشكلة بتفعيلة الوحدة الموسيقية المتكونة في الضرب؛ ليصبح حرف المد جزءا من بنية القافية فهو يحمل الدلالة الشعورية التي منحت احساس الشاعر بالضيق الخفي، فاطلق حرف الالف محاولة منه للتفريج عن نفسه وهو يوقع الوحدات اللفظية «التُّربا، ذربا، حربا، النكبا، الشعبا، سربا» في المقطوعة نفسها، مادحا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومحذرا قومه مغبة عنادهم في معاداته(34).

واستعمل أبو طالب الردف(35) بالالف في ثلاث عشرة قصيدة ومقطوعة بنسبة (38، 12%) والردف بالياء في خمس قصائد ومقطوعة بنسة (76، 4%)، والردف بالواو في قصيدة واحدة بنسبة (0.90%) من القصائد والمقطوعات والاراجيز(36)، على نحو يذكر ما جرى في سفره إلى الشام مع النبي (صلى الله عليه وآله) :

{من الطويل}

أَلَم تَرَني مِن بَعدِ هَمٍّ هَمَمتُهُ

 

بِفُرقَةِ حُرٍّ مِن أَبينَ كِرامِ(37)

فالالف ردف، والميم روي، ويكرر الشاعر القافية المردفة بالالف «بسلام، زمام، سجام، لئامِ، شآمي، عظامِ، طعامِ، غلام، امام الى اخر القصيدة»، فيضفي الشاعر ظلالا ايحائياً في جرس القافية المرسوم فيها نغم الروي ، وهو يحاول شد المستمع الى معنى اللفظة ضمن بنية القافية، فيتوقع معه ترديد الوحدة اللفظية المتضمنة لردف القافية .

وقد تتناوب الحروف المردفة (الواو مع الياء) في بنية قافية القصيدة الواحدة، وبها التزم أبو طالب ثماني قصائد ومقطوعة ورجز(38) بنسبة (61، 7%) على نحو خطابه لبطون قريش يذكر ظلمهم وعقوقهم وحصارهم في الشِّعب:

{من الوافر}

أَرِقتَ وَقَد تَصَوَّبتِ النُجومُ

لِظُلمِ عَشيرَةٍ ظَلموا وَعَقّوا

 

وَبِتّ وَما تُسالِمُكَ الهُمومُ

وَغِبُّ عُقوقِهِم كلأٌ وَخيمُ(39)

فالياء والواو ردف والميم روي، ويتردد الواو والياء في بنية القافية «حريمُ، ذميمُ، قسيمُ، عديمُ، الحلوم، مليمُ، الحطيمُ، عظيمُ، ظلومُ، تريمُ، الخصومُ، العمومُ الى نهاية القصيدة».

إنَّ موسيقى القافية المردفة بالواو تارة، وبالياء تارة اخرى تتيح لشاعر اثراء تجربته بالانغام الموسيقية المتوافرة، وهو يلون اوتارها النغمية بهذا التباين الصوتي بحسب احوال حركة النفس المقننة باطار فني مراعيا فيه النبرة ضمن الوحدة اللغوية في القافية، والردف المتناوب لا ضير منه؛ لوجود تشابه في الطبيعة الصوتية ودرجة الوضوح السمعي(40)، فكلا الصوتين له فاعليته الموسيقية ضمن تقنيات الإيقاع.

والتـزم أبـو طالب التأسيس في ثلاث عشرة قصيـدة ومقطـوعة(41) بنسبـة (38، 12%) نحو عتابه لقومه في ظلمهم لرسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال:

{من الطويل}

ألا يا لقومٍ للأمور العجائبِ

 

وصرفِ زمانٍ بالأحبّةِ ذاهبِ(42)

فالالف تأسيس، والهاء دخيل والباء روي، ويردد الشاعر التأسيس في بنية القافية: «ضرائبِ، عاتبِ،كاذبِ، واجبِ، اطائبِ، اقاربِ إلى آخر القصيدة»، وقد عُني أبو طالب بموسيقى القافية وهو يؤسس لها بجرس نغمي متناسق في بنائها، ذي قيمة إيقاعية مكثفة فكان للنغم أثره في اذهان قومه؛ لأنَّه يتناغم مع صوت الروي في ترديد الوحدة الموسيقية للقافية.

ويحاول الشاعر انجاز عمله الفني في توفير عدد من الأصوات المطلوبة بنظام متقن، فإذا اختل عدد الأصوات، أو تغير شكلها، أو ترتيبها عد ذلك عيبا على صناعته الشعرية، فالشاعر القديم تمرد على قواعد العروضيين قبل وضعها؛ لأنه يستمد أصول عمله الفني من استماعه لتراث اسلافه الذي تحاشى الميل إلى التجاوزات العروضية إلا عند الضرورة الشعرية لأنَّها رخصة منحت له فيجوز بموجبها خرق القواعد العروضية خدمة لعمله الفني ، ومن هذه التجاوزات:

أ ـ التجميع، ويطلق على القصائد غير المصرَّعة بالتجميع «وهو أن تكون قافية المصراع الاول من البيت الاول على روي مُتهِّيء لأن تكون قافية آخر البيت فتأتي بخلافه» (43)، وهذا التنوع الإيقاعي فيه نبوٍ عن النغم الموسيقي المرتقب، ولهذا عد من عيوب القافية بسبب ما يخالف ظن المتلقي في متابعة إيقاع البيت، ومنه قول أبي طالب في رسالته الموجهة إلى أبي وهب فقال:

{من الوافر}

ألا بَلِّغْ أبا وَهْبٍ رسولاً

 

فانك قد دأبتَ لما تُريدُ(44)

عزف الشاعر عن التصريع في مطلع قصيدته؛ لأن طبيعة الولوج المباشر إلى موضوعه اقتضت السرعة في الاداء، وهو ازاء تبليغ خطابي لأبي وهب، فحتَّم عليه ترك التصريع، وهذا ما يلحظ في شعره بشكل عام، ومن هنا يمكن ان نقول ان ظاهرة التجميع لا تعد عيبا على إيقاع الشاعر، فالشاعر له الحرية في استعمال الطريقة التي تتناسب مع معالجة موضوعه، ولاسيما أن اكثر شعر أبي طالب يعالج موضوعات الحياة اليومية الجديدة المواكبة لعصر الرسالة.

ب ـ الإقواء، وهو العدول عن حركة بحركة أُخرى في حرف الروي ، على نحو عدول الشاعر بالضمة عن الكسرة(45)، وربما حمل الشاعر على هذا الامر ليشد انتباه المستمع الى جرس موسيقي جديد لم يألفه المستمع؛ ليكسر الرتابة الموسيقية التي اعتاد سماعها في بنية القافية، ويطالعنا أبو طالب في شعره وهو متألم من افعال قومه في معاداة صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله) فقال:

{من الطويل}

أَلا مَنْ لِهَمٍّ آخِرَ اللَّيلِ مُنْصِبِ

 وَجَربى أَراها مِن لُؤَيِّ بنِ غالِبٍ

 إِذا قائِمٌ في القَومِ قامَ بِخُطَّةٍ

وَما ذَنبُ مَن يَدعو إِلى الله وَحدَهُ

 

وَشعبِ العَصا مِن قَومِكِ المُتَشَعِّبِ

مَتى ما تُزاحِمُها الصَّحيحَةُ تَجْرَبِ

 أَقاموا جَميعاً ثُمَّ صاحوا وَأَجلَبوا

 وَدين قَديم أَهلُهُ غَيرُ خُيَّبِ(46)

لجأ الشاعرإلى تنويع الإيقاع الموسيقي لنغم حرف الروي، فحركة روي البيت الاول والثاني بالكسرة، ثم عدل في البيت الثالث إلى الضمة، وعاد في البيت الرابع وبقية أبيات القصيدة إلى الكسرة.

فمن الملاحظ أن الشاعر لم يخالف الاستعمال المطرد للغة، وانما خالف المعايير الوضعية والقواعد الموسيقية رغبة منه في تنويع الإيقاع الذي يستدعي انتباه المتلقي وهو في غفلة عن المعنى، ونغم الإيقاع، فيأتي المعنى بخلاف النغم؛ ليقصر انتباه المستمع إليه.

جـ ـ الايطاء، وهو ترديد الكلمة خطاً ومعنىً في القصيدة الواحدة (47)، ولايعد هذا الترديد عيبا إذا جاءت الكلمة المكررة نفسها لفظاً ومعنىً بعد سبعة أبيات؛ لأنها عندئذ تعد كما لو أنَّها مفتتح قصيدة جديدة(48)، على رأي من يعد القصيدة سبعة أبيات(49)، على نحو ما روى أبوطالب قصة عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص فقال:

{من الطويل}

أتاني حديثٌ عن عمّارةَ مُخْزيٌ

 

وفِعْلُك يا عَمْرَو الضلالةِ أقبحُ

وبعد اربعة أبيات قال:

فلو كنتَ يا ابن العاصِ حُرَّاً قَتَلتُهُ

 

ولكنْ تداعاكَ الرجالُ وأقبحُ(50)

إنَّ لفظ «اقبح» تكرر لفظا ومعنى في القصيدة؛ لأن الشاعر أراد أن يروي قصة حدث لشخصيتين معينتين اقترنت بقبح عملهما؛ ليبينه إلى المتلقي، فلما سرد ملامح القصة استدعى منه أن يُذكِّر المستمع بشناعة عملهما، فكرر اللفظ تأكيدا لاستنكاره بهذا الإيقاع المفعم بالدلالة والنغم، وهذه مخالفة فنية مقصودة الغاية منها تكثيف النغم الموسيقي، والدلالة الشعرية.

وهناك ظواهر إيقاعية تتعلق بالوزن والقافية على السواء لها اهميتها في تحقيق الانسجام الموسيقي، وتحقيق كثافة موسيقية ودلالية في الألفاظ والعبارات.

التكرار:

إنَّ من مظاهر جمال التناسق الموسيقي، التواؤم في الوحدات الموسيقية التي تتكرر في البيت، ثم تمام الأبيات ضمن التكوين البنائي العام للقصيدة، وان تردد الوزن والقافية اللذانِ يشكلانِ وحدة بنائية للقصيدة المتولدة عن التكرار يمنح جِرسا نغميا تطرب إليه النفس عند سماعه(51) ، وهذا التكرار للوحدة الصوتية لايتولد عن التكرار الموجود في الوزن والقافية فحسب، وانما يتولد من تكرار الألفاظ والعبارات التي يتخيرها الشاعر ليؤدي وظيفة إيقاعية خاصة في بقية اجزاء القصيدة، فضلا عن الحلاوة في الأسلوب، والسمو في المعاني، والعذوبة في الإنشاد، فالتكرار «هو تناوب الألفاظ {والتراكيب والمعاني} واعادتها في سياق التعبير بحيث تشكل نغما موسيقيا يتقصَّده الناظم» (52) .

