ألم يذكر عبد القادر البغدادي الأشعري في كتابه (الفرق بين الفرق)(1) عن النظام المعتزلي ذلك؟ وليسا هما من الرافضة؟
ألم يذكر ذلك المقريزي _ وهو سنّي _ في كتابه الخطط(2)، فهل هو من الرافضة؟
ألم يذكر ذلك الشهرستاني _ وهو سنّي متعصب على الشيعة _ في كتابه الملل والنحل، كما تقدم في النصوص؟ فهل هو من الرافضة؟
ألم يذكر ذلك الصفدي _ وهو من مؤرخي السنّة _ في كتابه الوافي بالوفيات كما تقدم في النصوص، فهل هو من الرافضة؟
أليس هؤلاء جميعاً نقلوا ما قاله إبراهيم النظام المعتزلي البغدادي، تلميذ الجاحظ المعتزلي البصري، فقال: انّ عمر ضرب بطن فاطمة ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى ألقت المحسن من بطنها، وكان يصيح أحرقوا الدار بمن فيها، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين... راجع نص الشهرستاني فيما تقدم من النصوص.
ألم يذكر الذهبي السنّي العتيد العنيد في ميزان الاعتدال(3)، في ترجمة أبي دارم عنه... أنّ عمر رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن. فهل على الرافضة من وزر لو قالوا ما رواه هؤلاء؟
____________
1- الفرق بين الفرق: 140 _ 141.
2- الخطط للمقريزي 2: 346.
3- ميزان الاعتدال 1: 139.
وقال: وقيل أيضاً للرافضة: إذا كان أبو بكر قد ضرب فاطمة وقتل المحسن، فقد كان ينبغي أن يحصل العلم بذلك عند كل من سمع الأخبار، وأن يكون العلم بذلك مثل العلم بقتل يزيد الحسين، ومثل قتل معاوية حجر بن عدي، وعبيد الله بن زياد مسلم بن عقيل، بل كان ينبغي أن يكون العلم بما ادعيتم أقوى من العلم بهؤلاء القتلى، لأنّ هذه الحادثة التي ادعيتموها على أبي بكر كانت بالمدينة، وقد شهدها العباس وولده، وعلي بن أبي طالب وولده، وعقيل وولده، وجميع بني هاشم ومواليهم ونسائهم، وجميع المهاجرين والأنصار وأولادهم ونسائهم، وقد كان بالمدينة حين توفى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكثر من مائة ألف إنسان، وكان يكون العلم بهذا أقوى مما كان بكربلا.
ولكن دعاوى الرافضة على ضرب فاطمة (عليها السلام) وقتل ولدها، وأمر أبي بكر خالد بن الوليد بقتل علي بن أبي طالب كدعواهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) النصوص التي يدّعونها، وكل من تأمّل أمرهم تبيّن له بطلان ذلك، ووضح له وضوح الشمس(2).
____________
1- تثبيت دلائل النبوة: 239.
2- نفس المصدر: 240.
وقال أيضاً وهو يخاطب الفاطميين بمصر: وأنتم تدّعون ما هو في الظهور أعظم من هذا، من انّ فاطمة (عليها السلام) ضُربت وقُتل جنينها في بطنها جهاراً بمشهد من العباس وعلي وجميع بني هاشم، وبمشهد من المهاجرين والأنصار، وهم أكثر ما كانوا وأوفر، وهذه وقعة أعظم من وقعة كربلاء ومن شهدها أكثر(2).
أقول: من حقنا أن نسأله وجميع المدافعين عن أبي بكر عن معنى ندمه على كشف بيت فاطمة، فماذا جرى يومئذٍ حتى كان شبحه يطارد مخيلة أبا بكر ولم يبارحه حتى مرض موته، فباح بما قال نادماً؟
فإذا لم يكن قد جرى يومئذٍ ما جرى كما يقوله الشيعة ويرويه بعض السنّة فعلام الندم؟
ثم من حقنا أن نسأل قاضي القضاة بماذا كان يقضي لو كانت دعوى فاطمة (عليها السلام) رفعت إليه، أكان يسمع دعواها في النحلة وفي الميراث وفي سهم
____________
1- المصدر نفسه: 594 _ 595.
2- المصدر نفسه: 652 _ 653.
