الصفحة 167

3- نظرة في المصادر:

إنّما يكون اعتماد الباحث على المصدر الذي يرجع إليه في التصديق لما فيه، إما من توثيق خارجي كأن يوثقه أهل الخبرة من الاعلام، أو من اتساق بين مرويّاته مع مرويات الآخرين ممّن يوثق بهم، فتحصل القناعة الكافية بصحة المروي في المصدر.

ونحن الآن إذا رجعنا إلى المصادر التي ذكرت الأحداث التي صاحبت سقوط المحسن السبط السقط، نجد الإتساق بين مروياتها جميعاً إجمالاً، وإن تفاوتت في التفصيل، كما سيأتي عرض النصوص المنقولة عنها في الفصل الثالث، والإتساق والاتفاق عنصر مهم في توثيق الحَدَث، وربما كان أقوى من توثيق عالم واحد لكتاب واحد، فالاتساق مضموناً يعني الاتفاق رواية، وتصديق بعضٍ بعضاً.

بقي علينا التحقق من صحة نسخة المصدر ونسبتها إلى صاحبه، ليتم التوثيق والاتساق، وحينئذٍ تحصل الثقة فيتم الاستدلال.

والآن إلى مرور عابر على بعض المصادر التي سنقتطف منها نصوصاً نستدل بها على فظاعة الأحداث يوم سقوط (المحسن السبط السقط) أول ضحايا العنف في أحداث السقيفة، أو اختلفت روايتها عن مؤلفيها، لوقوع ذلك في ضمن جملة من المصادر، وعلى سبيل المثال كصحيح البخاري، وحسبنا "دليلاً ظاهراً"، الاطلاع على طبعة بولاق التي سودت هوامشها باختلاف النسخ حسب رموز رواتها، وهذا ما يسبب عناء للباحث، ويثير الشكوك، ويرفع أصابع الإتهام مشيرة إلى أكثر من واحد، إلى الراوي؟ إلى الناسخ؟ إلى المحقق؟ إلى الناشر؟ وكل

الصفحة 168
هؤلاء أطراف تحوم حولهم الشبهة، ولذلك كان علينا أن نلقي نظرة عابرة على بعض المصادر التي سننقل عنها بعض النصوص في رسالتنا هذه عن السيد (المحسن السبط).

1 _ كتاب سيرة ابن هشام، فقد اختان صاحبها ضميره حين أخفى _ رهبة أو رغبة _ بعض الحقائق، وقد مرّت الإشارة إلى حذفه اسم العباس من قائمة أسرى بدر، وما صنعه ابن هشام في سيرة ابن إسحاق.

2 _ كتاب طبقات ابن سعد، وهذا الكتاب لم يصل إلينا كاملاً في طبعاته الأولى، ومع ذلك فثمّة فيه نصوص نافعة ستأتي في الفصل الثالث.

3 _ كتاب (المصنف) لابن أبي شيبة، وهذا الكتاب تلاعبت الأهواء في المنقول عنه في جملة من المصادر التي روت الحدث بسنده، كما ستأتي الإشارة إليه.

4 _ كتاب (المعارف) لابن قتيبة، تلاعبت رواته عن مؤلفه، فاختلفت رواية تلاميذ ابن قتيبة لكتابه (المعارف) فضاعت منه نصوص منقولة عنه، ولم نقف عليها فيما وصلت إلينا من نسخه، إلاّ أنّ مصادر ثانوية نقلت ذلك أو أشارت إليه.

وسيأتي مزيد بيان عن ذلك في آخر الرسالة في الملحق الثاني، وفيما يتعلّق بموضوع رسالتنا (المحسن السبط مولود أم سقط) وجدنا ابن قتيبة معدوداً في كل فصل من الفصول الثلاثة من الباب الثاني كما مر.

ففي الفصل الأول: كان معدوداً مع الّذين ذكروا (المحسن) ولم يذكروا عن موته شيئاً، فقد ورد في كتاب المعارف(1) ذكره معدوداً مولوداً.

وفي الفصل الثاني صار ابن قتيبة مذكوراً مع الّذين ذكروا (المحسن) مولوداً ومات صغيراً، كما مرّ لما ورد في كتاب المعارف أيضاً(2).