وترجيع الوحدة الصوتية المتمثلة بالتكرار سواء أكانت لفظا، أم عبارة، أم معنى «يسلط الضوء على نقطة حساسة في العبارة ويكشف عن اهتمام المتكلم بها» (53) ، وتفصح عن نفسيته، ويلفت سمع المتلقي له، وهذا يرتبط بالدلالة.

وتكون الغاية من التكرار زيادة القيمة الإيقاعية للفظ، أو للعبارة، أو للمعنى من خلال تردده، فيعطي نغما مضافا للبيت ومن ثم للقصيدة، وهذا يرتبط بالإيقاع، ومن هذين الأمرين يحقق التكرار وظيفتين دلالية وإيقاعية.

ويلجأ أبو طالب في شعره إلى التكرار ويلح عليه ـ في بعض الأحايين ـ رغبة منه في ابراز الفكرة التي هو في صدد الحديث عنها، ومنها التأبين لفقيد عزيز عليه، أو الافتخار بنفسه أو بقومه، أو التأكيد على حقيقة مهمة لبعض الناس فيحثهم عليها، أو الاشادة بذكر الممدوحين، أو التوعد والتهديد والتعريض بخصومه إلى آخره، على أننا لا نغفل عن أن ظاهرة التكرار بألوانها المختلفة ظاهرة أدبية اعتمدها أبو طالب بوصفها اسلوبا احتذاه شعراء العرب قبل الإسلام(4) .

إنَّ قراءة فاحصة في شعر أبي طالب الذي بين ايدينا؛ تكشف شيوع ظاهرة تكرار الألفاظ، والتراكيب و المعاني(55) وعلى النحو الآتي:

أ ـ التكرار اللفظي:

إنَّ ترديد اللفظ يحمل معنىً معيناً يحاول الشاعر التركيز عليه في سياق النظم؛ لايصال قوة النغم الإيقاعي إلى السامع فيحظى بانتباهه،ويشد سمعه إلى هذه اللفظة التي لـمّعها الشاعر أكثر من غيرها.

ويطالعنا أبو طالب في شعره الجاهلي بتكرار لفظي يشد من وقع الكلمة في النفس الانسانية «وأوْلى ما تكرر فيه الكلام باب الرثاء، لمكان الفجيعة وشدة القرحة التي يجدها المتفجع وهو كثير حيث ألتمس من شعر وجد» (56) ، فندب أبو طالب أخاه الزبير الذي كان أحد حكام مكة ورئيسها(57) ، بتكرار صفة من صفات منزلته الجليلة وهي السيادة، ليترجم عن حزنه وفداحة خسارته بفقده، فقال بعد ندبه بذرف الدموع، وسكب العبرة، ونفث الحسرة(58) ، مؤبناً:

{من الخفيف}

لأخِ سَيِّدٍ نَجيبٍ لِقَرْمٍ سَيِّدٌ

وَاِبنُ سادَةٍ أَحرَزوا المَجـ

....

حَيُّهُم سَيِّدٌ لأحياءِ ذا الخَلـ

سيّدٍ في الذُرى مِنَ الساداتِ

دَ قَديماً وَشَيَّدوا المَكرُماتِ

....
ـقِ وَمَن ماتَ سَيِّـدُ الأَمواتِ(59)

استعان أبو طالب بترديد لفظ «سيد» وتصريفاته سبع مرات، فأسهم هذا التكرار المتتابع في الأبيات اسهاما فاعلا في تصوير فداحة غياب أخيه؛ فراح يكرر بعناية صفته المتوغلة في نسب الأجداد، فهو سيد كريم من أب سيد في ذروة السادات، وأبناء سادة احرزوا المجد، والمنزلة الرفيعة في قومهم.

وكشف التكرار اللفظي جانبا من جوانب شعيرة الحزن على الفقيد، فليس على القلب اقسى من فراق الأحباب فراقا ابديا، فجاء التكرار تعبيرا عن لوعة نفس الشاعر التي لاتتبدد؛ أنه عندما يرثي أخاه إنما يرثي صفاته بنغم إيقاعي يستثير أذهان السامعين، وتؤجج نفوسهم حسرة ولوعة على الفقيد بصدق الاحساس ذي الدلالة المكثفة في التعبير الذي أفاده التكرار من ترجيع الوحدة اللفظية «سيد» ومشتقاتها.

وقد عنيَّ الشاعر بنتاج القيمة الصوتية والدلالية للفظ «سيد» لأن هذا السبيل، هو الأداة الحسية الوحيدة التي يمتلكها الشاعر للفت الاسماع إلى المضامين التي يريد التركيز عليها، فالمخالفة الصوتية هنا بين لفظ «سيد» التي ركز عليها بالتكرار وغيرها من الألفاظ التي لم تتكرر هي التي تشد الانتباه الى اللفظ اكثر من غيره، وهنا يقدم التكرار للشاعر زيادة على ما ذكره تقنية فنية للدلالة التي سيتم التركيز عليها أيضاً من خلال تصور فقدان المرثي.

إنَّ تكرار الألفاظ ظاهرة شاخصة في قصائد أبي طالب في فنونه الشعرية المختلفة، فلم تبرز في الرثاء فحسب، وانما في قصائد الفخر والمديح والهجاء وغيرها.

ففي فن الفخر نجد للتكرار حضورا واضحا، فقد افتخر بخاليه هشام والوليد على أبي سفيان بن حرب، فجعلهم سادة القوم وصدارتهم في الشجاعة والكرم، فقال من شعره قبل الإسلام:

{من الطويل}

وخالي هِشامُ بِنُ المُغيرَةِ ثاقِـب

وَخالي الوَليدُ العِدلُ عالٍ مَكانـُه

اِذا هَمَّ يَوماً كَالحُسامِ المُهَنَّدِ

وَخالُ أَبي سُفيانَ عَمرُو بنُ مَرثَدِ(60)

ردد الشاعر لفظ «خالي»؛ لبيان شمائل خاليه التي اقتضتها طبيعة الفخر الذاتي فقد اضفى خصالاً وخلالاً رفيعة ومحمودة لهما. فخاله الاول، هشام بن المغيرة المخزومي «من سادات قريش وأشرافها، وهو سيد بني مخزوم في حروب الفجار وغيرها، وكان يقال له فارس البطحاء» (61) والاخر هو الوليد بن المغيرة من قضاة العرب في الجاهلية، ومن زعماء قريش كان يدعى العِدل في الجاهلية؛ لانه كان عِدل قريش كلها، فإذا كست قريشا البيت كساه وحده، وإذا ترافدت قريش بالماء والزبيب رفد وحده(62).

وعلى الرغم من أن خال أبي سفيان عمر بن مرثد الضبعي من قيس بن ثعلبة كان سيدا في قومه(63) ، لم يبلغ مبلغ هشام والوليد في علو السيادة والشجاعة والكرم. فكانت القيمة التعبيرية للتكرار كفيلة بالاستحواذ على مسامع المتلقي في احياء ذكرهما في الذاكرة، وهو ينعتهما بالمعاني السامية التي بها اشراف قوم أمه من بني مخزوم؛ ليرسخ اعمالهم الجليلة في أذهان الناس.

إن تكرار الشاعر للفظ في أوائل الأبيات والأشطار في تشكيل عمودي في البيت الأول والثاني، وتشكل أفقي في البيت الثاني، يكشف عن تقنية كان الشاعر يتقصدها في تكراره، وهذا يرتبط بالإنشاد، فاللسان يسبق النطق بهذا اللفظ بعد السكوت عند انتهاء البيت، والشاعر كان قادرا على ذكر لفظة «أخوالي» ثم يذكر من ذكره منهم، ولكن آثر هذه الصياغة، وكأنه يستعذب تكرار هذا اللفظ ويريد أن يدفع المتلقي لمشاركته في هذا الامر. وبذلك كله منح التكرار قوة دلالية، ونغما موسيقيا مساير لتفعيلة الوزن في صدري البيتين، وأول عجز البيت الثاني، وحقق غاية طموح الشاعر بالمفاخرة التي اكتسبت قيمتها التعبيرية من تناوب اللفظ.

وفي المديح يطالعنا أبو طالب في قصيدته اللامية التي يخاطب فيها بني لؤي بن غالب من ابناء عمومته الادنيين، يعرض بهم(64)، ويمدح بني هاشم المناصرين لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والذائدين عنه فقال :

{من الطويل}

بِأَيمانِ شُمٍّ مِن ذؤابةِ هاشِمٍ

 وَتَأوي إِلَيهِ هاشِمٌ إِنَّ هاشِماً

مَغاويرَ بِالأَبطالِ في كُلِّ جَحْفَلِ

عَرانينُ فَهرٍ آخِراً بَعدَ أَوَّلِ(65)

عبَّر أبو طالب في ترجيح الوحدة اللفظية «هاشم» تعبيرا عن اعجابه بالقيم البطولية من شجاعة، ومقارعة الأعداء التي من سماتها: القوة والحماية، فبنو هاشم حماة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبطال كرماء ذو أنفه، وسادة شرفاء ذو مجد عالٍ . فانبهار أبي طالب بسجاياهم جعلهم مثالاً رفيعاً في شعره، فالقيمة التعبيرية للتكرار سلطت الضوء في المعنى النفسي لمنشئه، ومنحت كثافة دلالية في تعظيم شأن بني هاشم في نفوس اعدائهم المناوئين للرسالة المحمدية، وهو يطرق اسماعهم بجليل صفات بني هاشم؛ وليأنس أذهان الممدوحين بذكر شمائلهم.

وينبغي أن يلحظ أن مايذكره الشاعر أبوطالب معروفاً عند المتلقي من فضائل آبائه بوصفهم ذروة الشرف من قريش، فسعى إلى التفرد بما ينظم ليس من خلال المعاني التي يعرفها غيره، وانما من خلال الطريقة التي يعبر بها عن هذه المعاني، فالتكرار يهيء له مايريده من الوضوح الإيقاعي أو لنقل الصوتي يتناسب مع وضوح المضامين الدلالية التي يتحدث عنها ومن هنا كانت عناية الشاعر أبي طالب بالتكرار.

