الصفحة 493
وسؤال تاسع _ ومن حق القارئ أن يسأل _: لقد مرّ بنا مكرراً حديث الفلتة، وانّ عمر نفسه قال ذلك عن بيعة أبي بكر بأنّها فلتة، وقد روى ذلك البخاري في باب رجم الحبلى، ورواه غيره كما مرّ، ولما كانت الفلتة وفيها شر ولكن وقى الله شرها، فكيف لصاحب تلك البيعة الفلتة وفيها شر، الحق بأن يستخلف غيره، وهي باطلة لما فيها من شر، وما بني على الباطل باطل؟ وقد سمّاها أحمد أمين المصري (غلطة)(1).

وسؤال عاشر، وآخر وآخر وتبقى الأسئلة تترى، ولا جواب على صواب غير المكابرة من الاتباع والأذناب، الا فمن هو أوّل من أسّس أساس الظلم والجور على أهل البيت؟ فليجيبوا على هذا السؤال بفصيح المقال.

إن المسلم البصير بأمر دينه، لا يخشى من قراءة تاريخية تكشف له الصفحات المزوّرة، والأمجاد المفتعلة لشخصيات مهزوزة عقائدياً ومهزومة تاريخياً، ما دام من حقه النظر بعقل واع، ومدرك موازين الحق، فلا يخدعه التقديس الأعمى للموروث، الذي يخلط الحابل بالنابل ويساوي المظلوم بالظالم، وآخر دعواه (عفا الله عما سلف) وهذه بلية أكثر المسلمين في الأرض، ولابدّ من إعادة قراءة التاريخ قراءة واعية كي يمكن لنا تلافي ما قرأناه وسمعناه من أخطاء غيّرت كثيراً من المفاهيم الصحيحة، فأضفينا الشرعية على حكم كل حاكم ظالم، لأنّا قرأنا حديثاً مكذوباً: «أطعه وإن ضربك وأخذ مالك».

وبالتالي تولى سلاطين الجور والحكام الطغاة، فأحاطوا أنفسهم بحثالات لا تسوى شروى نقير، فصاروا يروون لهم ما يشاؤون من أكاذيب تدعم سلطانهم حسب الأهواء والشهوات.

____________

1- قال في كتابه يوم الإسلام: 54، فلما مات النبي (صلى الله عليه وآله) حصل هذا الاختلاف، فبايع عمر أبا بكر ثم بايعه الناس، وكان في هذا مخالفة لركن الشورى، ولذلك قال عمر: إنها غلطة (كذا) وقى الله المسلمين شرها، وكذلك كانت غلطة بيعة أبي بكر لعمر.


الصفحة 494
وفيما نحن بصدده لا استغناء لنا عن قراءة التاريخ بصفحاته، لغربلة ما فيه من كذب فاضح ببصماته، وادانة من أحدث الانحراف وتنكب الطريق الجدد فابتعد عن الصواب، فأورد الأمة _ شارب _ بوءة، فثارت الفتن حتى اليوم، وتوالت المآسي يتبعها بعضها بعض كقطع الليل المظلم، ولا شك أنه سوف يتحمل وزر فعله ووزر من تابعه وشايعه لقوله (صلى الله عليه وآله): «من سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها»(1).

وبتحديد المواقف تتضح هوية الأشخاص قرباً وبعداً من الدين، وهذا أمر طبيعي لمعرفة المحق من المبطل، وفيصل الحكم انّما هو القرآن الكريم والسنة النبوية قولاً وفعلاً وتقريراً، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال التخلّي عن هذين العمودين: (القرآن والسنة) ومتى تخلّينا عنهما أو عن أحدهما فلسنا بمسلمين عملاً، وإن كانت بطاقة الهوية فيما يكتب فيها الديانة مسلم، فذلك لا يجدي يوم القيامة عند الحساب بين يدي من لا يخفى عليه خافية.

ولما كان النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) قد جاء برسالة فبلّغها، وشريعة شرّعها، وترك أمته على النهج الواضح والطريق المستقيم، ليس من حق أيّ إنسان تبديل حكم من الأحكام، ولا تعدي حدّ من حدود الإسلام، لأنه (صلى الله عليه وآله): {وَمَا يَـنْطِقُ عَنِ الهَوَى إنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى}(2).