____________

1- كتاب المعارف: 210.

2- المصدر نفسه: 211.


الصفحة 169
وفي الفصل الثالث كان ابن قتيبة معدوداً مع الّذين ذكروا (المحسن) وأنه مات سقطاً، كما مر، وهذا ما لم نجده في المطبوع من كتاب المعارف سواء المحقق منه أو غير المحقق، فمن الذي غص بذكر النص فابتلعه على مضض؟!

ولدى التحقيق وجدنا الرواة لكتاب المعارف عن مؤلفه ابن قتيبة، هم الّذين يتحملون قسطاً من الوزر في موضوع (المحسن) ، كما ستأتي الاشارة إليه في الملحق الخاص بكتاب (المعارف) أما من الذي يتحمل الوزر في حذف النص الآتي في اسقاط (المحسن) فذلك ما لم أقف عليه فعلاً.

والذي يجب التنبيه عليه في المقام هو توثيق ما نقل من نص في اسقاط (المحسن) ، لقد روى لنا الحافظ ابن شهرآشوب السروي (ت 588 هـ)، عن كتاب المعارف النص التالي: (وفي معارف القتبي: أن محسناً فسد من زحم قنفذ العدوي).

وهذا ما خلت عنه نسخ (المعارف) المطبوعة، فبين يدي طبعتان من الكتاب، الأولى مطبوعة سنة 1253 هـ بدون تحقيق، والثانية مطبوعة سنة 1960م بتحقيق الدكتور ثروت عكاشة، وليس فيها النص المحكي عن المعارف، ولمّا كان النص ذا دلالة واضحة وصريحة في الإدانة، فليس متوقعاً أن يسلم من أيدي الخيانة.

وقد ينطق سائل: كيف نثق بصحة رواية الحافظ ابن شهرآشوب السروي وهو من شيوخ الشيعة؟ والجواب ببساطة هو أن نقرأ توثيق الرجل على لسان غير الشيعة: كالصفدي، وابن حجر، والسيوطي، والداودي وغيرهم، فكلّهم أثنوا عليه بما هو أهله، ولنقرأ ما قاله الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات(1):

(أحد شيوخ الشيعة، حفظ أكثر القرآن وله ثمان سنين، وبلغ النهاية في أصول الشيعة، كان يرحل إليه من البلاد، ثم تقدم في علم القرآن والغريب

____________

1- الوافي بالوفيات 4: 146.


الصفحة 170
والنحو، وعظ على المنبر أيام المقتفي ببغداد، فأعجبه وخلع عليه، وكان بهيّ المنظر، حسن الوجه والشيبة، صدوق اللهجة، مليح العبارة، واسع العلم، كثير الخشوع والعبادة والتهجد، لا يكون إلاّ على وضوء، أثنى عليه ابن أبي طي في تاريخه ثناء كثيراً...).

ولم نذكر باقي الترجمة لطولها، كما لا نذكر ما قاله عنه ابن حجر في لسان الميزان(1) ، والسيوطي في بغية الوعاة(2) ، والداودي في طبقات المفسرين(3) ، فكلّهم أثنوا عليه ثناءاً عاطراً حسناً فراجع.

إذن فمن كان بهذه المثابة من الدين والعلم، لا يتطرق إليه الريب في حكايته ما وجده في كتاب معارف القتبي _ كما سماه _ من زحم قنفذ وسقوط المحسن.

ويزيدنا إيماناً بصحة ما حكاه ذلك الشيخ الجليل، أنّ الحافظ الكنجي الشافعي(4) صاحب كتاب (كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)) قد أكّد خبر الإسقاط نقلاً عن ابن قتيبة فقال: (وهذا _ الإسقاط _ شيء لم يوجد عند أحد من أهل النقل إلاّ عند ابن قتيبة).

ولمّا لم يذكر الحافظ الكنجي اسم الكتاب الذي ذكر فيه ابن قتيبة ذلك، كان من المرجح عندي هو كتاب (المعارف) الذي سبق للحافظ ابن شهرآشوب النقل عنه.

____________

1- لسان الميزان 5: 310.

