فلاح
السائل
لابن طاووس
تأليف العالم العامل
العابد الزاهد رضي الدين أبي القاسم
علي بن موسى بن جعفر بن
محمد بن طاووس الحسني الحسيني
المتوفى سنة 664هـ
قدم له
العلامة السيد محمد مهدي
الخرسان
بسم الله الرحمن الرحيم
علم جم، وعمل صالح، ودعوة صادقة إلى الحقّ لا
يشوبها كدر ولا تعقيد.
زهد وورع، وعقيدة وإيمان، وتقوى وصلاح، واعتدال
في الحياة.
ذلك ما نقرأ في سيرة الإمام رضي الدين عليّ بن
موسى بن طاووس(رحمه الله) من أعلام القرن السابع الهجري، وإنّ من دواعي
الغبطة أن أتشرف بكتابة هذه السطور بين يدي كتاب من آثاره الخالدة
إجابة لطلب الأخ الشيخ محمّد كاظم الكتبي ـ سلّمه الله ـ ،فأضطر إلى
مراجعة تاريخه المجيد ومطالعة بعض كتبه لأتعرف على جوانب تلك الشخصية
الفذّة، فوجدته الداعي إلى الله بسيرته وأفعاله كما كان داعياً إليه
بقلمه وأقواله، ووجدته النموذج الصالح والمثل الكامل للعلماء العاملين
بما للكمال والصلاح من مفهوم، كما وجدته سيّداً بكلّ ما للسيادة من
معنى، سيّداً في نسبه، وسيّداً في حسبه، وسيّداً في علمه، وسيّداً في
عمله.
وقد كنت اُريد التحدّث عنه بما يتناسب وعظمته،
فقرأته في معاجم وتواريخ ومصادر اُخرى، ثمّ عكفت على آثاره فاستجليت
شخصيته منها، فكانت أهدى مرجع وأروى مصدر، كما كان هو فيها أصدق محدّث
وأوثق راوية، فكان من ذي وتلك دراسة مفصّلة استعرضت فيها الكثير من
نواحي حياته، كما تعرضت في أثنائها إلى اعطاء صورة عن أعلام اُسرته،
وأسهبت في البحث عن دراساته ومشايخه وتلاميذه وأسفاره وكراماته ومنهجه
العملي في الحياة وإعراضه عن زخرف الحياة، كما بحثت فتيا المستنصرية
وملابساتها وتوليه النقابة.
ثمّ بحثت منهجه العلمي في التأليف والتصنيف، مع
استعراض شامل لمؤلّفاته، وتعريف كلّ واحد منها بما تيسر، ثمّ ذكرت باقي
آثاره من مكتبته وشيء من شعره، وختمت ذلك البحث الوافي بذكر وفاته
وتحقيق مدفنه وذكر عقبه، فكان
شيئاً مفيداً ـ فيما أعتقد ـ لو اُعطيت الوقت الكافي لإكماله كما
اُريد، ولكن إلحاح الأخ الكتبي ـ سلّمه الله ـ في سرعة الإنجاز ليضع
الكتاب ـ وقد تمّ طبعه ـ في متناول القرّاء، فقد اضطرني إلى تقديم هذه
السطور معتمداً على دراستي تلك، فإن وفقت في استجلاء شخصية سيّدنا أمام
القارئ فذلك من فضل الله وحسن توفيقه، وإن تكن الاُخرى فهذا قدر
المستطاع وجهد المقل اُقدّمه، وما توفيقي إلاّ بالله وهو حسبي.
* * *
من البيوت العلوية الشامخة بعزها، السامي مجدها،
والّذين امتازوا في هديهم وسيرتهم وأخلاقهم (آل طاووس الحسنيون) فقد
تحدرت هذه السلالة الطاهرة من ذرّية الحسن السبط(عليه السلام) وارتقت
في نسبتها إلى جدّها أبي عبدالله محمّد الطاووس، وقد ذكروا في سبب لقبه
أ نّه كان حسن الوجه مليح الصورة إلاّ في قدميه(1)، كما ذكروا أ نّه
أوّل من تولّى النقابة بسورا، يوم كانت قاعدة البلاد الفراتية قبل
تخطيط الحلة المزيدية وخراب بابل(2).
وكان من رجال أواخر القرن الثالث أو أوّل الرابع
على التخمين، والعقب منه في ولده أحمد ومنه في جعفر وهو الّذي ذكره
الشريف النسّابة أبو إسماعيل في كتاب (منتقلة الطالبيين)(3) وفي ولده
الآخر محمّد وهو الّذي ذكره ابن عنبة في العمدة وغيره في غيره، وهو
الّذي ينتهي إليه نسب سيّدنا المترجم له فهو:
عليّ(4) بن موسى بن جعفر بن محمّد بن محمّد بن
أحمد بن محمّد المذكور بن أحمد بن محمّد الطاووس. وجعفر جدّ سيّدنا
المترجم له كان صهراً لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي (ت 460 هـ) على
احدى ابنتيه العالمتين ـ كما في الرياض وغيره ـ وللعلماء الباحثين حول
تحقيق هذه المصاهرة كلام طويل تعرضوا له في ترجمة سيّدنا ـ المترجم له
ـ وعند تحقيق قوله: قال جدي ويعني به الشيخ أبا جعفر المذكور، وقد
كفانا المترجم له عناء التحقيق بكشفه الواقع وتصريحه عن وجه هذه
المصاهرة حيث قال في كتابه الإقبال: «فمن ذلك ما رويته عن والدي
قدّس الله روحه ونوّر ضريحه فيما قرأته عليه من كتاب المقنعة بروايته
عن شيخه الفقيه حسين بن رطبة عن خال والدي السعيد أبي عليّ الحسن بن
محمّد عن والده محمّد بن الحسن الطوسي(رحمه الله) جدّ والدي من قبل
اُمّه...»(5).