وعمد الشاعر أبو طالب إلى التكرار في الهجاء وهو يخاطب عشيرته قريشا، ويذكر ظلمهم وعقوقهم وحصارهم في الشِّعب(66)، ولاسيما أبناء عمومته الأقربين من بني تيم وهصيص، وأخواله من بني مخزوم فقال:

{من الوافر}

بَنو تَيمٍ توارثَها هُصيصٌ

فَلا تَنهى غُواةَ بَني هُصيصٍ

 وَمَخزومٌ أَقَلُّ القَومِ حِلماً

وَمَخزومٌ لَها منّا قَسيمُ

بَنو تَيمٍ وَكُلُّهُمُ عَديمُ

إِذا طاشَت مِن العَدَةِ الحُلومُ(67)

ردد الشاعر أسماء بعض بطون قريش، ومنها: «بني تيم» في صدر البيت الأول، وأول عجز البيت الثاني، و«هُصَيص» في اخر صدر البيتين: الأول والثاني، و«مخزوم» في أول عجز البيت الأول، وصدر البيت الثالث.

أراد الشاعر في المرة الأولى من ذكر أسماء بطون قريش أن يُعدد القبائل التي اجتمعت على ظلم بني هاشم الذين ناصروا النبي (صلى الله عليه وآله)، وحاصروهم في شِّعب أبي طالب بدلالة لفظ «قسيم»: نصيب. وعندما كرر الشاعر في المرة الثانية أراد أن يفصح عن صفاتهم المذمومة في كل بطن منهم، فنعت بني تَيم، وبني هُصَيص بالضلالة والحمق، وبني مخزوم بالطيش وخفة العقل، واشتركت هذه البطون الثلاث بصفات نفسية هي النزق وانعدام العقل، وقلة الحلم، والضلال، فحقق التكرار قيمة تعبيرية في زيادة المعنى بتوضيع المهجو، والازدراء منه، وبغضه، والتشهير به، أي أن الترجيح اللفظي اكسب الكلمة كثافة دلالة، ومنح نغما إيقاعيا مكثفا مؤذيا في مسامع المهجو.

ومما يحسن الايماء إليه أن الشاعر أبا طالب لجأ إلى التكرار الحرفي ضمن التكرار اللفظي فلَوَّنّ المقطع بصوت «الميم» عشر مرات بنغم إيقاعي مؤلم لمسامع خصمه، فمنح التكرار اللفظي مع التكرار الحرفي كثافة دلالية؛ لأن تردد الحرف وجد لتقوية المعنى كما لو كان لفظا مكررا. وهو في الوقت نفسه يزيد من دلالة الألفاظ المكررة، فاستعمال الشاعر المزاوجة في تكرار اللفظ والحرف في آن معا كان استعمالا موفقا يدل على قوة طبعه وادراكه لاسرار صناعته بهذا التلوين النغمي في الإيقاع، وقد ساعد صوت الميم الذي انماز بخفته على ذلك؛ لأنه من حروف الذلاقة(68) التي يسهل النطق بها دون التعثر في الكلام، وهو من الحروف المجهورة يقع بين الشدة والرخاوة(69) ، ويعبر عن الضيق، فحركه الشاعر في اكثر من بيت خدمة لموضوع فن الهجاء.

ومن الجدير قوله : إنَّ الشاعر القديم كان يحتفي بالأصوات اللغوية احتفاءً يصوِّر ولعه العنيف بلغته وما تقدمه له من امكانات صوتية، فهو يتلذذ بهذه الوحدات الصوتية في اثناء الانشاد وتكرارها يهيء له ما يحتاج إليه من دفع شبح الوهن والضعف في نفسه.

فأكثر شعر أبي طالب هو دفاع عن الرسالة واحتفاؤه بالتكرار يعطيه دفعا قويا ليبدو قويا متماسكا أمام الخصم من خلال نشوة التكرار، ولا سيما ان اللغة وسيلته، ووسيلة غيره للتباهي أمام الأخرين بقدرته على مسك زمامها في وقت نزول القرآن بها، وتحدى الحق تبارك وتعالى ان يأتوا بمثله وهو مُنزِل بهذه اللغة محط التفاخر بين العرب.

وثمة تكرار آخر للفظ «حلم» وقع في آخر صدر البيت الثالث وآخر عجزه، وهذا النوع من التكرار أحد انواع رد الأعجاز على الصدور(70) ، ويلازم ترجيح لفظ القافية وعلى النحو الاتي:

فقد يكون أحد اللفظين المكررين في أول صدر البيت، والثاني في آخر عجزه، ويجمعهما الاشتقاق، نحو قول أبي طالب:

{من الطويل}

وجربى أتتنا من لُويِّ بن غالبٍ

 

متى ما تُزاحمها الصحيحةُ تجْرَبِ(71)

أو يكون أحد اللفظين المكررين في حشو البيت، والثاني في آخر عجزه، نحو قول أبي طالب :

{من الطويل}

نقولُ لعمروٍ : انت منه، وأنَّنا

 

لنرجوك في جلِّ الملمّات ياعُمرو(72)

او يكون احد اللفظين المكررين في اخر صدر البيت، والثاني في اخر عجزه نحو قول أبي طالب :

{من الطويل}

فَثارَ إِلَيهِم خَيفةً لِعُرامِهِم

وَكانوا ذَوي دهيٍ مَعاً وَعُرامِ(73)

أو يكون احد اللفظين المكررين في حشو عجز البيت، والثاني في آخره ويجمعهما الاشتقاق،على نحو قول أبي طالب:

{من الوافر}

عليَّ دماءُ بُدْنٍ عاطلاتٍ

 

لئنْ هَدَرَتْ لذلكم الهُدورُ(74)

إنَّ الترجيع اللفظي في القافية «تجرّب، عمرو، عرام، الهدور» يعود إلى رغبة الشاعر في اشتراك المتلقي بتوقع الفاصلة التي يرمز لها بالمقطع الأخير من البيت في كونها تحرك نفس المستمع وتستثير نشاطه في متابعة بقية اجزاء القصيدة، وان الكلمة المكررة تمنح كثافة إيقاعية ودلالية في تأكد المعنى مما يزيد من جمال الجرس الإيقاعي في موسيقى القافية.

ثمة نوع آخر من التناوب اللفظي يقع في نهاية بيت سابق وفي بداية بيت لاحق، نحو قول أبي طالب في مديحه النبوي :

{من مجزوء الكامل}

أَنتَ النَبِيُّ مُحَمَّد

لِمُسَوّدين أَكارِمٍ

قرمٌ أَعَزُّ مُسَوَّدُ

طابوا وَطابَ المولدُ  المَولِدُ(75)

حقق التردد اللفظي لـ «مسود» وصيغة جمعه انسجاما موسيقيا مترابطا بين البيتين، ليؤكد الشاعر موسيقى القافية في البيت الأول وهو يمدها بموسيقى صدر البيت الثاني، فأفاد الترجيع اللفظي كثافة في المعنى المطروق، وزيادة في الإيقاع الموسيقى، ليخلف تأثيرا نفسيا طيبا، واستجابة حسنة في مسامع النبي(صلى الله عليه وآله) وهو يعدد فضائله وفضائل آبائه.

وفي المقطع المذكور نمطٌ آخر من التكرار يسمى الترصيع «يتوخى فيه {الشاعر} تصيير مقاطع الاجزاء في البيت على سجع أو شبيه به أو من جنس واحد في التصريف» (76) ، يتمثل في تكرار القوالب المتماثلة لبعض الكلمات، وهو لون من ألوان التقسيم يراعي الشاعر فيه التصريف اللفظي في السجع دون مراعاة التقسيم الوزني، فتقسيم الشاعر الجزء «محمد ـ مَفعّل» و«مسوَّد ـ مَفعّل» يخالف تقطيع طبيعة مجزوء الكامل: «متفاعلن متفاعلن» مرتين، بيد أنَّ هذه المخالفة الوزنية أثرت نغمات الأصوات داخل الوحدات التقسيمية بإيقاع جميل ومؤثر في مسامع الممدوح .

ولا نغفل أن التقسيم لا يبتعد ـ في كثير من الأحايين ـ عن التكرار، فكل تقسيم وزني من حيث التقطيع الكمي للأصوات التعبيرية هو تكرار، ولكن الاختلاف يكمن في تغيير الدلالة في التقسيم للوحدات الصوتية؛ لأن التكرار تردد الوحدات الصوتية نفسها.

وقد يقع هذا النوع من التكرار في بداية عجز بيت سابق، وصدر بيت لاحق، في لفظ قوي الدلالة، على نحو قول أبي طالب في نصرة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومديحه له:

{من الخفيف}

قد بذلناكَ ـ والبلاءُ عسَيرٌ ـ

لفداء الأغر ذي الحسب الثا

 

لفداء النَّجيب وابن النَّجيبِ

قبِ والباعِ والفناءِ الرَّحيــــبِ(77)

إنَّ تناوب لفظ «لفداء» يؤكد زيادة المعنى في تأييد النبي ونصرته، والذود من دونه، والدفاع عنه؛ ليواصل الشاعر تأكيده وحدة الشعور مع موضوعه في ذكر صفات النبي (صلى الله عليه وآله) ؛ ليخلق جوا نفسيا مفعما باريج صفاته وهو يعددها على مسامعه.

 

ب ـ التكرار التركيبي :

ينهض التكرار التركيبي بفكرة القصيدة، وفيها يحتاج الشاعر، الى فكرة واضحة، فيلجأ إلى التمهيد بعبارة ثانية مكررة؛ ليخلق تأثيرا نفسيا تلقائيا للمستمع، ويزيد من القيمة الإيقاعية للعبارة فيتيح نغما مضافا لسياق البيت والقصيدة في آن معاً.