2- بغية الوعاة: 77.

3- طبقات المفسرين 2: 210.

4- لمزيد من المعرفة بالحافظ الكنجي الشافعي تحسن مراجعة مقدمة كتابه (البيان في أخبار صاحب الزمان) لمحمد مهدي الخرسان, فهي مقدمة ضافية, كما في طبعة النجف بمطبعة النعمان، وأوفى منها في طبعة بيروت منشورات دار الهادي.


الصفحة 171
5 _ كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة، وشهرة نسبة الكتاب _ أيّ كتاب كان _ إلى مؤلف ما، تستبعد عنها كثيراً من الاحتمالات المشككة، فإذا كانت هناك مؤشرات ثبوتية بتوثيقه يقوي بعضها بعضاً تحصل القناعة لدى من يرى صحة النسبة، أما الّذين تستحكم عندهم الشبهة، فيبقون عند رأيهم، وعليهم البحث حتى يثبت لهم وجه الحق، والناس أحرارٌ في آرائهم.

ولمّا كان كتاب (الإمامة والسياسة = تاريخ الخلفاء الراشدين) من الكتب التي حامت حوله الشبهات، وكادت تلفه غياهب الظلمات، فشك غير واحد في صحة نسبته إلى ابن قتيبة، وخلص إلى النفي بعد أن ساق عدة ملاحظات تمسك بها المشككون، وجلّها لا بل كلّها لا تخلو من مناقشة.

وستأتي تلك الملاحظات مع المناقشات في آخر الرسالة في الملحق الثالث، حيث ستكون النتيجة اعتماد الكتاب بعد صحة نسبته إلى ابن قتيبة، ولا مانع من أخذ النص منه في الأحداث التي أصابت المسلمين بهلع وفزع بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وتزامنت مع سقوط (المحسن السبط) لاتساق ما ورد في الكتاب مع ما ورد في المصادر الأخرى.

6 _ كتاب (الاستيعاب) لأبي عمر ابن عبد البر المالكي، ويعتبر من أمّهات كتب التاريخ لمعرفة الصحابة، وقد اعتمده كلّ من ابن الأثير في كتابه (أسد الغابة) وابن حجر في كتابه (الإصابة) وغيرهما ممّن بحث في تاريخ الصحابة، وقد قال هو عن كتابه: (ومن وقف على ما ذكرنا في كتابنا هذا من أسماء الصحابة وما تضمنه من عيون أخبارهم، فقد أخذ بحظ من علم الخبر ومعرفة الحديث...)(1).

____________

1- الاستيعاب: 1973.


الصفحة 172
ومع هذا كلّه فالكتاب لا يخلو من هفوات وأكثر من هنات، ومهما أحسنّا الظن بمؤلّفه الذي مرّت ترجمته، وما قرأناه من وصفه (كان ديّناً ثقة...) لكن يبقى في النفس من وصفه بذلك ريب، إذ أنّه روى خبر التهديد بالاحراق عن زيد بن أسلم عن أبيه... وأبوه كان مولى لعمر بن الخطاب، وممّن حمل معه الحطب في النفر الذي أتوا إلى بيت فاطمة (عليها السلام)، فهو من شهود الواقعة، وعنصر المشاهدة في الرواية يزيدنا وثوقاً بها.

أقول: روى ابن عبد البر هذا الخبر عن زيد بن أسلم عن أبيه في الاستيعاب(1) ، وفيه قول عمر لفاطمة (عليها السلام): (ولقد بلغني أنّ هؤلاء النفر يدخلون عليك، ولئن يبلغني لأفعلنّ ولأفعلنّ) هكذا رواه ولم يذكر التهديد بالإحراق صريحاً، بل كتم ذلك وكنى عنه بقوله: (لأفعلنّ ولأفعلنّ) وإذا رجعنا إلى بقية المصادر التي ذكرت التهديد بالإحراق صراحة، نجدها تنقل ذلك برواية زيد بن أسلم عن أبيه، فقد روى ذلك ابن أبي شيبة في كتابه (المصنف)(2) ولفظه: (وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بهم أن يحرق عليهم البيت..)، ورواه غيره كما ستأتي مصادره في الفصل الثالث في نصوص يجب أن تقرأ بإمعان. فلماذا انقلب التهديد الصريح إلى تهديد مبطّن عند ابن عبد البر، الذي أثبت بفعله مكذوب الثناء عليه (كان ديّناً ثقة...) فما كان في فعله ذلك برّاً ولا تقياً.