ولادته:
كانت ولادة سيّدنا في يوم الخميس قبيل الظهر
للنصف من شهر محرم الحرام سنة (589 هـ) في بلدة الحلة السيفية(6)،
وكانت اُمه بنت الشيخ الجليل ورّام بن أبي فراس الحلي (ت 605 هـ) ولهذا
الشيخ الزاهد أثر كبير في تربية سبطه وتوجيهه، كما أنّ نشأته الاُولى
كانت بين أبويه وبين جدّه المذكور، وكان هؤلاء الثلاثة ثالوثاً مقدّساً
ـ إن صح التعبير ـ قال سيّدنا(رحمه الله) يحدّث عن نشأته الصالحة
بقوله:
(إنّ أوّل ما نشأت بين جدّي ورّام ووالدي ـ قدّس
الله أرواحهم وكمّل فلاحهم ـ وكانوا دعاة إلى اللهعز وجل، وطالبين لهعز
وجل، فألهمني اللهعز وجل سلوك سبيلهم واتباع دليلهم، وكنت عزيزاً
عليهم، وما أحوجني اللهعز وجل بإحسانه إليهم وإليَّ (إلى) ما جرت عليه
عادة الصبيان من تأديب لي منهم أو من اُستاذ بسبب من أسباب الهوان،
وتعلّمت الخطّ والعربية، وقرأت في علم الشريعة المحمّدية... وقرأت
كتباً في اُصول الدين)(7).
وقال عن دراسته:
(فانّني اشتغلت بعلم الفقه، وقد سبقني جماعة إلى
التعليم بعدّة سنين، فحفظت في نحو سنة ما كان عندهم وفضّلت عليهم بعد
ذلك بعناية ربّ العالمين ورحمته...
وقد كنت ابتدأت بحفظ الجمل والعقود، وقصدت معرفة
ما فيه بغاية المجهود، وكان الّذين سبقوني ما لأحدهم إلاّ الكتاب الّذي
يشتغل فيه، وكانت لي عدّة كتب في الفقه من كتب جدّي ورّام بن أبي
فراس... فصرت اُطالع بالليل كلّ شيء يقرأ فيه الجماعة الّذين تقدموني
بالسنين، وأنظر كلّ ما قاله مصنّف عندي، وأعرف ما بينهم من الخلاف على
عادة المصنّفين، وإذا حضرت مع التلامذة بالنهار أعرف ما لا يعرفون
واُناظرهم وأنشط في القراءة بسرور الإستظهار...
وفرغت من الجمل والعقود وقرأت (النهاية) فلمّا
فرغت من الجزء الأوّل منها، استظهرت على العلم بالفقه حتّى كتب شيخي
محمّد بن نما خطّه لي على الجزء الأوّل وهو عندي الآن بما جرت عادته
بكتبه على كتابي من شهادته في إجازته باُمور من الثناء عليَّ، اُنزه
قلمي عنها، لأ نّه لا يليق ذكر ثنائي على إجتهادي... فقرأت الجزء
الثاني من (النهاية) أيضاً ومن كتاب (المبسوط) وقد استغنيت عن القراءة
بالكلّية، وقرأت بعد ذلك كتباً لجماعة بغير شرح بل للرواية المرضية،
وسمعت ما يطول ذكر تفصيله، وخطّ من سمعت منه وقرأت عليه في إجازات وعلى
مجلدات)(8).
وأشار عليه جدّه ورّام بن أبي فراس بحفظ كتاب
(التعليق العراقي) لمؤلّفه سديد الدين محمود بن عليّ بن الحسن الحمصي،
وأحضر له نسخته بيده من خزانته، ومدح له الكتاب مدحاً كثيراً، وكان
عمره إذ ذاك نحو ثلاث عشرة سنة(9).
شيوخه:
وقد قرأ على عدّة مشايخ فسمع منهم، وقد أجازه
جلّهم أو كلّهم بإجازات أثنوا عليه فيها، وكتبوا بذلك خطوطهم على
مجلدات كانت تحويها مكتبته الغنية النفيسة، وإلى القارئ أسماء من عثرنا
عليه منهم:
1 ـ الشيخ الجليل الحافظ أبو السعادات أسعد بن
عبدالقاهر بن أسعد المعروف جدّه بسفرويه الإصفهاني، سمع منه عندما ورد
إلى بغداد في صفر سنة (635 هـ) وزار سيّدنا في داره الّتي أسكنه بها
الخليفة المستنصر في الجانب الشرقي، وكانت روايته عن هذا الشيخ رواية
شاملة للكتب والاُصول والمصنّفات(10).
2 ـ الشيخ تاج الدين الحسن بن الدربي، وروايته
عن هذا الشيخ أيضاً شاملة لكلّ ما رواه أو سمعه أو أنشأه أو قرأه، كما
في الدروع الواقية.
3 ـ الشيخ الصالح حسين بن محمّد السوراوي، وقد
أجازه في جمادى الآخرة سنة تسع وستمائة(11).
4 ـ الشريف كمال الدين حيدر بن محمّد بن زيد بن
محمّد بن عبدالله الحسيني وأجازه يوم السبت 16 ج 2 سنة 620 هـ(12).
5 ـ الفقيه العالم الفاضل سديد الدين سالم بن
محفوظ بن عزيزة بن وشاح السوراوي الحلي، قرأ عليه التبصرة وبعض كتاب
المنهاج(13).
6 ـ ابن شيرويه الإصفهاني حفيد شهردار بن شيرويه
الإصفهاني صاحب الفردوس(14).
7 ـ السيّد أبو الحسن عليّ بن الحسين بن أحمد بن
عليّ بن إبراهيم بن محمّد العلوي الجواني(15).