لذلك يجب على من كان مسلماً صحيح العقيدة الإذعان لما جاء به، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(3)، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ}(4).

____________

1- المصنف لابن أبي شيبة 3: 109, وراجع موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف 8: 319، لمعرفة بقية المصادر.

2- النجم: 3 _ 4.

3- الحشر: 7.

4- النور: 63.


الصفحة 495
هذا النبي العظيم الذي أنقذ الأمة من حيرة الجهالة إلى نور الحق والعدالة، لم يسأل أمته أجراً على جهوده وجهاده طيلة ثلاثة وعشرين عاماً، سوى مودة أهل بيته، كما قال تعالى: {قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى}(1).

وأقرب الناس إليه هم أهل بيته: (علي وفاطمة والحسن والحسين) الذين جللهم بالكساء، وفيهم نزلت آية التطهير: {إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(2)، وعرفوا بأهل الكساء، وقد روى أبو بكر خبر الخيمة التي ضربها عليهم النبي أمام المسلمين وقال: (رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيّم خيمة وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: معاشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لمن حاربهم، وليّ لمن والاهم، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ طيّب المولد، ولا يبغضهم إلاّ شقي الجدّ رديء الولادة) وقد مر هذا برواية المحب الطبري فراجع النص الثامن.

فماذا كان الموقف المحزن المخزي من المسلمين أزاء أهل بيته أولئك؟ ومَن هو أول من أسس أساس الظلم عليهم، وبنى عليه بنيانه؟ ألم يكن أبو بكر هو الذي قال لعمر: إئتني به _ بعلي _ بأعنف العنف؟ ألم يكن هو الذي قال لعمر: فإن أبوا فقاتلهم؟

ألم يكن هو الذي ندم بعد ما اقترف في حق أهل البيت، وذلك عند حضور أجله، فقال في مثلثاته وقد مرّ ذكرها وذكر مصادرها وفيها: (ليتني لم أكشف عن بيت فاطمة وإن اشتمل على حرب).

ألم يكن هو الذي كان ينضض بلسانه عند موته ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد)؟

____________

1- الشورى: 23.

2- الأحزاب: 33.


الصفحة 496
وهل تجدي ليتني؟ قال الشاعر:


ليت وهل تجدي شيئاً ليت ليت شباباً بوع فاشتريت

وكيف ينفعه الندم بعدما سمعت اذناه ووعاه قلبه ما قاله النبي (صلى الله عليه وآله) مِن لعن مَنْ آذى عترته، وهو _ أبو بكر _ يقول: (علي عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله)).

ألم يقل النبي (صلى الله عليه وآله): «اشتد غضب الله، وغضب رسوله، وغضب ملائكته على من هراق دم نبي وآذاه في عترته»(1). ألم يقل النبي (صلى الله عليه وآله): «يا فاطمة إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك»(2). ألم يقل (صلى الله عليه وآله): «فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني».

وهنا يقفز إلى الذهن السؤال الطويل العريض:

هل إنّ فاطمة الزهراء ماتت وهي غضبى على أحد؟ فيكون ذلك فيمن غضب الله تعالى عليه، وغضب عليه رسوله، ومن غضب الله عليه ورسوله فمأواه جهنم وساءت مصيراً.

فهل لنا بعد هذا أن نتولّى من أغضب فاطمة (عليها السلام) حتى ماتت وهي غضبى عليه؟ والله سبحانه يقول في كتابه: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَـنُوا لا تَـتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَـئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ أصْحَابِ القُـبُورِ}(3).

وأخيراً فهل يجوز لعن من آذى فاطمة (عليها السلام) لقوله (صلى الله عليه وآله): «من آذى فاطمة فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى» والله سبحانه يقول: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وأعدَّ لَهُم عَذاباً مُهِينَاً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإثْماً مُبِيناً}(4).

____________

1- ذخائر العقبى: 39.

2- نفس المصدر: 39.

3- الممتحنة: 13.

4- الأحزاب: 57 _ 58.