7 _ كتاب (الأموال) لأبي عبيد (ت 224 هـ)، فقد تعمد الإيهام والاستبهام في كتابه ذلك حين روى خبر عبد الرحمن بن عوف مع أبي بكر قبل موته بخمس عشرة ليلة، وفيه مثلثات أبي بكر نادماً على ما فعل وما لم يفعل، فكان من

____________

1- الاستيعاب: 975.

2- المصنف 14: 567.


الصفحة 173
خبره قول أبي بكر: (أما الثلاث التي فعلتها وودت أنّي لم أفعلها: فوددت أنّي لم أكن فعلت كذا وكذا لخلة ذكرها) قال أبو عبيد: لا أريد ذكرها.

وهذا ما جعلنا نهزأ بمن يتكتم على الحق لئلاّ يظهر للناس فيعرفوا الحق لأهله، فأبو بكر يصرّح بماذا فعله وود أنّه لم يفعله نادماً، يأتي أبو عبيد بعد أكثر من قرنين من الزمان، فيقول: (لخلة ذكرها لا أريد ذكرها) لماذا؟ فهل أنت أحرص على أبي بكر من نفسه؟ فهو يذكر تلك الخِلة وأنت لا تريد ذكرها، إنّها لملكية فوق الملك، وهذه بلية شملت آخرين من المؤرخين أشير إلى بعضهم هنا وأترك ذكر المثلثات، إذ سيأتي تمام ذكرها في بداية الفصل الثالث في أول (نصوص يجب أن تقرأ بإمعان)، موثقة رواياتها من مصادر كثيرة تناهز العشرة وربما تزيد فانتظر.

8 _ كتاب (الأموال) لحميد بن زنجويه (ت 251 هـ) ، وفيه ورد خبر المثلثات مرّتين، ففي الأولى ذكر النص بسند رجال ثقات وليس في النص أيّ تلاعب، لكن حين ذكره ثانية بسنده دون سنده في المرة الأولى، وجدنا يكنى بـ (كذا وكذا لشيء ذكره؟!).

9 _ كتاب (الكامل) للمبرد (ت 285 أو 286 هـ)، وهذا الكتاب من عيون الكتب الأدبية، تتخلله نكات تاريخية، ذات دلالة يعني الباحث بها، ومنها ذكره خبر أبي بكر المشار إليه آنفاً من دون ذكر المثلثات، وهذا مما يؤاخذ عليه.

10 _ كتاب مروج الذهب للمسعودي، وهذا فيه مواطن تستدعي الوقوف عندها لسنا بصدد ذكرها فعلاً، لكن ما يستدعي التنبيه عليه في خصوص ما يتعلق بالمقام، هو رواية خبر المثلثات الآنف الذكر، وجاء فيه:

(ومرض أبو بكر قبل وفاته بخمسة عشر يوماً، ولمّا احتضر قال: ما آسى على شيء إلاّ على ثلاث فعلتها وددت أنّي تركتها، وثلاث تركتها وددت أنّي فعلتها،

الصفحة 174
وثلاث وددت أنّي سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنها، فأما الثلاث التي فعلتها ووددت أنّي تركتها: فوددت أنّي لم أكن فتشت بيت فاطمة، وذكر كلاماً كثيراً...).

فبتر المسعودي الكلام الكثير من أبي بكر، وانّها لبلية المؤرّخ حين يعيش أزمة الضمير الخانقة، فهو لا يقوى _ بجرأة وشجاعة _ على نقل الوقائع كما هي بحذافيرها وجميع حيثياتها، إما لغلبة العاطفة بحكم الولاء والانتماء، أو تقية من سلطان حاكم يخشى بطشه، أو خوفاً من هياج رعاع الناس حيث لا تحتمل نفوسهم قساوة المصارحة، ويبدو أنّ المسعودي كان يعيش تلك الدوّامة، فأعرض عن ذكر الكلام الكثير لأبي بكر.