8 ـ الشيخ أبو الحسن عليّ بن يحيى الحنّاط،
أجازه بخطّه، وتاريخ إجازته شهر ربيع الأوّل سنة 609 هـ (16).
9 ـ السيّد السعيد شمس الدين فخّار بن معد
الموسوي، أجازه في العشر الأواخر من صفر سنة (616 هـ)(17).
وقد صرّح سيّدنا بأ نّه يروي بواسطة شيخه هذا
جميع مرويات الخليفة الناصر لدين الله العبّاسي.
10 ـ الوزير كثير القمي، وقد أذن له في أيّام
وزارته بالرواية عنه(18).
11 ـ السيّد العالم الفقيه أبو جعفر صفي الدين
محمّد بن معد الموسوي، روى عنه كتاب ابن الخشّاب المسمّى (مواليد
ووفيات أهل البيت وأين دفنوا)، وتاريخ روايته في العشر الأواخر من صفر
سنة 616 هـ (19).
12 ـ الشيخ نجيب الدين محمّد السوراوي(20).
13 ـ السيّد أبو حامد محيي الدين محمّد بن
عبدالله بن زهرة الحسيني(21).
14 ـ محب الدين محمّد بن محمود المعروف بابن
النجّار البغدادي (ت 643 هـ) صاحب كتاب (تذييل تاريخ بغداد)(22).
15 ـ الشيخ نجيب الدين محمّد بن نما، ولعلّه
أوّل من كتب له إجازة، وإجازته عامّة شاملة لجميع مروياته(23).
16 ـ والده سعد الدين موسى بن جعفر، أكثر
الرواية عنه في مصنّفاته.
تلامذته:
ليس من السهل الإحاطة التامة بتلاميذ سيّدنا فلا
هو يذكرهم في تصانيفه كما يذكر بعض شيوخه، ولا سجل يجمعهم فيريحنا من
عناء جمع أشتات من هنا وهناك، وإلى القارئ أسماء من عثرنا عليهم ممّن
روى عنه أو أجازه السيّد بالرواية عنه وهم:
1 ـ الشيخ الجليل يوسف بن المطهّر الحلي.
2 ـ ولده آية الله العلاّمة الحلي(24).
3 ـ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي(25).
4 ـ عليّ بن عيسى الاربلي مؤلّف (كشف الغمة)
صرّح بالسؤال من السيّد والإجتماع به في كتابه ذلك.
5 ـ السيّد غياث الدين عبدالكريم بن طاووس ـ ابن
أخيه ـ مؤلّف فرحة الغري وصرّح فيه بالرواية عن عمّه كثيراً.
6 ـ الشيخ محمّد بن أحمد بن صالح القسيني ـ
وأظنه القبيني نسبة إلى قبين من قرى الحلة ـ .
7 ـ إبراهيم بن محمّد القسيني السالف الذكر.
8 ـ جعفر بن محمّد القسيني المذكور.
9 ـ عليّ بن محمّد القسيني المذكور.
10 ـ الشريف أحمد بن محمّد العلوي.
11 ـ نجم الدين محمّد بن الموسوي.
12 ـ صفي الدين محمّد بن بشير، وهؤلاء السبعة
أشركهم السيّد المترجم له في إجازة واحدة كتبها لهم عام وفاته (664
هـ)، كما في إجازة الشيخ محمّد القسيني لابن طومان.
13 ـ النقيب صفي الدين محمّد المصطفى ـ ولد
المترجم له ـ لقبه ابن الطقطقي في الأصيلي بجلال الدين ورضي الدين
وقال: يلقّب بالمصطفى كان سيّداً جليلا زاهداً منقطعاً بداره عن الناس
ذا خبرة ورأي وكبر وترفع، كان بيني وبينه معرفة تكاد أن تكون صداقة،
عرض عليه النقابة صاحب الديوان ابن الجويني فامتنع، وكان يتولى نقابة
بغداد والمشهد فكفت يده عن ذلك، مات(رحمه الله).
14 ـ النقيب رضي الدين عليّ ـ ولد المترجم له ـ
وقد لقبه ابن الطقطقي في الأصيلي بنصير الدين نقيب بغداد يلقب بالمرتضى
وأبي القاسم، اُمّه زينب بنت أبي الحسين ابن أبي كتيلة علوية حسينية
زيدية وكان مقيم بغداد تولى نقابة الطالبيين من سنة ثمانين وستمائة.
15 ـ العلوية شرف الأشراف ـ ابنة المترجم له ـ .
16 ـ العلوية فاطمة ـ ابنة المترجم له ـ وهي اُم
السيّد عليّ بن عبدالكريم بن جمال الدين أحمد بن طاووس تزوجها ابن
عمّها السيّد عبدالكريم كما في النسب الأصيلي ورقة 32.
أجازهم أبوهم بإجازة عامة لجميع مروياته
ومصنّفاته(26).
لقد هاجر المترجم له عن وطنه الحلة ـ مسقط رأسه
وموطن آبائه ـ إلى مشهد الإمام موسى(عليه السلام) وذلك رغبة عن زهد
الإتصال بهم والمصاهرة معهم، ويمكننا تحديد تاريخ هجرته تلك وانّها
كانت في حدود سنة (602 هـ) لما مرّ بنا من حديث حفظه التعليق العراقي
بإلزام جدّه ورّام وعمره يومئذ 13 سنة، فيكون ذلك في سنة (602 هـ) لأنّ
ولادته كانت سنة (589 هـ)، ولما حدث به من رؤيته لكتاب عبدالسلام
البصري وقد رآه ببغداد سنة (603 هـ)(27) فتكون هجرته بين (602 هـ) و
(603 هـ) وهو في سن المراهقة دون الرابعة عشرة من عمره.