ونسأله أيضاً عن حديث رواه أبو بكر نفسه، وذلك حديث الخيمة التي جمع فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وقال: «معاشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل هذه الخيمة، وحرب لمن حاربهم، ووليّ لمن والاهم، لا يحبهم إلاّ سعيد الجدّ طيب المولد، ولا يبغضهم إلاّ شقي الجدّ ردي المولد»(1).
فهل كلام قاضي القضاة في دفاعه عما جرى على فاطمة وبعلها وبنيها مما يدل على مسالمتهم؟ أو على محاربتهم؟ وهو لا شك عرف حديث الكساء الذي رواه أهل التاريخ والحديث، ورواه من الصحابة أكثر من عشرة كما في كتاب (علي إمام البررة)(2) ، وأطال فيه ابن حجر الكلام في اثباته سنداً ودلالةً(3).
وكلا الحديثين حديث الخيمة الذي رواه أبو بكر، وحديث الكساء ومن رواته عائشة ابنة أبي بكر، دلاّ على ما لأهل البيت من الفضل ما ليس لأحد مثله، ولبيتهم حرمة لا توازيها حرمة أيّ بيت آخر.
وهذا ما سمعه أبو بكر من النبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً، فقد روى أنس بن مالك وبريدة بن الحصيب وغيرهما: انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قرأ: {فِي بُيُوت أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ}(4)، فقام إليه رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: «بيوت الأنبياء».
فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها؟ لبيت علي وفاطمة، قال: «نعم من أفاضلها»(5).
____________
1- الرياض النضرة للمحب الطبري.
2- علي إمام البررة 1: 371 _ 408.
3- الصواعق المحرقة: 86 _ 87.
4- النور: 36.
5- الدر المنثور للسيوطي 5: 50.
وبعد هذا نعود إلى دفع القاضي وتعنته في دفعه وقضائه، حيث يريد أن يكون ما جرى على أهل البيت (عليهم السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله) من أعمال عنف في شياع مثل ما شاع ممّا ضرب به الأمثال من قتل الحسين (عليه السلام) ، وهذا منه بمنتهى الغرابة.
ونقول له: انّ خبر ندم أبي بكر عند موته وذكره مثلثات منها كشف بيت فاطمة، خبر ثابت وقد تقدم ذكره بمصادره السنّية، وليس فيه ذكر ضرب ولا رفس ولا إسقاط جنين، ومع ذلك فقد مرّ بنا تحاشي مَن كنى عن كشف بيت فاطمة (عليها السلام) بقوله: كذا وكذا. فهو يتقي أن يذكر الخبر كما هو، فهل يتوقع قاضي القضاة أن يشاع ويذاع أنباء ما جرى في ذلك اليوم من أحداث مروعة ومفزعة؟ بعد شدة رقابة الحاكمين على الشيعة ومرويّاتهم، ممّا لا يخفى على من هو دون القاضي فضلاً عنه.
وجرى ابن أبي الحديد المعتزلي وتبع القاضي المعتزلي في دفعه بالصدر ما رواه الشيعة وآخرون من غيرهم من خبر الرفسة والضرب فقال: فأمّا الاُمور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة من ارسال قنفذ إلى بيت فاطمة (عليها السلام) ، وأنّه ضربها بالعصا فصار في عضدها كالدملج وبقي أثره إلى أن ماتت، وانّ عمر ضغطها بين الباب والجدار... وألقت جنيناً ميتاً، وجعل في عنق علي (عليه السلام) حبل يقاد به... فكلّه لا أصل له عند أصحابنا...(2).
أقول: وهذان المعتزليان نفيا الاُمور التي جرت على أهل البيت (عليهم السلام) في تلك الفترة من بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله) ، وكأنّهما يتوقعان أن يرويها لهما أمثال الطبري من المؤرخين، مع انّ التاريخ فيه تزوير وتحوير وتطوير، فمن كان من المؤرخين من
____________
1- روح المعاني 18: 174.
2- شرح النهج 6: 6.
بالله لماذا الازدواجية في المعايير يا شيخ المؤرخين؟
وأيضاً نجد الطبري يجبن عن ذكر الحقائق كما هي، فقد قال في خبر مقتل عثمان: قد ذكرنا كثيراً من الأسباب التي ذكر قاتلوه أنّهم جعلوها ذريعة إلى قتله، فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إلى الإعراض عنها.