الصفحة 497
ولتكن لدى القارئ صراحة الحق وجرأة الإيمان، فيجيب ولا يجمجم في الجواب، ففاطمة الزهراء (عليها السلام) جابهت وجبهت الشيخين بذلك حين أتياها معتذرين، فلم تعذرهما وقالت لهما: «أرأيتكما إن حدثتكما حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعرفانه وتعملان به»؟ قالا: نعم، فقالت: «نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني»؟ قالا: نعم سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قالت: «فإنّي أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأشكونكما إليه»، فبكى أبو بكر حتى كانت نفسه تزهق وهي تقول: «والله لأدعونّ الله عليكما في كل صلاة أصليها»(1).

فمن غضبت عليه وضلّت تدعو الله عليه لا يجوز لنا أن نتولاه أيّاً كان ذلك الإنسان.

مواقف متباينة وأقوال متضاربة:

قالت عائشة: ما رأيت أحداً كان أصدق منها _ أي فاطمة _ الا أن يكون الذي ولدها (صلى الله عليه وآله)(2).

وقالت أيضاً: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً وحديثاً برسول الله (صلى الله عليه وآله) في قيامه وقعوده من فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)(3).

قالت: وكانت إذا دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجلسه(4).

____________

1- راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة: 13 _ 14.

2- أخرجه أبو عمر وعنه في ذخائر العقبى: 44.

3- نفس المصدر: 40.

4- ذخائر العقبى: 41، خرّجه الترمذي وأبو داود والنسائي.


الصفحة 498
هذا قول عائشة لكن أباها أبا بكر أبى تصديق فاطمة (عليها السلام) حين طالبته بفدك بل وطالبها بالبينة.

روى البلاذري في فتوح البلدان(1): إنّ فاطمة (رضي الله عنها) قالت لأبي بكر الصديق: أعطني فَدَك فقد جعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي، فسألها البينة، فجاءت بأم أيمن ورباح مولى النبي (صلى الله عليه وآله) فشهدا لها بذلك، فقال: إن هذا الأمر لاتجوز فيه إلاّ شهادة رجل (وامرأتين).

فعش رجباً ترى عجباً، فاطمة الزهراء بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) المطهرة المعصومة بنص آية التطهير، لم يصدّقها أبو بكر، وقالوا عنه انه الصديق لأنه صدّق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وها هو يغتصب من ابنته فدكاً نحلتها من أبيها ثم يطالبها بالبينة، فمن هو الكاذب والصادق؟ عائشة أم أبوها؟ ومن هو المحق؟ ومن هو المبطل؟

ولا نبتعد عن الجواب إذ لا نجانب الصواب، ما دامت عائشة تشهد على أبيها بما يدينه وهو من عجائب العجاب.

فقد روى أحمد في مسنده(2) بسنده عن عروة بن الزبير أنّ عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) أخبرته: أنّ فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا نورّث، ما تركنا صدقة، فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، قال: وعاشت بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ستة أشهر.

والآن هل لسائل أن يقول لأبي بكر ومن شايعه: ما دمت لا تعترف لفاطمة (عليها السلام) بالعصمة والطهارة، وسألتها البينة، وأتتك بمن أتتك فلم تقبل منها، هلاّ قضيت كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قضى بشاهد ويمين كما في حديث ابن عباس في أول كتاب الأقضية من صحيح مسلم؟

____________

1- فتوح البلدان للبلاذري 1: 34 _ 35.

2- مسند أحمد 1: 34، ح25.


الصفحة 499
ثم ما بال النبي (صلى الله عليه وآله) خصّك بسماع هذا الحديث؟ ولم يسمعه غيرك ممن هو أولى منك بسماعه، لأنّه مورد ابتلائه كابنته وأزواجه، إنها فرية بلا مرية، وحبكة من غير حنكة، ومن يقرأ خطبة الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في احتجاجها على أبي بكر في مسألة الميراث، يبقى مبهوراً أمام تلك البلاغة الفاطمية، ولا عجب فإنّها لتفرغ عن لسان أبيها (صلى الله عليه وآله).

وقد تقدم شطر من الخطبة فيما نقلناه عن ابن أبي الحديد: «في الفصل الثالث: نصوص يجب أن تقرأ بامعان» فراجع.