وفي كتابه ما ستأتي الإشارة إليه من جناية الناشرين أو المحققين عند ذكر ما ننقله من نصوص يجب أن تقرأ بإمعان في الفصل الثالث.

11 _ كتاب (إعجاز القرآن) للباقلاني (ت 403 هـ)، وهو معروف بتعصبه، ومن يقرأ كتابه (التمهيد) لا يحتاج في إثبات نُصبه إلى مزيد.

فهذا نقل في كتابه إعجاز القرآن(1) بتعليق السلفي محب الدين الخطيب: روى خبر دخول عبد الرحمن بن عوف على أبي بكر، ولكنه بتر المثلثات كلّها جملة وتفصيلاً، ومن الطبيعي أن لا يعلّق محب الدين الخطيب منبهاً على ذلك.

غير أنّ الكتاب أعيد طبعه في دار المعارف بتحقيق السيد أحمد صقر، وكان بحق صقراً حيث انقضّ على ما ذكره المبرّد في تفسير بعض جمل الخبر، وأشار في الهامش إلى ذلك، ولم يذكر عن المثلثات المحذوفة شيئاً(2).

كما لم يشر في الهامش إلى تاريخ الطبري والعقد الفريد اللذين ورد فيهما الخبر بتمامه وكماله مشتملاً على المثلثات، وأحسبه فعل ذلك لئلاّ يحرج نفسه ويجرح عاطفة قرّائه.

____________

1- إعجاز القرآن: 116.

2- إعجاز القرآن: 210 _ 211.


الصفحة 175
12 _ كتاب (حلية الأولياء) لأبي نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ)، أطنب مترجموه في الثناء عليه حتى قال فيه ابن مردويه: كان أبو نعيم في وقته مرحولاً إليه، لم يكن في أفق من الآفاق أحد أحفظ منه ولا أسند منه، كان حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، وكلّ يوم نوبة واحد منهم يقرأ ما يريد إلى قريب الظهر، فإذا قام إلى داره ربما كان يقرأ عليه في الطريق جزؤه، لم يكن له غذاء سوى التسميع والتصنيف)(1).

وهذا الحافظ ممّن بتر المثلثات من حديث أبي بكر كما صنع في حلية الأولياء(2).

13 _ وعلى سبيل من مضى جرى من أتى بعدهم حتى من الباحثين المحدثين.

فهذا أحمد زكي صفوت ذكر في كتابه جمهرة خطب العرب(3) حديث عبد الرحمن بن عوف مع أبي بكر في مرضه الذي مات فيه، وذكر كلام من الرجلين إلاّ مثلثات أبي بكر فقد بترها، مع أنّه ذكر في مصادره تاريخ الطبري والعقد الفريد، واعتمد عليهما في نقل الخبر، لكنه فيما يبدو يعيش أزمة تاريخ في ذمة مؤرخ، فاقتطع ما ذكره وترك ما لا يعجبه ذكره، حفاظاً على قداسة الموروث.


*  *  *

____________

1- تذكرة الحفاظ 3: 1096.

2- حلية الأولياء 1: 34.

3- جمهرة خطب العرب 1: 78.


الصفحة 176

الصفحة 177


الفصل الثاني



ونقرأ فيه:

      1- ما هي الأحداث؟

            2- وقفة عند الأحداث.

                  3- وقفة تحقيق لابد منها.





الصفحة 178

1- ما هي الأحداث؟

في هذا الفصل نقرأ أولاً ماهي الأحداث، وما ينبغي للباحث الرجوع إليه من اشتات روايات متناثرة تناثر النجوم في الأفق السحيق.

وحبذا لو كانت الروايات فقط منثورة، ولكن العناء يزداد حين نجدها مبتورة، وقد رواها الخلف عن السلف على ما فيها من تهويش وتشويش.