كما أنّه تزوج بكريمة الوزير ناصر بن مهدي
العلوي في ذلك التاريخ، وكان ذلك في أيّام وزارة الوزير المذكور للناصر
العبّاسي حيث وزّر له إلى سنة (604 هـ) فعزله الناصر وقبض عليه كارهاً
لاُمور اقتضت ذلك(28)، وبقى المترجم له ببغداد مدّة طويلة كما صرّح به
في حديث له قال: وتوجهت إلى مشهد مولانا الكاظم، وأقمت به حتّى اقتضت
الإستخارة التزويج بصاحبتي زهراء خاتون بنت الوزير ناصر بن مهدي رضوان
الله عليها وعليه. وأوجب ذلك طول الإستيطان ببغداد وهي محل حبائل
الشيطان(29).
وقد حددت هذه المدّة بنحو من خمسة عشر سنة،
ولعلّها كانت المدّة الّتي حبس فيها عمّه الوزير على نحو الإستظهار إلى
أن مات سنة (617 هـ) فأقام المترجم له ببغداد ثمّ عاد إلى الحلة.
وفي سنة (627 هـ) توجه إلى الحجّ وقد حدث عن
سفره ذلك في كتابه فلاح السائل، وكان حجّه في أيّام المستنصر العبّاسي
الّذي تولى الخلافة بعد الظاهر في سنة (623 هـ) وكان المستنصر كلفاً
بالمترجم له، وبينهما صداقة متينة وصلة وثقى، فقد أنعم عليه بدار
يسكنها ببغداد في الجانب الشرقي عند المأمونية في الدرب المعروف بدرب
الجوبة، وفي داره تلك زاره الحافظ أسعد بن عبدالقاهر الإصفهاني وحدّثه
بها وأجازه.
ولتأكد الصلة والمودّة بينهما رغب الخليفة في أن
يعهد إليه بمنصب الإفتاء على عادة الخلفاء، واجتهد في اقناعه فلم تنجح
مساعيه(30)، ثمّ عاد المستنصر فدعا المترجم له لتولي شؤون النقابة
العامة، وكانت الدعوة على يد الوزير محمّد ابن محمّد بن عبدالكريم
القمي (ت 629 هـ) فألح الوزير على سيّدنا بقبول ذلك المنصب الشريف فلم
يجبه إلى مطلبه وأبلغ الخليفة امتناعه، فتحمّل عليه بأكابر دولته وببعض
أصدقاء المترجم له ـ وأكبر الظن أ نّه المؤيّد ابن العلقمي وكان اُستاد
الدار ـ وقد احتج عليه الصديق المذكور بسيرة الشريفين الرضي
والمرتضى(رحمهما الله)وقبولهما ذلك المنصب، فلم تجد كلّ تلك
المساعي(31).
وزادت ثقة المستنصر بسيّدنا وعظم شأنه في عينه
فأحب أن يلازمه حتّى يكون نديمه الخاص وأرسل بذلك الطلب ولد الوزير
القمي المذكور آنفاً، فالتمس الرسول ذلك فلم يجد الاُذن الصاغية فعاد
خائباً(32).
ولم تقف رغبة الخليفة عند هذا الحد، بل أحب أن
يكون المترجم له رسوله إلى سلطان التتر، وذلك عند محاولته غزو بغداد
وأرسل إليه مَن خاطبه في ذلك فأجابه بقوله:
إن أنا نجحت ندمت وإن جنحت ندمت، فقال: كيف؟
فقلت: إنّ نجاح سعيي يقتضي أ نّكم ما تبغون تعزلوني من الرسالات... وإن
لم ينجح الأمر سقطت من عينكم سقوطاً يؤدي إلى كسر حرمتي...(33) وكنت
استأذنت الخليفة في زيارة مشهد الرضا عليه التحية والثناء بخراسان فأذن
وتجهزت وما بقي إلاّ التوجّه إلى ذلك المكان، فقال من كان الحديث في
الإذن إليه: قد رسم أ نّك تكون رسولا إلى بعض الملوك، فاعتذرت وقلت:
هذه الرسالة ان نجحت ما يتركوني بعدها أتصرّف في نفسي، وإن جنحت صغر
أمري وانكسرت حرمتي... ثمّ لو توجهت كان بعدي من الحسّاد من يقول لكم
أ نّه يبايع ملك الروم ويجيئ به إلى هذه البلاد وتصدّقونه... فقال: وما
يكون العذر؟ قلت: إنّني أستخير الله وإذا جاءت لا تفعل فهو يعلم إنّني
لا اُخالف الإستخارة أبداً فاستخرت واعتذرت(34).
ولم تقف هذه الردود وعدم الإستجابة من سيّدنا
حائلا دون أماني المستنصر ورغبته الملحة في الاستفادة من وجود المترجم
له في منصب من مناصب الدولة الرفيعة، وآخر محاولاته عزم على تكليفه
بالقيام بأمر الوزارة ـ وهي أهم منصب في الدولة ـ ولنسمع سيّدنا وهو
يحدّث ابنه في كتابه كشف المحجة عن تلك المحاولة اليائسة قال:
(ثمّ عاد الخليفة المستنصر ـ جزاه الله خير
الجزاء ـ كلفني الدخول في الوزارة وضمن لي أ نّه يبلغ بي في ذلك إلى
الغاية، وكرّر المراسلة والإشارة... فراجعت واعتذرت، حتّى بلغ الأمر
إلى أن قلت...: إن كان المراد بوزارتي على عادة الوزراء يمشون اُمورهم
بكلّ مذهب وكلّ سبب سواء كان موافقاً لرضا الله جلّ وعزّ ورضا سيّد
الأنبياء والمرسلين أو مخالفاً لهما في الآراء، فإنّك من أدخلته في
الوزارة... قام بما جرت عليه العوائد الفاسدة، وإن أردت العمل في ذلك
بكتاب الله تعالى وسنّة رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) فهذا أمر لا
يحتمله مَن في دارك ولا مماليكك ولا خدمك ولا حشمك ولا ملوك الأطراف
ويقال لك: إذا سلكت سبيل العدل والإنصاف والزهد إنّ هذا عليّ بن طاووس
علوي حسني، ما أراد بهذه الاُمور إلاّ أن يعرف أهل الدهور أنّ الخلافة
لو كانت إليهم كانوا على هذه القاعدة من السيرة، وإنّ في ذلك ردّاً على
الخلفاء من سلفك، وطعناً عليهم، فيكون مراد همتك أن تقتلني في الحال
ببعض أسباب الأعذار...)(35).