وإنّ من قرأ الخطبة بتمامها، تتكشف عنه ضبابية الموروث، ويدرك أن لا مسوّغ لمسلم يوالي من أغضب فاطمة التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، وقد ماتت وهي غضبى على الشيخين، ويعني ذلك أنّها لم تعترف بإمامة أبي بكر.

والحديث النبوي الشريف: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» يقضي ببطلان إمامة أبي بكر، لأنّ فاطمة بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) ماتت وهي لا تقر له إمامته، بل نازعته مراراً في النحلة والميراث والفيء، وقد ماتت على ذلك وهي غضبى عليه، فهل يجرأ مسلم يتفوّه ويقول إنّها ماتت ميتة جاهلية، كيف وهي بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وممن طهرهم الله تعالى من الرجس تطهيراً، فتكون النتيجة انّ أبا بكر لم يكن إماماً بالحق لتتولاه فاطمة (عليها السلام) وتموت على ولائه، نعم هي كانت ترى إمامة ابن عمها الذي نصّبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم علماً وهادياً، وقد دافعت عنه كثيراً.

حديث معاشر الأنبياء لا نورّث:

انّ حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» حديث مكذوب على النبي (صلى الله عليه وآله) ، وهو القائل: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار»(1).

____________

1- أخرجه البخاري في صحيحه 1: 29 باب إثم من كذّب على النبي (صلى الله عليه وآله)، وساق الحديث بأسانيد؛متعددة عن علي والزبير وأنس وسلمة وأبي هريرة وتفاوت في بعض الألفاظ، وأخرجه في أماكن اُخرى من صحيحه, وأخرجه مسلم في صحيحه 1: 7 كما في المقدمة، وذكر حديث علي وأنس وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة بأسانيد مختلفة والفاظ متفاوتة، وأخرجه ابن ماجه، وأبو داود، والترمذي، وأحمد، والدارمي، والبيهقي، وابن حبان وآخرون كثيرون, راجع عنهم موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف 4: 524.


الصفحة 500
روى الحديث أبو بكر فقط وفقط، ثم تتابعت رواة السوء على دعمه في زعمه، ومهما يكن فلنا أن نسأل من البكريين: ما دام أبو بكر يروي الحديث وطبّقه عملياً مع فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ما باله لم يعامل ابنته كما عامل فاطمة (عليها السلام) في بيتها الذي تملّكته من دون حق تمليك من النبي (صلى الله عليه وآله) في حياته، وبقيت من بعده تتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم، حتى انّ أبا بكر وعمر دفنا فيه بعد إذنها، فهل كان يحق له ذلك؟ وهل كان يحق لها ذلك؟ مع أنّهم جميعاً أجانب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإن كان البيت ميراثاً وجب استئذان جميع الورثة، وإن كان صدقة وجب استئذان المسلمين، وإن كان ملكاً لعائشة كذّبها الحديث المشهور: «ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة»(1) ولم يرد في حديث: ما بين منبري وبيت عائشة روضة من رياض الجنة.

إنّها مسائل معضلة، لمن لا يريد فهم المشكلة، إنّها الدنيا وقد حليت في أعينهم فراقهم زبرجها، فارتكبوا كل أمر خطير، والحساب عسير.

ولو سلّم المجادل في صحة ما رواه أبوها وقال: يحق لعائشة في بيتها لا من جهة الإرث، لأنّه لها التسع من الثمن، ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) ملّكها في حياته، فلماذا لم تطالب هي ولا واحدة من بقية الأزواج ببينة على أنّ البيوت لهنّ نحلة من النبي (صلى الله عليه وآله)، كما طولبت الزهراء (عليها السلام) بالبينة على غلتها، إنّها مفارقات عجيبة.

____________

1- صحيح مسلم 4: 123، عن أبي هريرة، وعن عبد الله بن زيد المازني في باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة.