وتظهر أهمية هذا التكرار في شعر أبي طالب في النصوص الشعرية(78) التي وظف فيها الجمل الاسمية، أو الفعلية، أو اساليب الطلب من استفهام ونداء وتراكيب أُخرى مختلفة، تتعلق بارادة تعبير الشاعر في نصرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتأييده وحمايته ومديحه، أو في المفاخرة، أو في التعريض والرد على الخصم، وما يتصل بابراز معاني الشجاعة والحرب على نحو قول أبي طالب في قصيدته اللامية في الرد على مشركي قريش الذين تحالفوا على محاصرة بني هاشم في شعب أبي طالب فقال:

{من الطويل}

كَذَبتُم ـ وَبَيتِ الله ـ نَترُكُ مَكَّةً

 كَذَبتُم ـ وَبَيتِ الله ـ نبرى مُحَمَّداً

وَنَظعَن إِلا أَمرُكُم في بَلابِلِ

وَلَمّا نُطاعِن دونــَهُ وَنُناضِــــلِ(79)

ردد أبو طالب التعبير التركيبي «كذبتم ـ وبيتِ الله ـ» المتكون من الجملة الفعلية المتبوعة بجملة القسم في الخطاب الشعري الموجة لمشركي قريش بعدم التخلي عن النبي (صلى الله عليه وآله) لتأكيد المعنى في أذهانهم وهو يطرق أذهانهم بنغمة التحدي، فأفادت الوحدة التركيبية للتكرار زيادة في المعنى الذي أدى إلى زيادة في نغم الإيقاع المساير للوزن.

ونشهد في القصيدة نفسها التكرار بعبارة أطول في صدر البيت وعجزه، وهو تكرار لا يخل في المعنى وانما يؤكده ويعبر عن ارادة الشاعر في التعبير الخطابي الهجائي لبني كعب بن لؤي، فقال أبو طالب:

{من الطويل}

فَإِن تَكُ كَعبٌ مِن لُؤَيٍّ تَجَمَّعَت

 فَإِن تَكُ كَعبٌ مِن كُعوبٍ كَبيرَةٍ

فَلا بُدَّ يَوماً مَرَّةً مِن تَزايُلِ

فَلا بُدَّ يَوماً أَنَّها في مَجاهِــــلِ(80)

ردد الشاعر التركيب «إن تكُ كعبٌ...فلا بدّ يوماً» بكثافة دلالية تفصح عن نغمة المأساة المؤلمة، والخسارة الكبيرة التي ستحل يوما ببني كعب الذين اعتمدوا كثرة نفوسهم، وعلو شرفهم، فلابد من وقوعهم في شدائد لا يهتدون إلى الخروج منهـا ، ولابد من أنهم في جهل ان حاربوا نبي الله وعشيرته التابعين له ، فالتكــرار هنا ضرب مؤثـر يضفي ظـلالــه نغماً إيقـاعيــاً شـاحـبـاً في نفوس بني كعب ، إذا ما استحضر معناه في أذهانهم، وتعبيرا انفعاليا وجد فيه الشاعر متنفساً عما يجيش بخلده من ثورة نفسية تجاه المعاندين لرسالة السماء، وإيذاءهم رسول الله، بمعنى آخر ان هذا الترجيع التركيبي قد ساير الوزن ورسَّخ موسيقى الإيقاع الشعري بنغم مؤثر في أُذن السامع.

ويمنح تكرار الاسم في الصيغة الطلبية لاسلوب النداء قوة دلالية في التعبير عن العتاب في طلب الانصاف من الاكفاء على نحو ما يعاتب أبو طالب مطعِم ابن عدي الذي تخلى عن نصرة النبي وعشيرته، فقال أبو طالب من القصيدة نفسها:

{من الطويل}

أَمُطعِمُ لَم أَخذُلكَ في يَومِ نَجدَةٍ
....
أَمُطعِمُ إِنَّ القَومَ ساموكَ خُطَّةً

ولا عِندَ تِلكَ المُعظماتِ الجَلائِلِ

 ....

وَإِنّي مَتى أُوكَل فَلَستُ بآيلِ(81)

دأب أبو طالب في الترجيع التركيبي لاسلوب النداء «أمطعِم»؛ ليؤكد شدة عتابه لمطعم بن عدي من أبناء عمومته الأقربين.

فعندما تحالفت قريش على اخراج النبي وعشيرته من مكة إلى شِّعب أبي طالب عنوة، كان على مطعم وهو من اشراف رجال قريش وأبطالها أن يرد رجال قريش عن غيهم، فعاتبه أبو طالب عتابا قاسيا: انا لم أخذلك في جلِّ شدائدك، ولكن خذلتني حيث لا اجدك عند الأمور الجلائل.

فترديد الخطاب باسلوب النداء له وقع مؤثر في نفس السامع، ولكي يحقق الشاعر تواصلا في الكلام في البيت اللاحق أكد التكرار زيادة في المعنى وترسيخا لنغم الإيقاع التركيبي المساير للوزن، وهو اسلوب معروف في التراث الشعري الجاهلي(82) .

وكرر أبو طالب الجملة الاسمية إلى جانب اسلوب الاستفهام في قصيدته الدالية التي يفخر بقومه فقال :

{من الطويل}

مَتى شركَ الأَقوامُ في جُلِّ أَمرِنا

وَكُنّا قَديماً لا نُقِرُّ ظُلامَةً

فَيا لَقُصَيٍّ هَل لَكُم في نُفوسِكم

وَكُنّا قَديماً قَبلَها نُتَوَدَّدُ

وَنُدرِكُ ما شِئنا وَلا نَتَشَدَّدُ

وَهَل لَكُمُ فيما يَجيءُ بِهِ الغَدُ(83)

وقع التكرار التركيبي «وكنا قديما» في أول عجز البيت الاول وصدر البيت الثاني؛ ليقوي نغمة الافتخار في عدم مشاركة الناس لهم في امورهم العظيمة، ورفضهم للظلم، وازالته من غير عنف.

إنَّ تناوب الوحدة الصوتية «نا» ضمن التركيب منحت الخطاب الشعري رنة موسيقية موحية، كثيفة الدلالة في مسامع بني قصي، فعاد الشاعر مرة أُخرى وردد باسلوب الاستفهام في حشو البيت الثالث وأول عجزه «هل لكم في» تأكيدا في اثراء الجملة بالنغم الإيقاعي الذي كانت له فاعلية في تصنيفها إلى العرض الطلبي بشدة: ألا ترغبونَ بالحفاظ على نفوسِكم وارواحكم؟ وألا تسعون إلى اتباعِ محمد حفاظاً لغدكم؟

فلوّن الشاعر موسيقى الخطاب بجرس إيقاعي مساير للوزن ومؤثر في آذان السامع. ويلجأ أبو طالب الى التكرار لتأكيد حقيقة نبوة ابن اخيه في خطابه لأبي جهل فقال:

{من الكامل}

صدق ابنُ آمنةَ النبيُّ محمَّدٌ

إن ابنَ آمنةَ النبيَّ محمّداً

فتميّزوا غيظا به وتقطّعوا

سيقومً بالحقِّ الجليِّ ويصدعُ(84)

تناوب في صدري البيتينِ عبارة «ابن آمنةَ النبي محمد» تناوبا متقصداً؛ لاثبات صدق نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) التي كانت سبباً لملء نفوس الكافرين غيضا، وهي تكاد تنفصل بعضها عن بعضٍ، فأكسب التكرار قيمة تعبيرية في تكثيف صورة شدة الغيض من خلال تسليط الضوء على الوحدة التركيبية التي شغلت تفعيلات الشطر، وان الإيقاع المتولد منه ذا وقع في أذن السامع لتوالي الحركات والسكنات على نحو منتظم في كل تفعيلة من الشطر التي تمثل وحدة الإيقاع في البيت مما أدى إلى زيادة في نغم الإيقاع المساير للوزن.

ويحسن بنا أن نومئ إلى أن تكرار اسم السيدة آمنة يكشف عن الباعث النفسي في عناية الشاعر في التعبير عنها؛ لبيان مكانتها؛ وهذا لا ريب فيه، اذ منها خرج نور النبوة.

جـ ـ تكرار المعنى:

ورد تكرار المعنى أقل من الألفاظ، «فاكثر ما يقع التكرار في الألفاظ دون المعاني» (85) ؛ لأن الشاعر يلجأ إليه بحسب الرخصة الممنوحة له، ويقع في المقطع الأخير الذي يرمز إليه بالقافية(86) ، ليحقق قوة في جرسها الإيقاعي في ذهن السامع، وكثافة في دلالتها، ويلجأ الشاعر إلى استعمال اللفظ المرادف، لتأكيد المعنى المقصود، وكأنه استعمل معنى اللفظ المرادف بالوظيفة نفسها التي أفادها اللفظ المكرر، وقد ورد هذا الاستعمال في القرآن الكريم(87) ، والشعر العربي(88) على السواء، ومما جاء في شعر أبي طالب في قصيدته اللامية بعد أن تعوذ بالله، وبحق البيتِ الحرامِ وبالحجر الأسودِ(89) قال:

{من الطويل}

ومَوْطىء إبراهيمَ في الصَّخرَ وطْأةً

 

على قَدَميهِ حافياً غيرَ ناعلِ(90)

تعوذ أبو طالب بمحل اقدام النبي إبراهيم (عليه السلام) في الصخر، وأكد بتكرار الوحدة الترجيعية اللفظية بالمُشتَق «المفعول المطلق»، «وطأةً»؛ ولتوضيح صورة موطىء النبي إبراهيم، فقال : «حافياً» فجردهما من النعال، ثم أردف بوحدة لفظية مرادفة فقال«غير ناعل»؛ لبيان الحال التي كانت عليها قدماه واثرهما في الصخر، فأفاد تناوب لفظ المعنى المرادف كثافة دلالية في كلام الشاعر المقصود؛ ليستثير اسماع مشركي قريش باستعاذته بموطىء إبراهيم الخليل (عليه السلام)؛ ليتعاظم في نفوسهم أمر مقاطعتهم لبني هاشم في الحصار المفروض عليهم في شِّعب أبي طالب، مبالغة منه في هذا الأمر، ومن ثمَّ أفاد تكرار المعنى المرادف تقوية جرس القافية؛ لوقوعه من البيت مكان القافية.