وفي سنة (635 هـ) وصلت طلائع الجيش المغولي إلى
أطراف العراق، وخرج مقدّم العسكر الأمير جمال الدين قشتمر إلى خارج
البلد، فخيّم هناك وحشر الناس لصدّ العدو، فكتب المترجم له إلى الأمير
المذكور: (إستاذن لي الخليفة واعرض رقعتي عليه في أن يأذن لي في
التدبير ويكونون حيث أقول يقولون وحيث أسكت يسكتون، حتّى أصلح الحال
بالكلام فقد خيف على بيضة الإسلام، وما يعذر اللهعز وجل من يترك الصلح
بين الأنام).
وذكر في المكاتبة انّني ما أسير بدرع ولا عدة
إلاّ بعادتي من ثيابي ولكنّي أقصد الصلح... فاعتذروا وأرادوا غير ما
أردناه(36).
وأقلقه شأن التتر والتطير منهم، ولأخذ الحيطة
والتدابير لصدّهم عاود بنفسه يطلب الاذن في التوسّط ولنستمع حديثه:
(ثمّ حضرت عند صديق لنا وكان اُستاد دار وقلت له: تستأذن لي الخليفة في
أن أخرج أنا وآخرون وسمّى جماعة ونأخذ معنا من يعرف لغة التتار ونلقاهم
ونحدّثهم... لعلّ اللهعز وجل يدفعهم بقول أو فعل أو حيلة عن هذه
الديار، فقال: تخاف تكسرون حرمة الديوان ويعتقدون أ نّكم رسل من عندنا،
فقلت: أرسلوا معنا من تختارون ومتى ذكرناكم أو قلنا إنّنا عنكم حملوا
رؤوسنا إليكم وأنجاكم ذلك وأنتم معذورون... فقام وأجلسني في موضع منفرد
أشار إليه، وظاهر الحال انّه أنهى ذلك إلى المستنصر... ثمّ أطال وطلبني
من الموضع المنفرد وقال ما معناه: إذا دعت الحاجة إلى مثل هذا أذنا لكم
لأنّ القوم الّذين قد أغاروا ما لهم متقدّم تقصدونه وتخاطبونه، وهؤلاء
سرايا متفرقة وغارات غير متّفقة...)(37).
وقبل سنة (640 هـ) في أواخر أيّام المستنصر غادر
المترجم له بغداد عائداً إلى الحلة، وأقام بها حتّى سنة (643 هـ) حيث
ولد له بالحلة ولده محمّد المصطفى، ومنها خرج إلى المشهد العلوي فأقام
فيه ثلاث سنين، ولد له هناك ولده عليّ شريكه في الاسم واللقب وذلك في
سنة (647 هـ)، وانتقل من النجف إلى كربلا حيث كان ينوي الإقامة هناك
ثلاث سنوات، وفي مدّة إقامته بالحائر الحسيني كتب كتابيه (فرج المهموم)
ففرغ منه سنة (650 هـ)(38) وكتابه (كشف المحجة)(39) وكان من عزمه أن
يستخير الله في مجاورة الإمامين العسكريين في سر من رأى، ولا نعلم مدى
تحقق هذه الاُمنية وحصول هذا العزم.
وفي سنة (652 هـ) عاد إلى بغداد وبقي بها حتّى
الاحتلال المغولي وقد عبّر عن آلامه بقوله:
(إعلم انّ في مثل هذا اليوم ثامن وعشرين محرم
وكان يوم الاثنين سنة (656 هـ) فتح ملك الأرض زيدت رحمته ومعدلته
ببغداد، وكنت مقيماً فيها في داري بالمفيدية... وبتنا في ليلة هائلة من
المخاوف الدنيوية فسلّمنا اللهعز وجل...)(40).
وبعد دخول هولاكو بغداد أمر أن يستفتى العلماء
أيّما أفضل السلطان الكافر العادل؟ أو السلطان المسلم الجائر؟ ثمّ جمع
العلماء بالمستنصرية لذلك، فلمّا وقفوا على الفتيا أحجموا عن الجواب،
وكان رضي الدين عليّ بن طاووس حاضراً هذا المجلس وكان مقدّماً محترماً،
فلمّا رأى إحجامهم تناول الفتيا ووضع خطّه فيها بتفضيل العادل الكافر
على المسلم الجائر، فوضع الناس خطوطهم بعده(41).
ويظهر انّ هولاكو أحب هذا المفتي لكفاءته وجرأته
وصراحته فأحب الاجتماع به فاستدعاه وفي يوم 10 صفر كان موعد المقابلة
مع جبار المغول ويحدّثنا السيّد عن ذلك فيقول: (إعلم أنّ يوم عاشر صفر
سنة (656 هـ) كان يوم حضوري بين يدي ملك الأرض زيدت رحمته ومعدلته
وشملتني فيه عنايته وظفرت فيه بالأمان والإحسان، وحقنت فيه دماؤنا
وحفظت فيه حرمتنا وأطفالنا ونساؤنا، وسلم على أيدينا خلق كثير من
الأصدقاء والإخوان ودخلوا بطريقنا في الأمان...)(42).