الصفحة 501
ورحم الله علي بن الفارقي مدرس العربية ببغداد، وقد سأله ابن أبي الحديد فقال: قلت له: أكانت فاطمة صادقة في دعواها؟ قال: نعم، قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فَدَك وهي صادقة؟ فتبسم ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فَدَك بمجرد دعواها، لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والمدافعة بشيء، لأنّه يكون قد سجل على نفسه بأنّها صادقة فيما تدّعي، كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيّنة ولا شهود(1).

وقفة ايضاح واستيضاح:

لابد للباحث عن الحقيقة، من معاناة البحث مهما تكثّرت المصاعب مما يعترض طريقه، وحديث: (لا نورّث ما تركنا صدقة) الذي رواه أبو بكر محتجاً به دفع مطالبة الزهراء (عليها السلام) بفدك نحلة وميراثاً، قد جرى عليه تحوير وتزوير، سواء في رواته أو روايته، وحتى فيما جرى الإختلاف والنقاش في قراءته.

ومهما تهضّمنا تزوير الرواة عدداً، فلا يسعنا ذلك في تعدد روايته، ولابدّ لنا من استبيان الصحيح في قراءته؛ لأنّ الإختلاف بين أنصار الخلافة وأنصار الإمامة، أحدث جدلاً في الحوار العقائدي، لا تزال مصادر التراث عند الطرفين تحتفظ بنماذج تتأرجح بين المكابرة والمصابرة، ويجد الباحث ذلك جليّاً عند من قرأ كلمة (صدقةٌ) بالرفع، كما هو شأن أنصار الخلافة ليتم لهم ما أراد أبو بكر من حجة الدفع، أمّا من قرأ الكلمة (صدقةً) بالنصب، كما هو شأن أنصار الإمامة ليتم لهم ما أرادوا من دفع الدفع.

وهكذا بقيت المكابرة تدفعها المصابرة في حدود الحوار العلمي، ولم يكن

____________

1- شرح النهج لابن أبي الحديد 16: 284.


الصفحة 502
الاختلاف وليد ساعة رواية من رواه، بل حدث بعد زمان خلافته، حيث نشط علماء الكلام من مدرسة الخلافة في توجيه قراءته بإعرابه بالرفع، ليرفعوا عنهم إصر الدفع، فكان من الطبيعي أن ينبري علماء الكلام من أنصار الإمامة إلى الرد على أولئك بتقريب قراءة النَصب لدفع حدة أهل النُصب، وهذا ما أسعر نار الخصام بين علماء الكلام، وسرى أوارها إلى علماء الحديث من أنصار الخلافة، ولا يبعد أن تكون السياسة دسّت أنفها في توسيع الفجوة.

ولو أردنا أن نفحص التراث السني بحثاً عن الصحيح في القراءة، سنجد سيلاً من صور الحديث المختلفة مع وحدة الراوي ووحدة السبب، وهذا مما يبعث على العجب، وقد يفاجأ القارئ إذا أحيط علماً بأنّ صور الحديث تجاوزت العشرة، وهو حديث واحد رواه أبو بكر، فمن أين جاء الاختلاف في الرواية بين روايات كتب الصحاح والسنن والمسانيد والتاريخ والسيرة؟

والجواب ببساطة: إنّما جاء من الرواة من بعد أبي بكر، فكلّما سمعوا نقداً له في دلالته، وضعوا ما يسدّ الثغرة ولو بتحوير في قراءته، ولما كان استعراض جميع التراث السني التي ذكرت الحديث بصوره المختلفة يحتاج وقتاً طويلاً، فسأكتفي بعرض صور الحديث المختلفة في كتابين، هما عند أنصار الخلافة من خيرة الصحاح، وما ورد فيهما معاً محكوم عليه بالصحة عندهم، والحديث الذي يرد فيهما معاً يقولوا عنه: متفق عليه ولا مجال لردّه؛ لأنّه أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين، والصيد كل الصيد في جوف الفراء.

فنقول: لقد ورد الحديث في صحيح البخاري في عدة مواضع نافت العشرة، كما ورد في صحيح مسلم في خمسة مواضع، وقد اختلفت صور الحديث فيهما اختلافاً بيّناً يوهن الاحتجاج بالحديث، ويكشف عن تعمّد الإبهام والإيهام لاستغفال القرّاء، وسد باب الاستيضاح والاستفهام، في وجه من يسأل، حتى ولو لم يرد الحجاج والخصام.