وقال أبو طالب في القصيدة نفسها، منذرا آل قصي الذين تحالفوا على المقاطعة بالخذلان والذل:

{من الطويل}

فَأبلِّغ قُصَيّاً أَن تَنَشَّرَ أَمرُنا

وَبَشِّر قُصَيّاً بَعدَنا بِالتَّخاذُلِ(91)

ذكر الشاعر اللفظين «أبلغ، وبشر» وهما معنيان متقاربان يدلان على الابلاغ، وابلاغ الخبر اما أن يكون خيرا أو شرا، فلما كان آل قصي من المناهضين لبني هاشم فقد طلب أبو طالب من المرسل ابلاغهم بالشر في طلب الدم، وابشرهم بالخذلان والذل بدلالة اللفظ الواقع مكان القافية «بالتخاذل» فكان تكرار لفظ المعنى الثاني من باب التهكم؛ ليستثير الشاعر أذهان آل قصي بهذا المعنى المقصود مبالغة منه، فيهز نفوسهم بهذا التهديد، وهو يردد «قُصياً» زيادة لتأكيد المعنى.

إن تناسب الألفاظ واستواء دلالاتها أفادت زيادة في المعنى المطروق، وأدت الوظيفة نفسها فيما لو كرر الشاعر اللفظ بعينه أو بأحد مشتقاته، ومن ثمَّ ان هذا النوع من التكرار يزيد النغم الإيقاعي لتفعيلة الوزن، فضلا عن أنَّه يبرز مقدرة الشاعر الابداعية في صناعة فن الشعر.

 

التدوير:

يعد التدوير أحد عناصر البناء الموسيقي للغة العمل الشعري في محاولة من الشاعر على فتح صدر البيت على عجزه، فهو «ما كان قسيمه متصلا بالآخر، غير منفصل منه، قد جمعتهما كلمة واحدة» (92) ، فامتداد البيت واندماجه خرق لاستقلالية الشطرين على المستويين: الصوتي والدلالي ، على حين يبقى كل شطر محتفظا بقيمته الوزنية بما يحتويه من عدد التفعيلات التي اقتضتها طبيعة البحر المنجز(93) .

ويلجأ الشاعر إلى التداخل بين شطري البيت؛ ليتيح مجالا موسيقيا أرحب يمكن من خلاله تكرار الوحدة الموسيقية سواء أكانت ذات تفعيلة واحدة (مفردة)، أو ذات تفعيلتين (مركبة)، فيتيح امتداد البيت تلاحما دلاليا على مستوى الفكرة التي بصدد الحديث عنها، فيكون دمج الشطرين معا معينا في التعبير عما يجول في خياله من دون ان يقف شطر البيت وعجزه حائلا بينه وبين ما يريد، فلا يقف في انشاده آخر صدر البيت، وانما ينشده بنفس واحد حتى يقف على القافية؛ لأنّه يلاحق الدلالة الموزعة بين الشطرين، فيحدث هذان زخما إيقاعيا لا يتوافر عند انشاد البيت غير المدور، فيكون الدمج بين الشطرين قد استوعب المعنى المراد ذكره، فيمنح هذا الاندماج النص ثراءً موسيقيا ودلاليا في آن معا، ومن هنا تظهر أهمية التدوير بوصفها انجازا إيقاعيا للشاعر لايقل عن كونه انجازاً دلالياً. وتعتمد الفاعلية الشعرية لظاهرة التدوير على احاسيس الشاعر أزاء تجربته الشعرية، وعلى امكاناته الاسلوبية في التعبير، وهي مرهونة بـ«ضرورات موضوعية وفنية» (94) .

وردت ظاهرة التدوير في شعر أبي طالب في جزء من مقطع، أو قصيدة كاملة(95) بحسب تجربته الشعرية المنجزة، ونجد هذه الظاهرة الأدبية في البحور ذات التفعيلتين أكثر منها في البحور ذات التفعيلة الواحدة.

فقد سُجلت حالتان لهذه الظاهرة الإيقاعية في البحور الصافية، تشكلت في مجزوء البحرين: الرمل والكامل، على حين سجلت في القصائد والمقطوعات ذات التفعيلة المركبة سبع مرات منظومة في البحرين: الخفيف والمتقارب، ويبدو أنَّ الوحدة الموسيقية في البحور ذات التفعيلتين تتطلب من الشاعر تكرارهما معا بوصفها وحدة موسيقية، فهي لا تتيح للشاعر الحرية الكافية والمرونة اللازمة في التعبير عما يجول في خاطره، فيلجأ إلى دمج الشطرين معا ومدهما بنفس واحد ليقف في آخر البيت، وليمنح الأبيات ما تحتاجه من عمق وتلاحم دلالي، وتلوين موسيقي في بناء النص.

إن نظرة متأملة في شعر أبي طالب تكشف عن قدرته وبراعته التي تتماشى والتشكيل الإيقاعي المدور، وافصاحه عن المضمون الذي ينشده، ليبرز التدوير شكلا متجانسا مع الدلالة المرادة، وموسيقى البيت، على نحو ما نجده في المقطع الآتي من فخره بذاته:

{من مجزوء الرمل}

أنا يومَ السِّلمِ مُكْفِـ

انا للحمسةِ أنفٌ

 

ـيٌ ويومَ الحربِ فارِسْ

حين ما للحُمْسِ عاطـــسْ(96)

اتاح التدوير للشاعر المرونة في استعماله في البيت الاول، وان عزوفه عن دمج الشطرين في البيت الثاني لايعني أنه لم يحقق اندماجا صوتيا ودلاليا للبيت، وانما يتحقق من خلال الانشاد، أو بفعل قراءة القاريء بنفس واحد ليقف عند القافية، فيتضح التواصل بين الشطرين، ووجد الشاعر في مجزوء الرمل ذي التفيعلة الواحدة الحرية الكافية في احكام الصلة في البيت لخفته؛ وذلك بقطع عروض البيت وضربه، ودمج الشطرين معا، ليزيد من تلاحم البيت موسيقياً ودلالياً.

وإن افساح امكانات الضرورات العروضية أباحت للشاعر استعمال «الخبن» في تفعيلة «فاعلاتن» وهو حذف الالف لتصبح «فعلاتن»، وهو أمر «مستحسن» (97) فحقق تمايزا موسيقيا فضلا عن التمايز التعبيري الذي افصح عن قوة انفعال الشاعر التي تبرز مع حركة النفس «أنا...فارس»، «أنا...أنفٌ» وهو يفخر باقدامه في الحرب في شجاعته وفروسيته.

ويقتضي أن نوضح أن استعمال مجزوء بحر الرمل الذي انماز بالسهولة والليونة(98) ، وبما يمتلك من مقومات الخفة في الاستعمال، اقترن بظاهرة التشكيل الإيقاعي المدور، فالشعراء كانوا يستخفونه في البحور القصيرة والمجزوءة(99) .

وتظهر واقعية التشكيل الإيقاعي المدور في كسر رتابة الشطرين واثراء الإيقاع بالقيمة الصوتية والدلالية المتولدة من الأبيات التي يخاطب فيها أبو طالب أخاه أبا لهب وبني هاشم جميعا، فقال:

{من الخفيف}

قُل لِعَبدِ العُزّى أَخي وَشَقيقي

 وَصَديقي أَبي عِمارَةَ وَالإِخـ

إنْ يكن ما أتى به أحمدُ اليو

 فَاِعلَموا أَنَّني لَهُ ناصِرٌ دهـ

 فَاِنصُروهُ لِلرحمِ وَالنَّسَبِ الأَد

وَبَني هاشِمٍ جَميعاً عِزينا

وانِ طُرّاً وَأُسرَتي أَجمَعينا

مَ سناءً وكان في الحشرِ ديْنا

ر وَمُجِرٌّ بِقَوْلَتي الخاذِلينا

نى وَكونوا لَهُ يَداً مُصلِتيــنا(100)

استعمل أبو طالب في هذه القطعة ظاهرة التدوير أكثر من سابقتها، فقد ارتبط التدوير بحاجات نفسية ملحة في الاداء الشعري ذات الصلة القوية بالتقنيات الفنية والموضوعية،وعمق احساس الشاعر أزاء تجربته الشعرية.

فمن الناحية الفنية استعمل الشاعر في البناء الموسيقي بحر الخفيف، وفيه «جزالة ورشاقة» (101) .

وتوظيف ظاهرة التدوير فيه «دليل على القوة» (102) وهو يتكون من تفعيلتين «مركبة» فاعلاتن مستفعلن... وقد اتاحت له كثرة استعمال الزحافات السيطرة على البحر، واضفت على النص مزيداً من النغمِ الموسيقي المؤثر.

واستعمل الشاعر الوانا من تقنيات اللغة الفنية التي لوَّنت امتداد الأبيات بمزيد من الحركة والحيوية، فكثرة ورود حرفي العطف: الواو الذي يفيد الترتيب والجمع، والفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب مع التراخي(103) ، أي أن تكون هناك مهلة زمنية بين المتعاطفين لتمنح القارئ فسحة من الزمن ليستريح بهذه الوقفات الخفيفة وراء كل جملة بعد التدافع العروضي المتشابك فيها.

ولجأ الشاعر أبو طالب إلى التضمين ليحكم الصلة بين الأبيات «إن يكن...فاعملوا... »؛ ليوفر تلاحما منسجما وعميقا في المعنى، وهو يستتبعها بحركة الأصوات الممتدة إلى آخر القافية .

اما من الناحية الموضوعية فقد ارتبطت بالحركة النفسية وبرزت فيها انفعالات الشاعر في الخطاب الذاتي «أخي، شقيقي، صديقي، أسرتي، إنني، ناصر، دهري، ومجرٍ بقولتي» بإيقاعات متساوقة مع موضوع النص في الطلب من أخيه وخاله وأُسرته، وبني هاشم جميعا، أن يكونوا يدا واحدة في نصرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فالكلمتان «ناصر» و«أنصروا» المحور الذي يدور عليهما مضمون النص الشعري المطروح؛ لأن الحياة العربية فرضت على الواقع الاجتماعي الحماية والنصرة، لصلة الرحم أو لقرابة النسب، أو لاعتبارات أُخرى.

إن بثّ هذه الفكرة التي ينشدها الشاعر بنفس واحد، والوقوف عند آخر البيت تتواءم مع خرق رتابة إيقاع البيت.

وقدم أبو طالب من خلال هذا التمايز الإيقاعي والتعبير الفني انجازا شعريا غنيا في لغته الإيقاعية والتعبيرية التي استوعب تجربته الآنية .

 

الضرائر :

الضرائر الشعرية، هي عملية خرم رتابة القواعد والمعايير اللغوية والنحوية والعروضية وغيرها التي تواضع عليها اللغويون والنحويون والعروضيون في آخر القرن الأول الهجري، وبداية القرن الثاني الهجري، فقد تشكلت طبقة من العلماء المهتمين بلغة التنزيل، فعملوا جاهدين فيما بعد على تخريج ما يخرق نظام قواعدهم ومعاييرهم التي تواضعوا عليها، ولحل اشكالية هذه الخروقات قالوا بالرخصة والجواز والضرورة.