وثالثاً نجده في خبر وقعة الجمل من رواية اُخرى، عن غير سيف قال: فوقف عليّ عليها _ أي على عائشة _ فقال: «استفززت الناس وقد فزوا، فألّبت بينهم حتى قتل بعضهم بعضاً... في كلام كثير» ماذا كان ذلك الكلام الكثير؟ لماذا الاحجام عن ذكر بعض الكلام؟
ورابعاً قال في مكاتبة محمد بن أبي بكر مع معاوية: فذكر مكاتبات جرت بينهما كرهت ذكرها لما فيه مما لا يحتمل سماعها العامة.
إلى غير ذلك من الشواهد مما طواه هو وغيره بحجة وبغير حجة، فهل يتوقع القاضي عبد الجبار وابن أبي الحديد المعتزليان ومن هو على شاكلتهما، أن يجدوا عند الطبري أو غيره من شيوخ المؤرخين ما ذكراه من اُمور تنفرد الشيعة بنقلها من خبر الضرب والرفسة والإسقاط، مع انّه روى ذلك من غير الشيعة، منهم على استحياء، ومنهم على استخذاء.
وهذا ثالث القوم جاء بما يضحك الثكلى، وكأنّه يسخر بعقول الناس حين يقول في كتابه منهاج السنّة(1): (ونحن نعلم يقيناً انّ أبا بكر لم يقدم على علي والزبير بشيء من الأذى، بل ولا على سعد بن عبادة المتخلف عن بيعته أولاً وآخراً، وغاية ما يقال انّه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه وأن يعطيه لمستحقه، ثم رأى انّه لو تركهم لجاز.
فإنّه يجوز أن يعطيهم من مال الفيء، وأمّا إقدامه عليهم أنفسهم بأذى، فهذا ما وقع فيه قط باتفاق أهل العلم والدين، وإنّما ينقل مثل هذا جهّال الكذّابين، ويصدّقه حمقى العالمين الذين يقولون: انّ الصحابة هدموا بيت فاطمة، وضربوا بطنها حتى أسقطت، وهذا كله دعوى مختلق، وإفك مفترى باتفاق أهل الإسلام، ولا يروج إلا على من هو من جنس الأنعام...).
أقول: سبحانك اللّهمّ إن هذا إلاّ بهتان عظيم، لقد مرت النصوص التي قدّمناها من مصادر تاريخ المسلمين، وذكرنا توثيق أصحابها وكلهم من السنّة، فهل كل أولئك ما كانوا من أهل العلم والدين، وكانوا من جهّال الكذّابين؟ (إنّ هذا لهو البلاء المبين).
ولم يكتف ابن تيمية بوصف من روى ذلك بما تقدم، حتى جعلهم من جنس الأنعام؛ لأنّهم راجت عليهم تلك المرويات فرووها، ألا مسائل ذلك الأحمق المائق المائن، كيف استساغ لنفسه أن يستغفل العقول بقوله: وغاية ما يقال انّه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه وأن يعطيه لمستحقه؟
أيّ مال ذلك؟ متى جُمع؟ ومتى وضع في بيت علي؟ ولماذا وضع هناك؟ مسائل يجب الإجابة عليها من لدن أتباع ابن تيمية، وإلاّ فهو وهم من جنس الأنعام،الوصف الذي نبز به غيره.
____________
1- منهاج السنّة 4: 220.
أخرج البسوي في كتاب المعرفة والتاريخ(1)، باسناده عن علي انّ عمر استشار الناس فقال: ما تقولون في فضل عندنا من هذا المال؟
قالوا: يا أميرالمؤمنين قد شغلتك _ أو شغلناك _ عن أهلك وضيعتك وتجارتك فهو لك.
قال لي: ما تقول أنت؟ فقلت: قد أشاروا عليك، قال: قل.
قلت: يا أمير المؤمنين لم تجعل يقينك ظناً وعملك جهلاً؟.
قال: لتخرجن ما قلت أو لأعاقبنك.
قلت: أجل إذاً والله لأخرجن منه، أما تذكر إذ بعثك رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ساعياً، فأتيت العباس فمنعك صدقته، فكان بينكما، فأتيتني فقلت: انطلق معي إلى النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم حتى أخبره بما صنع العباس، فأتيناه فوجدناه خاثراً(2) فرجعنا، ثم أتيناه من الغد فوجدناه طيّب النفس، فذكرت له الذي صنع العباس فقال: أما علمت يا عمر انّ عم الرجل صنو أبيه، وقال: إنّا كنا احتجنا فاستسلفنا العباس صدقة عامين.