الصفحة 503
وإلى القارئ عرض صور الحديث عند البخاري، ومن بعد صوره عند مسلم.

فماذا عند البخاري؟

الجواب: عنده بصورة (لا نورّث ما تركنا صدقة) وعنده بصورة (لا نورّث ما تركنا فهو صدقة) وعنده بصورة ثالثة: (لا نورّث ما تركناه صدقة) وكل من هذه الصور الثلاث وردت في عدة مواضع من صحيح البخاري سأعرضها أمام القارئ سنداً ومتناً، معتمداً على طبعة بولاق الموثقة بأختام مشيخة الإسلام أيام عبد الحميد السلطان العثماني عام 1313 هـ، ليرى الاختلاف الموهن للاستدلال.

الصورة الأولى: وردت أولاً في كتاب الجهاد والسير(1)، قال البخاري: حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدّثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين، أخبرته أنّ فاطمة (عليها السلام) ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) سألت أبا بكر... أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لا نورّث ماتركنا صدقة).

فغضبت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ستة أشهر، قالت: وكانت فاطمة تسأل نصيبها مما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خيبر وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعمل به إلاّ وعملت به، فإنّي أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ، فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال: هما صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر، فهما على ذلك إلى اليوم.

____________

1- صحيح البخاري 4: 79، كتاب الجهاد والسير، باب فرض الخمس.


الصفحة 504
والسؤال الذي يفرض نفسه في المقام، من هو القائل: (فهما على ذلك إلى اليوم)؟ أهي عائشة؟ أو هو عروة؟ أو هو الزهري؟ أو هم الرواة من بعده؟ أو هو البخاري المتوفى 256 هـ؟.

الصورة الثانية: في كتاب الجهاد والسير(1) قال البخاري:

حدّثنا إسحاق بن محمد الفروي، حدّثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، وكان محمد بن جبير ذكر لي ذكراً من حديثه ذلك، فانطلقت حتى أدخل على مالك بن أوس فسألته عن ذلك الحديث، فقال مالك: بينا أنا جالس في أهلي حين قشع النهار، إذا رسول عمر بن الخطاب يأتيني فقال: أجب أمير المؤمنين، فانطلقت معه حتى أدخل على عمر، فإذا هو جالس على رمال سرير ليس بينه وبينه فراش، متكئ على وسادة من أدم، فسلّمت عليه ثم جلست، فقال: يا مال إنّه قدم علينا من قومك أهل أبيات، وقد أمرت فيهم برضخ فاقبضه فاقسمه بينهم، فقلت: يا أمير المؤمنين لو أمرت به غيري، قال: اقبضه أيّها المرء.

فبينا أنا جالس عنده أتاه حاجبه يرفأ فقال: هل لك في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد بن أبي وقاص يستأذنون؟ قال: نعم، فأذن لهم فدخلوا فسلّموا وجلسوا، ثم جلس يرفأ يسيراً ثم قال: هل لك في علي وعباس؟ قال: نعم، فأذن لهما فسلّما فجلسا، فقال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا، وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) من بني النضير، فقال الرهط عثمان وأصحابه: يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر.

قال عمر: تيدكم أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لا نورّث ما تركنا صدقة) يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله) نفسه؟ قال

____________

1- المصدر نفسه 4: 79 - 81، كتاب الجهاد والسير، باب فرض الخمس.


الصفحة 505
الرهط: قد قال ذلك، فأقبل على علي وعباس فقال: أنشدكما الله أتعلمان انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قال ذلك؟ قال: قد قال ذلك.

قال عمر: فإنّي أحدثكم عن هذا الأمر، إنّ الله قد خصّ رسوله (صلى الله عليه وآله) في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره، ثم قرأ: {وَمَا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} _ إلى قوله _: {قَدِيرٌ}(1) ، فكانت هذه خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، والله ما احتازها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، قد أعطاكموه وبثّها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي يجعله مجعل مال الله، فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك حياته، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثم قال لعلي وعباس: أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك؟

قال عمر: ثم توفى الله نبيّه (صلى الله عليه وآله) فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقبضها أبو بكر فعمل فيها بما عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والله يعلم إنّه فيها لصادق بارّ راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر فكنت أنا ولي أبي بكر، فقبضتها سنتين من أمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما عمل فيها أبو بكر، والله يعلم أنّي فيها لصادق بارّ راشد تابع للحق، ثم جئتماني تكلّماني وكلمتكما واحدة وأمركما واحد، جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا _ يريد علياً _ يريد نصيب امرأته من أبيها، فقلت لكما: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لا نورّث ما تركنا صدقة).