وقال أيضاً: (إستدعاني ملك الأرض إلى دركائه
المعظّمة... في صفر وولاّني على العلويين والعلماء والزهّاد(43) وصحبت
معي ألف نفس ومعنا من جانبه من حمانا إلى أن وصلنا الحلة...)(44) وبقى
سيّدنا المترجم له نقيباً عاماً للطالبيين مقيماً ببغداد، تردد خلال
إقامته إلى الحلة وزيارة المشاهد المشرّفة وربّما مكث فيها أيّاماً،
كما يظهر من آخر كتاب الفتن لنعيم بن حمّاد، ومواضع من كتابه الإقبال،
وآخر رسالته في المواسعة والمضايقة وغيرها.
وفاته:
توفي بكرة يوم الاثنين خامس ذي القعدة سنة (664
هـ) واختلف مؤرّخوه في محل دفنه، والصحيح انّه توفي ببغداد وحمل إلى
النجف الأشرف حيث أعد لنفسه قبراً وجعله تحت قدمي والديه، كما يظهر من
كلامه في فلاح السائل في مبحث القبر(45). وأمّا القبر المنسوب إليه في
ظاهر الحلة فالمظنون قوياً انّه قبر ولده رضي الدين عليّ، فإنّه شرك
أباه في الإسم واللقب والمنصب، وورد في الحوادث الجامعة(46) ما يدل على
حمل المترجم له إلى النجف، ونحوه في مستدرك تاريخ بروكلمان(47) حيث نصّ
على أنّ مدفنه بالنجف.
مؤلفاته:
خلّف المترجم له ثروة علمية ومجموعة قيّمة من
المؤلّفات تناهز الستين، وتمتاز مؤلّفاته بالدقّة والضبط، وهي أقوى سند
يدل على وجود آثار نفيسة لأعلامنا الأقدمين كانت عنده ولم نعثر على
غالبها في هذا الوقت، وربّما حسبنا فقدانها وإنّ هذا الإمتياز العلمي
الّذي امتازت به مؤلّفاته من جمع الفوائد وحفظ النصوص، هو الّذي يكشف
عمّا كان عليه المترجم له من الثراء العلمي في دقة البحث وأصالة
التفكير، وإنّ لمؤلّفاته الفضل الكبير في كشف كثير من التلاعب والتحريف
الّذين وقعا في بعض الكتب المقدّسة كالانجيل وأشباهه عند المقارنة مع
الموجود اليوم من نسخها الشائعة والّتي يتداولها المتدينون بها. والّذي
يظهر من مطالعة كتبه انّه كان يملي أحياناً على كاتب لديه أو يعطيه
كراساً وآخر فينسخهما، كما صرح في أوّل هذا الكتاب، وكما صرح في ص 109
انّه لحق به بعد الفراغ من تأليفه بسنتين ما رأى مناسباً الحاقه، وصرح
بذلك.
وحيث قد عرفنا كلّ واحد من مؤلّفاته بما تيسر من
التعريف في بحثنا الوافي عنه فلا حاجة إلى التطويل هنا ونثبت للقارئ
أسماءها فقط:
1 ـ الإبانة في معرفة أسماء كتب الخزانة.
2 ـ الإجازات لكشف طرق المفازات(48).
3 ـ الإختيارات من كتاب أبي عمرو الزاهد المطرز
345.
4 ـ أدعية الساعات، وهو الأسرار المودعة في
ساعات الليل والنهار.
5 ـ أسرار الدعوات لقضاء الحاجات وما لا يستغنى
عنه.
6 ـ أسرار الصلاة.
7 ـ الإصطفاء في أخبار الملوك والخلفاء في عدّة
أجزاء.
8 ـ إغاثة الداعي وإعانة الساعي.
9 ـ الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في
السنة، طبع في طهران غير مرّة.
10 ـ الأمان من الأخطار، طبع بالمطبعة الحيدرية
في النجف.
11 ـ الأنوار الباهرة في انتصار العترة الطاهرة،
وهو التصريح بالنصّ الصريح.
12 ـ البشارات بقضاء الحاجات على يد الأئمّة بعد
الممات.
13 ـ البهجة لثمرة المهجة.
14 ـ التحصيل من التذييل ـ وهو تذييل تاريخ
بغداد لشيخه ابن النجّار.
15 ـ التحصين في أسرار ما زاد على كتاب اليقين.
16 ـ التشريف بتعريف وقت التكليف.
17 ـ التشريف بالمنن في التعريف بالفتن وهو
المطبوع باسم الملاحم والفتن، طبع في المطبعة الحيدرية مكرراً.
18 ـ التعريف للمولد الشريف.
19 ـ تقريب السالك إلى خدمة المالك(49).
20 ـ التمام لمهام شهر الصيام.
21 ـ التوفيق للوفاء بعد تفريق دار الفناء.
22 ـ جمال الاسبوع بكمال العمل المشروع طبع في
ايران.
23 ـ الدروع الواقية من الأخطار.
24 ـ ربيع الألباب وهو في عدّة مجلدات.
25 ـ ربيع الشيعة، وهو منسوب إليه خطأ فانّه عين
كتاب إعلام الورى للطبرسي(50).
26 ـ روح الأسرار وروح الأسمار.
27 ـ ري الضمآن من مروي محمّد بن عبدالله بن
سليمان.
28 ـ زهرة الربيع في أدعية الأسابيع.
29 ـ السعادات بالعبادات الّتي ليس لها وقت
محتوم معلوم في الروايات...الخ.
30 ـ سعد السعود، طبع بالمطبعة الحيدرية.
31 ـ شرح نهج البلاغة.
32 ـ شفاء العقول من داء الفضول.
33 ـ صلوات ومهمات للاسبوع في مجلدين.
34 ـ الطرائف في مذاهب الطوائف. وقد طبع في
ايران.
35 ـ الطرف من الأنباء والمناقب. وهو مطبوع
بالمطبعة الحيدرية بالنجف وايران.