وعلى الرغم من اختلاف مواقف ارائهم من الضرائر الشعرية(104) ، إنهم يتفقون على أن الشعراء يلتجأون إلى استعمال الضرائر لما كان الشعر «كلاما موزونا يخرجه الزيادة فيه والنقص منه عن صحة الوزن، ويحيله عن طريق الشعر، أجازت العرب فيه ما لايجوز في الكلام، اضطروا إلى ذلك أم لم يضطروا إليه؛ لأنه موضع ألفت فيه الضرائر» (105) ، ويفسر هذا الكلام ان الشعر نفسه ضرورة. وان الشعراء الجاهليين والذين أتوا من بعدهم لم يكونوا مضطرين لاستعمالها، وانما قصدوها قصدا؛ لأنهم لم يعرفوا القواعد والمعايير التي تقنن اللغة، فالشاعر يستعمل حقاً من حقوقه عند نظم الشعر في اتمام المعاني التي اقتضتها طبيعة التجربة الشعرية المنجزة، وفي اقامة الوزن والقافية والموجَّه في ذلك كله حالته النفسية ساعة ابداعه الشعري.

وحمل الشعراء على استعمال حقوقهم هذه في لغتهم الشعرية بسبب «المضايق التي يدفعون إليها عند حصرة المعاني الكثيرة في بيوت ضيقة المساحة، والاحراج الذي يلحقهم عند اقامة القوافي التي لا محيد لهم عند تنسيق الحروف المتشابهة في أواخرها، فلابد من ان يدفعهم استيفاء حقوق الصنعة الى عسف اللغة بفنون الحيلة»(106) فصناعة الشعر تقتضي التغيير والتبديل والحذف والزيادة في ابنية الكلمات.

وبما أن الشاعر مبدع يريد لابداع فنَّه الشعري الذروة في أفانين القول، فانه يوجه عنايته باغناء لغته الشعرية بالمعاني والصور والأخيلة، واثرائها بكل ما هو جميل ومبدع ليصل بعمله الشعري القرب إلى الكمال، فيلجأ إلى ممارسة حقه في انجازه؛ لأنه يجد أن قوانين اللغة تعوقه عن ايراد هدفه في استيفاء المداليل؛ لأن «غرضه ايراد المعنى الحسن في اللفظ الحسن» (107) المتساوقة مع وزن موسيقى نظام القصيدة، أو المقطع، وهذا دليل على عدم التعارض بين حقوق الشاعر وبين التعبير الشعري الذي يراها بعض الباحثين(108) المهتمين بشؤون اللغة خلاف القواعد، انه دليل على ضعف موهبة الشاعر في مقدرته اللغوية.

إن ما يسمى بالضرائر هي من خصائص اللغة الشعرية الفنية الخاصة التي انمازت بها العربية(109) ، واحدى مكونات بنية لغة الشعر، وكل ما ورد من كسر لقيود القواعد والمعايير اللغوية والنحوية والعروضية هو حق من حقوق الشاعر الذي يتمتع به في استعماله للغته الخاصة من ألفاظ وتراكيب ومعانٍ ، يتصرف في أفانين الكلام كيفما شاء على وفق قوانين النظم الشعرية؛ لأن «الشعراء أُمراء الكلام يُصرّفونه أنى شاءوا، ويجوز لهم ما لايجوز لغيرهم من اطلاق المعنى وتقييده ومن تصريف اللفظ وتعقيده ومد المقصور وقصر الممدود والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته واستخراج ما كلَّت الالسن عن وصفه ونعته والاذهان عن فهمه وايضاحه، فيقرّبون البعيد ويبعدون القريب ويُحْتَجّ بهم ولا يُحتج عليهم» (110) .

وفي ضوء ذلك لم تسلم دواوين الشعر الجاهلي والإسلامي في قصيدة من بيت أو أكثر من لفظ أو معنى أو نظم أو ترتيب أو تقسيم أو إعراب وغيرها، من قدح، ولكن أهل الجاهلية جدوا بالتقديم، واعتقد الناس فيهم انهم القدوة والاعلام والحجة، وان الاعتقاد الحسن في الحمل على التجويز ستر عليهم، ونفي الظنة عنهم(111) ، ومن الضرائر الشعرية التي وردت في شعر أبي طالب الخاضعة لسلطة الوزن والقافية التي اعتمدها الشاعر بوصفها حقا من حقوقه خاضعة لقانونه الشعري على وفق النظم المرسومة لعمله الشعري ضمن المستويات المختلفة: الصوتية، والتركيبية، والدلالية، والخطية وغيرها التي لاتخلو منها قصيدة في شعره.

ومنها «ترخيم الاسم في غير النداء، إجراء له مجرى النداء عند الاضطرار إلى ذلك. وهو جائز باتفاق من النحويين على لغة من لا ينوي رد المحذوف، بل يجعل ما بقي من الاسم كاسم غير مرخم... واختلفوا في الترخيم على لغة من نوى رد المحذوف» (112) وليس ذلك خاصا بالنداء، وكان عليهم ان يبينوا ان الشعر لغة فنية خاصة، وان الشاعر يلجأ إلى الترخيم في حذف حرف أو اكثر من اسم العلم لمقتضيات نفسية وفنية تتطلبها المستويات الالسنية ساعة ابداعه الشعري، نحو قول أبي طالب:

{من الطويل}

وَحَيثُ يُنيخُ الأَشعَرونَ ركابَهُم

بِمُفضى السُيولِ مِن إِسافٍ وَنائِــلِ(113)

رخَّم الشاعر «نائلة» فاسقط الحرف الأخير؛ لأنه واقع تحت سلطة قافية القصيدة اللامية؛ لمناسبة حرف روي القصيدة التي تم له نظم القافية للبحر الطويل ذي الضرب المقبوض «مفاعلن //5//5» بحرف اللام، فاستغنى عن الحرف الأخير؛ ليوازي بين عروض الشطر الأول من البيت، وضرب الشطر الثاني منه، فهذه المرونة في الاستعمال من بنية لغة الشعر وخصائصه، ونحو ذلك من القصيدة نفسها الاجتزاء بالكسر عن الياء، فقال أبو طالب في وصف الإبل:

{من الطويل}

تَرى الوَدعَ فيها وَالرُخامَ وَزينَةً

بِأَعناقِها مَعقودَةً كَالعَثاكـــــِلِ(114)

ذكر الشاعر «العثاكل: أراد العثاكيل فحذف الياء ضرورة» (115) ، وهو جمع «عِثْكال وعَثْكول...:العِذْق» (116) ، وانما اجتزأ الشاعر بالكسر عن الياء للمجانسة، وحذف الياء ليستوي وزن تفعيلة الضرب الثاني من البحر الطويل ذي الضرب المقبوض التي نظم بها الشاعر القصيدة، فلو قال: العثاكيل، لكان الضرب على وزن مفاعيلن وليس بالجائز أن يأتي الشاعر في قصيدة واحدة من ضربين: «مفاعلن//5//5، ومفاعيلن//5/5/5» فحذف الياء لتكون الأبيات كلها على ضرب واحد «مفاعلن» وهذه الضرورة من لوازم بنية اللغة الشعرية.

ومنه اضمار الجازم وابقاء عمله، نحو قول أبي طالب في مدح الرسول:

{من الوافر}

مُحَمَّد تَفدِ نَفسَكَ كُلُّ نَفسٍ

 

إِذا ما خِفتَ مِن شَيءٍ تَبالا(117)

أراد الشاعر «لتفدِ» فاضمر لام الأمر وهذا قبيح عند النحاة(118) وليس لي ان اقول بالرخصة في الذهاب إلى التأويل؛ لازالة ما مرَّ في وصف النحاة من تقبيح هذا اللون من الحذف؛ لأنَّه لم يمر في خلد الشاعر هذا الأمر، فعندما نذهب إلى التأويل نريد الوصول إلى حلِّ هذه القضية، انما لجأ الشاعر إلى الحذف؛ لانه أمن اللبس في المعنى، ولقبول الأُذن العربية لهذا النوع من الخروج في موسيقى الشعر وهو ما ينبغي أن يُسمح للشاعر به، ويهم الشاعر مطابقة كلامه للاستعمال المطَّرد للغته إلا في المواطن التي يقرر ان يخرج عليها بالرخصة الممنوحة له، فهو يخاطب رسول الله محمد(صلى الله عليه وآله) «تَفدِ نَفسَكَ كُلُّ نَفسٍ... » فكأن الشاعر صانع للغته الشعرية يقوم ببنائها كما بدا له من الأجود والأصوب والأفضل، وهذا ما لم ينتبه إليه النحوي؛ لأنَّه معنى بقواعد النحو ومعاييرها، والتمسك بها من دون التفكير بالخروج عنها حتى لو أقتضت الضرورة لذلك.

ويلجأ الشاعر بادراكه الفني إلى ابدال حرف من حرف آخر، ليحرك ساكناً، أو يسكن متحركاً(119) مسايرة لتفعيلة الوزن، أو القافية، ومنه ابدال الألف من الهمزة نحو قول أبي طالب في منعه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) :

{من المتقاربل}

ولكن اسيرُ لهم سامتاً

 

كما زارَ ليثٌ بغيلُ مَضِـــــيقِ(120)

أراد الشاعر «زأر» فابدل الالف من الهمزة؛ لأن الهمزة متحركة والألف ساكن مراعاة لسلامة الوزن «فعولن//5/5» «كما زا» للبحر المتقارب من دون الاخلال بوزن أول عجز البيت.

وتسهيل الهمزة من خصائص لغة قريش، وهي من الأصوات الشديدة؛ لأن مخرجها المزمار نفسه ولا عمل للوترين الصوتيين معها، فأهل البادية يخففونها في النطق ليجعلونها واضحة تتناسب مع سماع الاذن على مسافة قد تختفي فيها الأصوات المهموسة،وأهل الحضر يسهلونها لتتناسب مع خفض الصوت وانسجامها مع طبيعة تحضر البيئة(121) .