فلما بدا لي أن أدفعه إليكما، قلت: إن شئتما دفعتها إليكما على أنّ عليكما عهد الله وميثاقه فتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبما عمل فيها أبو بكر، وبما عملت فيها منذ وليتها، فقلتما: إدفعها إلينا فبذلك دفعتها إليكما، فأنشدكم

____________

1- الحشر: 6.


الصفحة 506
بالله هل دفعتها إليهما بذلك؟ قال الرهط: نعم، ثم أقبل على علي وعباس فقال: أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك؟ قالا: نعم، قال: فتلتمسان منّي قضاءً غير ذلك؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك، فإن عجزتما عنها فادفعاها إليَّ فإنّي أكفيكماها(1).

الصورة الثالثة: في باب مناقب قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنقبة فاطمة (عليها السلام) بنت النبي (صلى الله عليه وآله) وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «فاطمة سيدة نساء أهل الجنة»(2)، قال البخاري:

حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال: حدّثني عروة بن الزبير، عن عائشة أنّ فاطمة (عليها السلام) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي (صلى الله عليه وآله) فيما أفاء الله على رسوله (صلى الله عليه وآله)، تطلب صدقة النبي (صلى الله عليه وآله) التي بالمدينة، وفدك، وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا نورّث ما تركنا فهو صدقة، إنّما يأكل آل محمد من هذا المال _ يعني مال الله _ ليس لهم أن يزيدوا على المأكل، وإنّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقات رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي كانت عليها في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)، ولأعملنّ فيها بما عمل فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتشهّد عليّ ثم قال: إنّا عرفنا يا أبا بكر فضيلتك، وذكر قرابتهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحقهم، فتكلّم أبو بكر فقال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي.

____________

1- لقد قال عمر فيما قال: ثم توفى الله نبيّه (صلى الله عليه وآله) فقال أبو بكر: أنا وليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقبضها... وقال أيضاً: ثم توفى الله أبا بكر فكنت أنا وليّ أبي بكر فقبضتها سنتين...، فمن حق السائل أن يسأل كيف صدّق الصحابة الحضور وصادقوا على قول عمر: أبو بكر وليّ رسول الله، وعمر وليّ أبي بكر، وفهم الجميع عموم الولاية، ولم يفهموا جميعاً ذلك العموم من قول النبي (صلى الله عليه وآله) في غدير خم: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) وفي لفظ: (من كنت وليّه فعلي وليّه) وهذا ما قاله في أكثر من مورد، ورواه أكثر من واحد، وأخرجه أكثر من عشرين حافظاً فيما أحصيت، أمثال ابن حبان في صحيحه، وأحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه، والنسائي في خصائصه، والطبراني في معجمه الكبير، وغيرهم وغيرهم.

2- صحيح البخاري، باب مناقب قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) 5: 20.


الصفحة 507
الصورة الرابعة قال البخاري(1):

حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النصري، أنّ عمر بن الخطاب دعاه إذ جاءه حاجبه يرفأ فقال: هل لك في عثمان، وعبد الرحمن، والزبير، وسعد يستأذنون؟ فقال: نعم، فأدخلهم، فلبث قليلاً ثم جاء فقال: هل لك في عباس وعلي يستأذنان؟ قال: نعم، فلما دخلا قال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا، وهم يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) من بني النضير، فاستبّ علي وعباس، فقال الرهط: يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر.