____________
1- المعرفة والتاريخ 1: 500.
2- خاثر: ثقيل غير نشيط.
قال عمر: صدقت والله، أما والله لأشكرنّ لك الاُولى والآخرة.
قلت: يا أمير المؤمنين فلم تعجل العقوبة وتؤخر الشكر.
أقول: فإذا كانت هكذا حال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لدينارين بقيا عنده، فهل يعقل أن يكون قد أحرز مالاً في بيت علي (عليه السلام) فكان كبس أبي بكر _ فيما يراه ابن تيمية _ لأخذ ذلك المال لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه؟
وكأنّ ابن تيمية لم يعلم كيف كانت سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما يأتيه من المال؟
ألم يقرأ قصة المال الذي بعث به ابن الحضرمي من البحرين، وكان ثمانين ألفاً وما أتى النبي (صلى الله عليه وآله) مالاً أكثر منه لا قبلُ ولا بعدُ، فنثرت على حصير ونودي الصلاة، وجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فشدّ قائماً على المال، وجاء أهل المسجد، فما كان يومئذٍ عدد ولا وزن، ما كان إلاّ قبضاً... فما زال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ماثلاً على ذلك المال حتى ما بقي منه درهم، وما بعث إلى أهله بدرهم، ثم أتى الصلاة فصلى(1).
ومن السخرية أيضاً بعقول الناس حين يقول: (إنّما ينقل مثل هذا جهال الكذابين، ويصدقه حمقى العالمين الذين يقولون انّ الصحابة هدموا بيت فاطمة (عليها السلام) وضربوا بطنها حتى أسقطت). وقد مرت بنا نصوص تثبت الإدانة عن جهابذة الحديث والتاريخ، فإذا كانوا كلهم من جهال الكذابين، فممن كان يأخذ ابن تيمية علمه؟
____________
1- طبقات ابن سعد 4، ق 1: 9، والمعرفة والتاريخ للبسوي 1: 503.
وقال (صلى الله عليه وآله): «من روّع مؤمناً لم يؤمن روعته يوم القيامة، ومن أخاف مؤمناً لم يؤمن خوفه يوم القيامة، ومن سعى بمؤمن أقامه الله مقام الخزي والذلّ يوم القيامة»(2).
وقال (صلى الله عليه وآله): «من أخاف مؤمناً كان حقاً على الله أن لا يؤمنه من أفزاع يوم القيامة»(3).
وقال (صلى الله عليه وآله): «من سوّد مع قوم فهو منهم، ومن روّع مسلماً لرضاء من سلطان جيئ به يوم القيامة معه»(4).
هذه أربعة أحاديث نبوية فصيحة صريحة في عقوبة المعتدي بالاخافة والترويع، فهل يعقل انّ عمر ومن جاء معه _ وكلّهم معدودون من عليّة الصحابة _ لم يسمعوا واحداً من هذه الأحاديث؟ وإذا لم يسمعوا ذلك فأحرى بهم انّهم لم يسمعوا الحديث القدسي: «من أخاف لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة»(5) وماذا رأي ابن تيمية في ذلك؟!
فهل كان ثمة ترويع لأهل البيت يوم جاء عمر بقبس من نار إلى بيت فاطمة (عليها السلام) ليحرقه على من فيه؟ وإن أنكر ذلك ابن تيمية، فلماذا صاحت
____________
1- مسند الربيع بن حبيب 2: 69.
2- كنز العمال 7: 437, الكامل لابن عدي 6: 323.
3- مجمع الزوائد 6: 254.
4- تاريخ بغداد 10: 41.
5- كنز العمال: ح 1680.
قال الكتاني في التراتيب الإدارية: وكان بمنزل فاطمة شباك يطلّ على منزل أبيها، وكان (صلى الله عليه وآله) يستطلع أمرها منه(1).
فلا عجب ولا غرابة من استغاثتها (عليها السلام) بأبيها، وشكواها إليه ما لقيت وأهل بيتها من ابن الخطاب وابن أبي قحافة بعد أن كان (صلى الله عليه وآله) حيّاً في قبره حيث يبلغه سلام من يسلّم عليه في مشرق الدنيا ومغربها، فهل من شك في انّه (صلى الله عليه وآله) لم يستطلع أمرها كما كان وهو حيّ وبين حجرته التي دفن فيها وبين منزل فاطمة شباك؟ والجواب بالنفي إنّما هو عند ابن تيمية الأفّاك ومن تبعه من الشكّاك.