وعلى الرغم من أن لغة قريش لغة حضرية تمتلك خصائص اللغة الأدبية المشتركة التي نزل بها التنزيل الحكيم، كان تسهيل الهمزة من خصائص لغتها التي مال الشاعر أبو طالب إلى النطق بها؛ لأنها من مزايا لغته القرشية التي تنسجم مع بيئته وطبيعته اللهجية. ولا يخفى أن الهمزة اشد في الميزان الصوتي من الالف، وهي رخصة منحت للشاعر سواء أكان قرشيا أم غير قرشي.

ومنه أيضاً ابدال الياء من الهمزة، فقال أبو طالب في القصيدة الرائية عندما افتقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وظن أن قريشا اغتالته:

{من الوافر}

كأن الأفُقَ محفوفٌ بنارٍ

 

وحولَ النّار آسادٌ تزيــــــرُ(122)

أراد «تزأر» وانما ابدل الهمزة ياء؛ ليسوغ تحريك الراء وتسكين الياء لسلامة وزن قافية البحر الوافر ذي الضرب «فعولن//5/5» في القصيدة الرائية التي يتناوب فيها الردف الواو تارة، والياء تارة أُخرى؛ لتوافق قوافي القصيدة كلها.

وقد يعمد الشاعر على ابدال حركة من حركة أخرى على نحو تسكين الحرف المتحرك «الميم» الذي من حقه الضم، نحو قول أبي طالب:

{من الطويل}

وَحَطمهمُ سُمْرَ الرِّماحِ مَعَ الظُّبا

وَإِنفاذُهُم ما يَنتقي كلُّ نابِــــلِ(123)

أراد الشاعر «سُمُر» وانما لجأ إلى تسكين حرف الميم لاقامة وزن البحر الطويل في صدر البيت «فَعُوْلُ//5 ـ مَفَاعِلُنْ //5/5/5... »، «حطمـ/هموسُمْرَ ر/...» فضلا عن استعمال الشاعر حق من حقوقه في اقامة الوزن، فاشبع حرف الميم بالحركة في لفظ «وَحَطْمِهمُ» فهذا الوعي الحسي لأذن الشاعر بحسن صحة الوزن لموسيقى البيت شيء من تمام لوازم لغة الشعر.

ويدخل ضمن حقوق الشاعر في ابدال حركة من حركة أخرى، ابدال الكسر من السكون: أي تحريك الساكن، نحو قول أبي طالب:

{من الطويل}

وكَلا لَعَمْرُ اللهِ لا تُخْرِجُوننا

 

ونخرُجُ من حَقَّاتها لم نُقاتِـــلِ(124)

عمد الشاعر إلى ابدال حركة الاعراب السكون بالكسر في لفظ «نقاتل» ومن خصائص حرف «لم» اذا دخل على الفعل المضارع احدث في حركة آخره القطع فيجزم الفعل وعلامة جزمه السكون، وقد لجأ الشاعر إلى كسر آخر الفعل «اللام» لمناسبة حركة الروي في القصيدة اللامية المكسورة، ولمناسبة تفعيلة وزن ضرب البيت «مفاعلن//5//5» في بناء القافية للبحر الطويل، فسلامة القافية كانت وراء هذا الابدال الذي هو من ضرائر القافية. ويعني الشاعر بإبدال حركة من حركة لمناسبة معايير حركة روي القصيدة، نحو قول أبي طالب:

{من الكامل}

آهاً أُرَدِّدُ حَسرَةً لِفراقِهِ

إِذ لم أَراهُ وَقَد تَطاوَلَ باسِـــقُ(125)

اراد الشاعر «باسقا»، لانه حال، وانما رفع اخر اللفظ؛ لأن حركة الروي في القصيدة «القافية» مرفوعة، فمراعاة منه لمعايير الشكل البنائي المنجز لجأ إلى هذا التغيير في بنية حركة الحرف ، وهذا ما يلحظ في قصيدته البائية الساكنة(126) أيضاً.

وحملا على خصوصية اللغة الشعرية التي انمازت بها من غيرها من أصناف الكلام، فقدم الشاعر ما حقَّه التاخير؛ لإقامة الوزن والقافية، نحو قول أبي طالب:

{من الطويل}

بَكَيتُ أَخا لأواءَ يُحمَدُ يَومُهُ

كَريمٌ رُؤوسَ الدَّارِعينَ ضَروبُ(127)

الشاهد في قوله «رُؤوسَ الدَّارِعينَ ضَروبُ» حيث أعمل صيغة المبالغة «ضروب» فنصب بها «رُؤوسَ الدارِعينَ» فقدم المعمول على العامل، ولو قال: ضروب رؤوس الدارعين؛ لاختل وزن بيت البحر الطويل، فلجأ الشاعر إلى تأخير ما حقَّه التقديم؛ لإقامة الوزن والقافية.

وفي ضوء عرض الظواهر الإيقاعية يتبين ما يأتي:

شكلت الوحدات الترجيعية سواء أكانت لفظاً أم عبارة أم معنى في موسيقى الخطاب الشعري تأكيداً لوحدة احساس الشاعر الذي تعتريه ساعة ابداعه للعمل الشعري، وهو يلجأ إليها بحسه الفني لاقامة الوزن، أو لتقوية الجرس الإيقاعي للقافية التي يشترك المتلقي في توقيعها، أو لايضاح الدلالة وزيادتها، أو لتأكيد وحدة الصورة، على أن هذا الترجيع اللفظي، أو التركيبي، أو المترادف خاضع لطبيعة السياق في النص الشعري.

وتوجب طبيعة التجربة الآنية للشاعر ـ في بعض الأحايين ـ نظمها بالطريقة المدورة، وهي محاولة منه في الخروج عن اطار الإيقاع المحدد، ويعد التدوير جزءا من الحركة النفسية للشاعر التي تثري النص بالدلالة الوجدانية في وقت انخراط الشاعر مع مديات الإيقاع الواسعة والمنفتحة والشديدة المرونة، فيلغي فيها نظام الشطرين ويمد البيت بتشكيل صوتي متتابع وسريع الى آخره، فيحقق غنىً في الإيقاع، وان مد البيت بنفس واحد والوقوف على قافيته وهو ينشد بث الفكرة التي يعالجها الموضوع ضمن الإيقاع المنجز فيحقق غنىً دلالياً أيضا.

وان انخراط الشاعر وراء ما يسمى بالضرورة الشعرية؛ انما هو حق من حقوقه الممنوحة له في بناء صناعته الشعرية، وهي ناشئة من ضغط البناء الشعري المقيَّد بقيود الوزن والقافية وطرح الافكار التي لا يستوعبها القالب الشعري المحدد.

 

***

 

 

(1) قضايا النقد الادبي: 169.

(2) ظ: ميزان الذهب في صناعة شعرالعرب: 4.

(3) ظ:موسيقى الشعر (انيس): 59.

(4) منهاج البلغاء وسراج الادباء: 269.

(5) ظ: الديوان: 71- 85، 90- 92، 95- 96، 106- 108، 113- 114، 117- 120، 123- 125، 126- 128، 129، 136، 138، 139، 149، 150، 168، 177، 178، 183، 205، 211- 213، 222، 231، 234- 237، 245، 247، 251، 253- 254، 258، 259، 261- 262، 332، 334، 335، 339، 340، 341، 342.

(6) منهاج البلغاء وسراج الادباء: 269.

(7) ظ: الديوان: 87، 98، 101، 130- 131، 164- 165، 170، 184، 185، 209، 333، 339، 340، المستدرك في ملحق الاطروحة نفسها الرقمانِ ( 5،6).

(8) ظ: الديوان : 102- 103، 329، 330-331، 334، 338، الديوان (التونجي) : 25، وشعر أبي طالب وأخباره (مؤسسة البعثة): 89، والمستدرك في الاطروحة نفسها الارقام (1، 2، 4).

(9) منهاج البلغاء وسراج الادباء: 268.

(10) ظ: الديوان: 171- 172.

(11) ظ: موسيقى الشعر العربي (عياد) : 17.

(12) ظ: عيار الشعر: 5، كتاب الصناعتين: 157، 160، منهاج البلغاء وسراج الادباء: 275- 276، تنبه النقاد العرب القدامى إلى الوشيجة الوثيقة في ارتباط بناء القصيدة بالقافية على المستويين المعنى والمبنى.

(13) ظ: لزوم ما لايلزم (المقدمة): 1/37.

(14) شرح تحفة الخليل: 307.

(15) ظ: موسيقى الشعر (انيس): 248.

(16) من خصائصها ان الهواء ينساب بين اعضاء النطق عند التلفظ بها، فهي ليست من الأصوات الانفجارية ولا من الاحتكاكية الرخوة، وهي اللام والنون والميم والراء، ويضيف اللغويون المحدثون صوت العين إليها، ظ: الأصوات اللغوية: 24- 25، فقه اللغة العربية: 449- 450.

(17) العين: 1/58.

(18) الأصوات المجهورة: «هي تلك الأصوات التي تنقبض ـ عند النطق بها ـ فتحتة المزمار، فيقترب الوتران الصوتيان أحدهما من الآخر... هي: أ، ب، ج، د، ذ، ر، ز، ض، ظ، غ ، ل، م، ن، ي ، و»، فقه اللغة العربية: 441، ظ: الأصوات اللغوية: 20، فقه اللغة وخصائص العربية: 50.

(19) فقه اللغة العربية: 244.

(20) ظ: الديوان: 70، 87، 93، 97، 100،104، 106، 109، 113، 117، 121، 123، 126، 132، 136، 138، 149، 178، 180، 181، 184، 185، 207، 209، 224، 241، 242، 245، 335،337، 339، 341، 342، 343، المستدرك آخر الاطروحة: (2، 6).

(21) الديوان: 93- 94، البهاليل: السيد الجامع لكل خير، السّورة: السطوة، المقاول: مفردها مِقول: وهو الملك في اليمن.

(22) وهي عند النطق بها «يضيق معها مجرى النفس» الأصوات اللغوية: 23، والأصوات الشديدة هي: «الهمزة، والقاف، والكاف، والجيم، والطاء، والتاء، والدال، والباء» الكتاب: 4/434.

(23) ظ: الديوان: 88، 90، 95، 98، 99، 101، 111، 115، 129، 130، 134، 137، 139، 150، 158، 169، 183، 205، 208، 211، 220، 231، 239، 247، 274،323، 329، 330، 331، 333، 334، 3340، الديوان (التونجي): 25، شعر أبي طالب واخباره (مؤسسة البعثة): 89، والمستدرك في نهاية الاطروحة:(1، 2).