36 ـ عمل ليلة الجمعة ويومها.
37 ـ غياث سلطان الورى لسكان الثرى.
38 ـ فتح الأبواب بين ذوي الألباب وبين ربّ
الأرباب، في الإستخارة وما فيها من وجوه الصواب(51).
39 ـ فتح محجوب الجواب الباهر في شرح وجوب خلق
الكافر.
40 ـ فرج المهموم في معرفة الحلال والحرام من
النجوم، وقد طبع بالمطبعة الحيدرية.
41 ـ فرحة الناظر وبهجة الخواطر، وهو ممّا رواه
والده، ونقله في أوراق وادراج فجمعه ولده المترجم له وسمّاه بذلك.
42 ـ فلاح السائل ونجاح المسائل، وهو كتابنا هذا
وسنفرده بالحديث.
43 ـ الفلاح والنجاح في عمل اليوم والليلة.
44 ـ القبس الواضح من كتاب الجليس الصالح.
45 ـ كتاب الكرامات.
46 ـ كشف المحجة لثمرة المهجة، وسمّاه أيضاً
إسعاد ثمرة الفؤاد على سعادة الدنيا والمعاد، وقد طبع بالمطبعة
الحيدرية بالنجف.
47 ـ لباب المسرة من كتاب ابن أبي قرة.
48 ـ المجتنى من الدعاء المجتبى، وقد طبع ملحقاً
بآخر مهج الدعوات طبع ايران.
49 ـ محاسبة الملائكة الكرام آخر كلّ يوم من
الذنوب والآثام.
50 ـ محاسبة النفس، وقد طبع بالنجف وايران.
51 ـ مختصر كتاب محمّد بن حبيب.
52 ـ المسالك إلى خدمة المالك.
53 ـ مسالك المحتاج إلى مناسك الحاج.
54 ـ مصباح الزائر وجناح المسافر في ثلاث
مجلدات.
55 ـ مضمار السبق واللحاق بصوم شهر إطلاق
الأرزاق وعتاق الأعناق، وهو الجزء المختص بأعمال شهر رمضان وقد طبع مع
مجلدي الإقبال بالأعمال الحسنة باسم الإقبال.
56 ـ الملتقط، وقد ألحقه بعد كلّ جزء من كتاب
التشريف لمناسبة له في الموضوع.
57 ـ الملهوف على قتلى الطفوف، طبع مكرّراً في
ايران ولبنان والنجف وبمبئي.
58 ـ المنتقى.
59 ـ مهج الدعوات ومنهج العبادات، طبع في ايران
وبمبى.
60 ـ المواسعة والمضايقة(52).
61 ـ اليقين في إمرة أميرالمؤمنين، طبع في
المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف.
فلاح السائل:
هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقّ، فهو مجموعة أعمال
يزاولها المرء في يومه وليلته، مقرونة بآداب وأدعية تعالج كثيراً من
مشاكل الروح وما يحيط بها من أزمات.
ولمّا كان الدعاء معالجة نفسية تشعر الداعي
بالثقة والإطمئنان بأ نّه التجأ إلى ركن وثيق، واعتمد على من بيده
مقادير الاُمور ومصالح العباد، لذلك كتب فيه وجمعه كثير من أعلامنا
الماضين، ولعلّ أجمع وأوثق ما وصل إلينا من كتب الأقدمين هو مصباح
المتهجّد وصلاح المتعبّد لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي (ت 460 هـ)، وهو
كتاب جليل تلقّاه العلماء من زمنه حتّى يومنا الحاضر بالقبول
والاعتماد، وانبرى بعض أعلامنا ـ كسيّدنا المترجم له ـ إلى تذييله بما
لم يذكره الشيخ في مصباحه، وتذييل المترجم له يتلخص في عشر كتب في عشرة
أجزاء كلّ جزء كتاب ولكلّ كتاب اسم يخصّه وموضوع ينفرد به.
أمّا الاسم العام لذلك التذييل فهو: (تتمات
مصباح المتهجد ومهمات في صلاح المتعبّد) وقد رتبه مؤلّفه المترجم له في
عدّة مجلدات وإلى القارئ ترتيبها كما يقول المؤلّف في مقدّمة كتابه
هذا:
وها أنا مرتب ذلك ] مستعيناً [(53) باللهعز
وجلفي عدّة مجلدات بحسب ما أرجوه من المهمّات والتتمات:
المجلد الأوّل والثاني: اُسميه كتاب فلاح السائل
في عمل اليوم والليلة وهو مجلدان.
والمجلد الثالث: اُسميه كتاب زهرة الربيع في
أدعية الأسابيع.
والمجلد الرابع: اُسميه كتاب جمال الأسبوع بكمال
العمل المشروع.
والمجلد الخامس: اُسميه كتاب الدروع الواقية من
الأخطار فيما يعمل مثله كلّ شهر على التكرار.
والمجلد السادس: اُسميه كتاب المضمار للسباق
واللحاق بصوم شهر إطلاق الأرزاق وعتاق الأعناق.
والمجلد السابع: اُسميه كتاب مسالك المحتاج إلى
معرفة مناسك الحجاج.
والمجلد الثامن والتاسع: اُسميهما كتاب الإقبال
بالأعمال الحسنة فيما نذكره ممّا يعمل ميقاتاً واحداً كلّ سنة.
والمجلد العاشر: اُسميه كتاب السعادات بالعبادات
الّتي ليس لها وقت محتوم معلوم في الروايات...
وهذه المجلدات العشر جمع فيها المؤلّف ما يحتاجه
الإنسان في يومه وليله واُسبوعه وشهره وسنته مضافاً إلى ما قد يحتاجه
مرّة في عمره من أعمال وأدعية وآداب وسنن وغيرها ممّا يقوي رابطة
المخلوق بخالقه، ويرتاح إليها في كشف نوائبه وحل مشاكله.