ولا غرابة في هذا من ابن تيمية المعروف بنصبه وعناده من خلال كتابه منهاج السنّة، وقد رد فيه جملة مما صحت روايته في فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ، حتى حديث الثقلين وهذا أخرجه مسلم في صحيحه، فأقدم ابن تيمية على رده.
ختام الرسالة:
لا شك أنّ المصارحة في العقائد مع بيان الحجة البالغة توضح الرؤية لطالب الحق، وليس في سبل التفاهم خيراً منها مع حسن النيّة في التعايش، كما هي في أحيان كثيرة تكون سبباً للهداية إلى طلب الحق.
ويسعدني أن يكون القارئ _ بعد انتهاء قراءته لهذه الرسالة _ منصفاً لنفسه قبل أن يكون منصفاً لي، فلا يتعجل بحكمه سواء كان لي أو عليَّ، ما دمت أنا قد أنصفته فذكرت له من نصوص أحاديث وأخبار وآثار يدين هو لرواتها بالتصديق، وهي عنده غير قابلة للإنكار، والنقاش والجدل حولها في صحتها
____________
1- التراتيب الإدارية للكتاني 2: 78.
وأحسب أنّ العرض والتبسيط منّا كان فيه استيفاء كثير من جوانب الاحتجاج لدى الحوار مع الأطراف الأخرى، وبيان الحق الذي يجب أن يتبع حين نتبيّنه فنتبنّاه لنبيّنه للناس ولا نكتمه، ولا نؤخذ بغلبة الموروث وقداسته، ولا نخشى في بيانه لومة لائم ما دمنا نزيل غشاوة التضبيب الإعلامي الذي وراءه مزاعم الحاكمين الظالمين، فتشوّهت المعلومة من رواة السوء الضالعين في ركابهم.
وتلك بلية المسلمين في تاريخهم منذ القرون الأولى، حين أشاعوا مقولة أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) مات ولم يوص إلى أحد، وترك للناس حق اختيار من يتولاهم، وهذا من أفدح الظلم وأقبح الكذب، إذ أنّه (صلى الله عليه وآله) قبل أن يهاجر إلى المدينة المنورة، ومنذ بدء الدعوة قد بيّن وعيّن من هو الذي سيتولى أمر القيادة من بعده، فقد ورد في شأن نزول قوله تعالى: {وَأنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ}(1)، فأمر ابن عمه علياً بأن يصنع طعاماً يدعو عليه بني هاشم، وقد صنع ودعاهم وبلّغهم ما أمره الله بتبليغه فقال: «أيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووزيري ووصييّ ووارثي وخليفتي من بعدي»، فلم يجبه أحد غير علي (عليه السلام)، فأخذ برقبته ثم قال: «إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا»(2).
____________
1- الشعراء: 214.
2- تاريخ الطبري 2: 216، طبعة الحسينية بمصر، و 2: 319 _ 321، طبعة دار المعارف بمصر, ولمزيد من معرفة المصادر راجع كتاب (علي إمام البررة) 1: 72 _ 92.
وبقي (صلى الله عليه وآله) يعلن في المدينة المنورة في شتى المناسبات والمواقف عن أن علياً وزيره وخليفته في اُمته، ففي حديث عن ابن عمر مرفوعاً قال (صلى الله عليه وآله): «ألا أرضيك يا علي؟ أنت أخي ووزيري، وتقضي ديني، وتنجز بوعدي، وتبرئ ذمتي»(2).
وفي حديث آخر عن أنس مرفوعاً بلفظ: «إنّ أخي ووزيري وخليفتي في أهل بيتي، وخير من تركت بعدي، يقضي ديني، وينجز موعدي، علي بن أبي طالب»(3).
وأصرح من ذلك ما أخرجه الحمويني مسنداً عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «من أحب أن يستمسك بديني، ويركب سفينة النجاة بعدي، فليقتد بعليّ بن أبي طالب، وليعاد عدوّه، وليوال وليه، فإنّه وصيي وخليفتي على اُمتي في حياتي وبعد وفاتي، وهو إمام كل مسلم، وأمير كل مؤمن بعدي، قوله قولي، وأمره أمري، ونهيه نهيي، وتابعه تابعي، وناصره ناصري، وخاذله خاذلي» ثم قال (صلى الله عليه وآله): «من فارق علياً بعدي لم يرني ولم أره يوم القيامة، ومن خالف علياً حرّم الله عليه الجنة، وجعل مأواه النار، ومن خذل علياً خذله الله يوم يعرض
____________
1- راجع كتاب (علي إمام البررة) 3: 280 _ 293.