(24) الديوان: 211- 213، الراغية: الناقة التي ترسل رغاءها، السقب: ولد الناقة، الكماة: الابطال المدججون بالسلاح.

(25) ظ: الأصوات اللغوية: 23.

(26) «وهي تلك الأصوات التي لا ينحبس الهواء عند النطق بها انحباسا كاملا محكما...{وهي} السين والصاد والضاد والشين والذال والثاء والظاء والفاء والهاء والحاء والخاء والعين والغين» فقه اللغة العربية: 448.

(27) وهي اذا نطق بها رفع مؤخر اللسان الى الاعلى، وحروف الاطباق هي : الصاد والضاد والطاء والظاء، ظ: دراسة الصوت اللغوي: 279.

(28) في اللهجات العربية: 115.

(29) ظ: الديوان: 210، 246، 251، المستدرك في اخر الاطروحة : الرقم (3).

(30) ظ: الديوان : 251، نثيه: اشاعته واظهاره.

(31)«وهي تلك الأصوات التي ينفرج معها الوتران الصوتيان، مفسحين مجالا للهواء بأن يمر خلالهما... ويمكن جمعهما بعبارة حثه شخص سكت فقط»، فقه اللغة العربية: 443- 444، ظ: فقه اللغة وخصائص العربية: 50.

(32) ظ: الديوان: 87، 100، 101، 102- 103، 113- 114، 150، 169، 178، 183، 274.

(33) م.ن : 183.

(34) ظ: م.ن: 183.

(35) يتشكل من أحد حروف المد الساكنة الألف، أو الياء، أو الواو التي تسبق حرف الروي، ظ: مختصر القوافي: 24.

(36) ظ: الديوان: 87، 99، 100، 104، 132- 133، 134، 158، 177، 181، 207، 208، 209، 246، 330- 331، 340، 343، المستدرك في آخر الاطروحة: الارقام (3، 4، 6).

(37) الديوان: 132.

(38) ظ: م.ن : 111- 112، 121- 122، 149، 220- 221، 241، 242- 244، المستدرك في آخر الاطروحة: الرقم (2).

(39) الديوان: 121.

(40) ظ: موسيقى الشعر (انيس): 294.

(41) ظ: الديوان: 70- 85، 136،177، 205- 206، 224، 231، 247، 253- 254،258، 274، 329، 342، 339.

(42) الديوان: 231.

(43) نقد الشعر: 181، ظ: العمدة: 1/177، منهاج البلغاء وسراج الادباء: 283.

(44) الديوان: 239، ابو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد عمران بن مخزوم خال أبي طالب، وعبد الله والد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كان شريفا ممدَّحاً، لم تذكر سنة وفاته، ظ: السيرة النبوية لابن كثير: 1/277.

(45) ظ: الكافي في العروض والقوافي: 160.

(46) الديوان: 95، رأب: اصلاح الفساد.

(47) ظ: الكافي في العروض والقوافي: 162.

(48) ظ: فن التقطيع الشعري والقافية: 278.

(49) ظ: العمدة: 1/ 188.

(50) الديوان: 251.

(51) ظ: التفسير النفسي للادب: 77- 78.

(52) جرس الألفاظ ودلالالتها في البحث البلاغي والنقدي عند العرب: 239.

(53) قضايا الشعر المعاصر: 276.

(54) ظ: تمثيلا لا حصرا: ديوان قيس بن الخطيم: 71، 81، 130، ديوان الحارث بن حلزة : 13، 14، ديوان شعر الحادرة: 62، ديوان الخنساء: 313- 314، 325، 326، 327، 345، 346، 351، 365، 371، 413، 416.

(55) ظ: الديوان: 72، 74، 76، 77، 79، 82، 87، 91، 92، 94، 95، 99، 104، 107، 108، 112، 113، 115، 117، 121، 123، 124، 126، 127، 132، 134، 150، 167، 171، 178، 180، 184، 187، 189، 190، 192، 194، 205، 211، 215، 216، 220- 221،222،227، 229، 231، 236، 237، 238، 239، 243، 244، 247، 253، 255، 256، 259، 331، 332، 334، 336، 337، 338، 339، 340، 342.

(56) العمدة: 2/76.

(57) ظ: تاريخ اليعقوبي: 1/220.

(58) ظ: الديوان: 99.

(59) الديوان: 99.

(60) الديوان: 334.

(61) التبيين في أنساب القرشيين: 316.

(62) ظ: أنساب الأشراف: 1/133.

(63) ظ: جمهرة أنساب العرب: 2/319- 320.

(64) ظ: الديوان: 214.

(65) م.ن : 215، العرانين: السادات والأشراف.

(66) ظ: الديوان: 121.

(67) م.ن : 121، العديم: الاحمق الذي لاعقل له.

(68) ظ: فقه اللغة: 162.

(69) ظ: فقه اللغة وخصائص العربية: 49، الأصوات اللغوية: 24.

(70) اختلف النقاد في تسمية المصطلح، فقد سمّاه قدامة بن جعفر التوشيح،ظ: نقد الشعر: 167، وسمّاه أبو هلال العسكري رد الاعجاز على الصدور،ظ: كتاب الصناعتين: 429، وسمّاه ابن رشيق القيرواني التصدير، ظ: العمدة: 2/3، واخترنا التسمية التي في المتن لمناسبة ترديد اللفظ في حشو البيت وقافيته، أي « أن يكون أحدهما في آخر البيت، والآخر في صدر المصراع الأول، أو حشوه، أو آخره،أو صدر الثاني»، الإيضاح في علوم البلاغة: 2/543.

(71) الديوان: 229، ظ:م.ن: 184، 229.

(72) م.ن: 335، ظ:م.ن: 87، 95، 123، 229، 339.

(73) م.ن: 167، العرام: الشدة والقوة والشراسة، ظ: م.ن: 117، 121، 192، 235.

(74) م.ن : 243، ظ: م.ن: 187، 189، 205، 229.

(75) الديوان: 333.

(76) نقد الشعر: 80.

(77) الديوان: 220- 221.

(78) ظ: الديوان: 74، 79، 82، 91، 92، 95، 124، 150، 187، 194، 227، 232، 247، 339.

(79) م.ن: 74، البلابل: الوساوس.

(80) ظ: الديوان : 82، كعوبٍ: مفردها كعب وهو الشرف مجازا.

(81) الديوان: 79.

(82) ظ: تمثيلا لا حصرا: ديوان أوس بن حجر: 21، ديوان الخنساء: 313- 314، 416، ديوان عدي بن زيد العبادي: 102، 103- 104.

(83) الديوان: 92.

(84) الديوان: 339.

(85) العمدة: 2/73.

(86) ظ: المثل السائر : 3/36، الطراز: 2/182، 188- 190، يعاب الناظم على استعمال تكرار المعاني في صدور الأبيات الشعرية وما والاها، ولا يعاب على استعماله في الاعجاز؛ لأنه مضطر إليها، والمضطر يحل له ما يحرم على غيره، ظ: المثل السائر : 3/36، ، اسرار التكرار في لغة القرآن الكريم: 17- 20.

(87) ظ: المثل السائر: 3/15، 19- 20، اسرار التكرار في لغة القرآن الكريم: 14- 18.

(88) ظ: العمدة: 2/ 77- 80.

(89) ظ: الديوان: 71- 72.

(90) م.ن: 72.

(91)ظ: الديوان: 82.

(92) العمدة: 1/177.

(93) ظ: لغة شعر ديوان الحماسة لابي تمام (اطروحة): 158.

(94) دير الملاك: 330.

(95) ظ: الديوان: 94، 99، 100، 104، 207، 210، 223، 238، 333.

(96) الديوان: 210، الأنف المقدم، والعاطس: الأنف، الحمس: ابتدعت قريش في تسميتهم الحُمْس، وهو الشدة في الدين والصلابة في تعظيم حرمة البيت، ظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/348، الروض الأُنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام: 1/348، ظ: السيرة النبوية لابن كثير: 1/284.

(97) ميزان الذهب في صناعة شعر العرب: 68، الهامش.

(98) ظ: منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 269.

(99) ظ: العمدة: 1/178.

(100) الديوان: 100.

(101) منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 269.

(102) العمدة: 1/178.

(103) ظ: شرح ابن عقيل: 2/226- 227، معاني النحو: 3/ 211- 212، 225- 226.

(104) ظ: النقد اللغوي عند العرب حتى نهاية القرن السابع الهجري: 155- 171، فضاء البيت الشعري: 143- 148. (آراء علماء العربية)

(105) ضرائر الشعر: 7.

(106) التنبيه على حدوث التصحيف: 157- 158.

(107) المثل السائر: 1/55.

(108) ظ: الخصائص: 1/329، فقه اللغة وسنن العربية في كلامها: 157- 158، المزهر في علوم اللغة وانواعها: 2/ 498- 504، واتبع رأيهم أحد المحدثين، ظ: البناء الفني للملحمات في جمهرة اشعار العرب: 125.

(109) ظ: الضرورة الشعرية: 64.

(110) منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 143- 144، القول للخليل بن أحمد الفراهيدي.

(111) ظ: الوساطة بين المتنبي وخصومه: 4.

(112) ضرائر الشعر: 106- 107.

(113) الديوان: 71، الأشعرون: الحجاج الذين لم يحلقوا رؤوسهم، إساف ونائلة: صنمان.

(114) م.ن: 71.

(115) الروض الأُنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام: 2/19.

(116) ظ: لسان العرب: (عثك).

(117) الديوان (التونجي): 61، غاية المطالب في شرح ديوان أبي طالب: 177، وينسب البيت في خزانة الادب: 9/11 له وللأعشى أو لحسان، والشاهد المذكور ليس في ديوانهما.

(118) ظ: ضرائر الشعر: 117.

(119) ظ: م.ن: 173، وما يجوز للشاعر في الضرورة: 90.

(120) الديوان: 174، سامت: القاصد المتعمد، الغيل: عرين الأسد وموضعه.

(121) ظ: في اللهجات العربية: 65- 96، 99- 100.

(122) الديوان: 244.

(123) م.ن: 73، الضبا: مفردها ظبة، وهي حد السيف أو السنان، إنفاذهم: إفناؤهم، النابل: الضارب بالنبل.

(124) الديوان: 193، 332.

(125) م.ن: 340.

(126) الديوان: 115- 116.

(127) الديوان (التونجي): 21، اللأواء: الشدِّة.