وإنّ كتابنا هذا ـ فلاح السائل ـ هو الجزء
الأوّل من تلك المجموعة القيّمة وهو يشتمل على مجلدين، وإنّ هذا الّذي
نقدّمه اليوم هو المجلد الأوّل منها، وقد كان من الكنوز المفقودة ـ
تقريباً ـ حتّى هيأ الله له بعض رجال الخير فبعثه من مرقده ونشره في
ايران سنة (1382 هـ)، ولندرة نسخه وكثرة الطلب فقد أعاد طبعه الأخ
الشيخ محمّد كاظم الكتبي سلّمه الله على عادته في إحياء الآثار القيّمة
ونشرها وتيسيرها للقرّاء، وهي خدمة مشكورة نرجو من الله لنا وله
التوفيق والسداد انّه ولي التوفيق.
محمّد مهدي السيّد حسن الخرسان
النجف الأشرف 20 ج 2 1385 هـ
الألـــفيـــن
في إمامة أميرالمؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام
تأليف
الشيخ الإمام جمال الدين
ابن المطهر الأسدي
العلامة الحلي
648 / 726هـ
قدم له
العلامة الجليل السيد
محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان
بسم الله الرحمن الرحيم
(وله الحمد وبه نستعين)
حياة المؤلّف
والتعريف بالكتاب:
يسوقني التوفيق للإسهام في خدمة دينية أعتز
بمشاركتي فيها، وإن لم أكن قد أعددت عدتها كما ينبغي، وذلك هو كتابة
مقدّمة لكتاب جليل لإمام عظيم في موضوع خطير.
وإنّ من الحقّ أن اُجيب وإن كنت مشغولا بنظائر
وأمثال هذه الخدمة الدينية طلب الاُستاذ الناشر الأخ محمّد كاظم الكتبي
ـ سلّمه الله تعالى ـ وذلك حين يطلب منّي تقديم منشوره للمرّة الثانية،
خدمة للمؤلَّف واداء لبعض حقوق المؤلِّف وأياديه البيضاء على الاُمّة
الإسلامية، وإحاطة للقارئ بما للمؤلِّف والمؤلَّف من أثر في تغذية
الفكر وتسليح المؤمن بالعدة اللازمة وبالتالي إجابة لطلب الناشر.
وكلّها دواع تامّة للإجابة، ولكن ـ والحقّ أقول
ـ أمسكت القلم مراراً وأمسكت، وطال ذلك وتكرر، ومرّت الليالي والأيّام،
والعملية نفسها، لم تنبثق عنها كوّة نور تبدد ما أنا فيه من حيرة، أزاء
إختيار الناحية الّتي أبحثها وأتحدّث للقرّاء عنها.
إذ أنّ شخصية الإمام جمال الدين ابن
المطهّر(رحمه الله) كثيرة النواحي واسعة المجالات، متعددة الجوانب،
وكلّها غنية بمادّة البحث وتستحق أن تكون موضوع بحث خاص ودراسة شاملة.
ولا أدل على ذلك من وفرة ثروته العلمية الطائلة
الّتي تنبىء عن جامعية قلّ نظيرها في مشاهير الإسلام، مضافاً إلى
مكانته الإجتماعية الّتي سما بها إلى أن قيل عنه: لم يتفق في الدنيا
مثله لا في المتقدّمين ولا في المتأخّرين(54)، وتقدّم في آخر أيام
خربندا تقدماً زاد حدّه، وفاض على الفرات مدّه(55)، إلى غير ذلك ممّا
يسلّط الأضواء على غياهب بعض الكتّاب الّذين زعموا أ نّه كان في بؤس أو
أ نّه أخمل وانزوى.
فجميع نواحي حياته الّتي كانت مجموعة جهاد
متواصل في مجالي العلم والعمل جديرة بالدرس حرية بالبحث، لذلك كنت أمسك
القلم وأمسك، إذ أبقى حائراً مفكراً أي ناحية أختارها وأيّها أترك؟ وهل
هناك تفضيل ناحية على اُخرى أو درس مجال دون آخر، وكلّها حلقات متواصلة
وسلسلة يتبع بعضها بعضاً، وجهود ثرّة معطاءة، غنية بالإفادة، يجب أن
يرعى الباحث جميعها ويلم شعثها ويودعها سطور كتابه، من غير حيف في حكم
أو جنوح لعاطفة، وبذلك يكون فيما أحسب موفقاً في دراسته وبحثه.
وأ نّى لي بذلك وشيخنا الإمام ابن المطهّر(رحمه
الله) من النمط العالي الرفيع في حياته من حيث الإنتاج والإبداع، صاحب
ذهنية خصبة رحبة الآفاق، ساعدته على خوض أكثر من فن، فبرع في جميعها،
وحلّق في مجموعها. لذلك أمسك القلم وأمسك، إذ لا يسعني وأنا أمام فيض
من المصادر، أن أدرس شخصيته دراسة تامّة، فأحيط بجميع جوانبها وملابسات
عصرها في الوقت الحاضر، والكتاب المقصود بالتقديم قد تم طبعه، وناشره
ينتظر هذه الصفحات ليضمّها إليه ويخرجه للقرّاء في أقرب وقت.
لذلك أعتذر سلفاً عن تقصيري إذا لم اُوفق في هذه
السطور من حيث الإحاطة التامّة بجميع النواحي، أو في عرض بعضها،
فالموضوع خطير، والوقت ضيق قصير، وأنا أمام قرّاء يتفاوتون سعة وضيقاً
في إدراك شخصية الإمام ابن المطهّر. فغاية ما أقوله:
هذا جناي وخياره فيه، ومن الله أستمد العون
والتوفيق وأن يهديني إلى سواء السبيل إنّه ولي ذلك.
|