2- نفس المصدر 1: 105 تجده نقلاً عن مجمع الزوائد 9: 121 نقلاً عن الطبراني, وأيضاً في كنز العمّال 12: 209 ومنتخب الكنز بهامش مسند أحمد 5: 32.
3- نفس المصدر 1: 106، نقلاً عن اصابة ابن حجر 1 ق 1: 217، وتاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي 1: 115 _ 116، بثلاثة أسانيد.
إلى غير ذلك من مواقفه التي كان يُعدّ فيها علياً لخلافته إعداداً فريداً قولاً وعملاً، لم يكن مثله لأيّ أحد سواه من الصحابة، وحسبنا أن نستقرئ كتب الحديث والتاريخ عما صدر منه في سنة حجة الوداع فقط، فقد أشركه في بُدنه، وقام معلناً بفضله واستخلافه، وأخذ البيعة له في غدير خم، ولما عاد إلى المدينة اتخذ الحيطة لمنع وقوع الخلاف في الاستخلاف حين ظهرت حسيكة النفاق في نفر من الصحابة، فعزم على بعث اُسامة إلى مؤتة، وأمّره على جيش حشر فيه أسماء كثير ممن يخشى منهم الخلاف، وكان مِن جملة مَنْ سمّاهم بأعيانهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة، والزبير، وأبو عبيدة بن الجراح وآخرون، وشدّد النكير على من تخلّف عن جيش اُسامة، حتى قال: «لعن الله من تخلّف عن جيش اُسامة»(2) ولما أحسّ منهم التثاقل في الخروج، أراد أن يكتب لاُمته كتاباً لن يضلوا بعده أبداً، إلاّ أنّ عمر منع من ذلك، وهذا ما رواه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وفي مقدمتهم البخاري ومسلم، وهذا ما يعرف بحديث الرزية، لأنّ ابن عباس حبر الاُمة كان يرويه ويقول الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، ويبكي حتى يبلّ دمعه الحصى _ الحصباء(3) _ وكان (صلى الله عليه وآله) يفعل ذلك بأمر من الله تعالى.
____________
1- فرائد السمطين 1: 54.
2- رواه الشهرستاني في الملل والنحل نقلاً عن النظام.
3- صحيح البخاري في سبعة مواضع, ورواه مسلم, وأحمد, وابن سعد, والطبري وآخرون, استوفينا ذكرهم في موسوعة عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن.
ومن الغباء فضلاً عن الجفاء أن يزعم إنسان مسلم انّ النبي (صلى الله عليه وآله) الذي أعلن دعوته بمكة، وواصل سعيه في المدينة، وقاسى في سبيل نجاحها من الأذى ما قاساه، فأسس حكومته الرشيدة، وبلّغ شريعة الإسلام تامة غير منقوصة، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة تصلح اُمته إلاّ بيّنها لهم في سائر شؤون حياتهم، حتى المرء في مخدعه مع حليلته، وفي بيت الخلاء لقضاء حاجته، بما ينبغي وما لا ينبغي من سنن وآداب، فضلاً عن بيان الواجب والحرام وبقية الأحكام.
كيف يعقل انّه يترك اُمته هملاً على غير نهج واضح، وسبيل لائح في أمر من يتولى قيادتها من بعده؛ ليكفل لها النجاة من الهلكة والهداية من الضلالة ما دامت سائرة على سنته، وآخذه بشريعته؟ وهو القائل: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلاّ هالك»(2).
ولكنّها السياسة الرعناء مسخت العقول بطخية عمياء، فهي لا تنظر بعين البصيرة إلى تلك الأدلّة الكثيرة التي حذّرت الاُمة من العواقب الوخيمة لمخالفتها الرسول (صلى الله عليه وآله) في أوامره ونواهيه، وتناست ما روته عنه (صلى الله عليه وآله): «لا ترجعوا بعدي كفاراً...»(3).
____________
1- راجع كتاب علي إمام البررة 3: 347_ 361.
2- المستدرك على الصحيحين 1: 175.
3- شرح النووي على صحيح مسلم باب بيان معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله): (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) 3: 55.