فقال عمر: اتئدوا، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لا نورّث ما تركنا صدقة) يريد بذلك نفسه؟ قالوا: قد قال ذلك، فأقبل عمر على عباس وعلي فقال: أنشدكما بالله هل تعلمان أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قال ذلك؟ قالا: نعم، قال: فإنّي أحدّثكم عن هذا الأمر، إنّ الله سبحانه كان خص رسوله (صلى الله عليه وآله) في هذا الفيء بشيء لم يخصه أحداً غيره، فقال جلّ ذكره: {وَمَا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلا رِكَاب} _ إلى قوله _: {قَدِيرٌ}(2) ، فكانت هذه خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم والله ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم، لقد أعطاكموها وقسّمها فيكم، حتى بقي هذا المال منها، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مال الله.

فعمل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) حياته، ثم توفي النبي (صلى الله عليه وآله) فقال أبو بكر: فأنا وليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقبضه أبو بكر فعمل فيه بما عمل به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنتم حينئذٍ _ فأقبل

____________

1- صحيح البخاري 5: 89، باب حديث بني النضير، ومخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليهم في دية الرجلين وما أرادوا من الغدر برسول الله (صلى الله عليه وآله).

2- الحشر: 6.


الصفحة 508
على علي وعباس وقال: _ تذكران أنّ أبا بكر فيه كما تقولان، والله يعلم أنّه فيه لصادق بارّ راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر فقلت: أنا ولي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر(1)، فقبضته سنتين من إمارتي أعمل فيه بما عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وابو بكر، والله يعلم أنّي فيه صادق بارّ راشد تابع للحق، ثم جئتماني كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع، فجئتني _ يعني عباساً _ فقلت لكما: انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لا نورّث ما تركنا صدقة)، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت: إن شئتما دفعته إليكما على أنّ عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبو بكر، وما عملت فيه مذ وليت، وإلاّ فلا تكلّماني، فقلتما: ادفعه إلينا بذلك فدفعته إليكما، فتلتمسان منّي قضاء غير ذلك، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنه فادفعا إليّ فأنا أكفيكما. قال: فحدّثت هذا الحديث عروة بن الزبير فقال: صدق مالك بن أوس.

الصورة الخامسة:... سمعت عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) تقول: أرسل أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) عثمان إلى أبي بكر يسألنه ثمنهنّ مما أفاء الله على رسوله (صلى الله عليه وآله)، فكنت أنا أردهنّ، فقلت إليهنّ: ألا تتقين الله، ألم تعلمن أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقول: (لا نورّث ما تركنا صدقة) يريد بذلك نفسه، إنّما يأكل آل محمد (صلى الله عليه وآله) في هذا المال، فانتهى أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) إلى ما أخبرتهنّ، قال: فكانت هذه الصدقة بيد علي، منعها علي عباساً فغلبه عليها، ثم كان بيد حسن بن علي، ثم بيد حسين بن علي، ثم بيد علي بن حسين وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولونها، ثم بيد زيد بن حسن، وهي صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حقاً.

____________

1- لقد مرّ في الصورة الثالثة من النص قول عمر: (فكنت أنا ولي أبي بكر) وفي هذا المورد ارتقى فقال: أنا ولي رسول الله وأبي بكر، فمن رقّاه؟


الصفحة 509
الصورة السادسة قال البخاري(1): حدّثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنّ فاطمة (عليها السلام) والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما، أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال أبو بكر: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: (لا نورث ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمد في هذا المال) والله لقرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحب إليَّ أن أصل من قرابتي.

الصورة السابعة قال البخاري(2):

حدّثنا يحيى بن بكر، حدّثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنّ فاطمة (عليها السلام) بنت النبي (صلى الله عليه وآله) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لا نورّث ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمد (صلى الله عليه وآله) في هذا المال) وإنّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها عليّ ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلّى عليها.

وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك كراهية لمحضر عمر، فقال عمر: لا والله لا تدخل عليهم وحدك، فقال أبو بكر: وما عسيتهم أن يفعلوا بي، والله لآتينّهم.

فدخل عليهم أبو بكر، فتشهد علي فقال: إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك، ولكنّك استبددت علينا بالأمر، وكنّا نرى

____________

1- صحيح البخاري 5: 90.

2- صحيح البخاري 5: 139، باب غزوة خيبر.