ومع ذلك كله، فلم يصلنا من تسجيل الحدَثَ الذي يعنينا أمره في المقام، وهو ما يتعلّق بسيدنا (المحسن السبط) إلاّ القليل القليل، لم يلم بجميع حيثياته، ومع ذلك فذلك القليل المتناثر يكشف جوانباً مهمة عن الأزمات التي أحاطت بجوانب الحدَثَ، حتى لم تستطع قوى الدفاع بكل ما لديها من قوة وحيلة دفع التساؤل، أو تجيب على ما قيل ويقال حول ذلك الحدَثَ.

وأنّى لمن يحاول الغمغمة في الجواب أن يفعل شيئاً، ولا يزال شريط الأنباء _ كما يقال اليوم _ يعيد للناس ما تحتفظ به الذاكرة من أخبار إدانة لا تحتمل التبرير ولا يلفها التحوير، ومن ذلك ما قاله أبو بكر لعمر: (إئتني بعليّ بأعنف العنف) لماذا؟

والجواب حاضر على البديهة: لأنّه لم يبايع،ومن لم يبايع فسيلقى أقسا العقاب،وأخيراً فعليه القتل، هكذا تقول الروايات كما ستأتي النصوص بحذافيرها.

ومن ذلك ما جاء أنّ عمر جاء بقبس من نار، ومعه عصابة من المهاجرين والأنصار، ومنهم يحملون الحطب إلى بيت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهدّد

الصفحة 179
عمر بإحراق البيت على من فيه، وخرجت فاطمة (عليها السلام) تدافع وتمانع، واستنكرت فئات من الناس تهديد عمر، وخافوا وقوع الكارثة إن نفّذ تهديده، فقالوا له فيما ظنّوه ردعاً ومنعاً: إنّ في البيت فاطمة (عليها السلام)، قال: وإن(1).

وجاء انّ فاطمة قالت لعمر: أتراك محرقاً عليّ بابي؟ قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوكِ، فولولت وبكت وصاحت: ياأبتاه ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب(2).

وجاء أنّ عمر ومن معه زحموا الباب وزخموا فاطمة، فتلقت الرفسة والعصرة، وأخيراً إسقاط جنينها المحسن.

وجاء أنّ الزبير ثار بسيفه فأخذوه وضربوا بسيفه على صخرة، واقتيد إلى خارج الدار، وسلموه بيد خالد بن الوليد.

وجاء أنّهم أخرجوا علياً وقادوه كالفحل المخشوش(3)، وأخرجوا من كان معه في البيت، وكانوا جماعة بني هاشم ومن الصحابة لا يتجاوزون عدد الأصابع، كما ستأتي أسماؤهم.

وجاء أنّ علياً أوقفوه بين يدي أبي بكر وقالوا له: بايع، فقال: إن لم أفعل؟ قالوا: تقتل، فقال: تقتلون عبداً لله وأخاً لرسوله، فقالوا: أما عبداً لله فنعم، وأما أخا رسوله فلا.

وجاء أنّ فاطمة (عليها السلام) خرجت خلفه لتخليصه من أيدي القوم، وارتفع صوتها تستغيث قائلة: يا أبتاه ماذا لقينا بعدك من ابن أبي قحافة وابن الخطاب.

____________

1- تاريخ الخلفاء الراشدين (الإمامة والسياسة لابن قتيبة)، كما سيأتي.

2- أنساب الأشراف، كما سيأتي.

3- كما في كتاب معاوية وسيأتي نصه.


الصفحة 180
وجاء أنّ أبا بكر لم يستجب لإلحاح عمر على قتل عليّ، وقال له: أنّي لا أكرهه ما دامت فاطمة إلى جانبه.

وجاء أنّ فاطمة جاءت إلى أبي بكر تطلب ميراثها، فردها أبو بكر بخبره المكذوب: (إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث...)، وجاء أنّ فاطمة طالبته بالنحلة فردها، وجاء أنّها طالبته بسهم ذوي القربى فلم يستجب لها، وهكذا جاء أنّها هجرته مغاضبة له فلم تكلمه حتى ماتت وهي غضبى عليه(1).


*  *  *

____________

1- ستأتي الإشارة إلى مصادرها.


الصفحة 181

2- وقفة عند الأحداث:

تلكم أبعاد الصورة التي وصلت إلينا عن الأحداث، ولا شك أنّها بقية من ملامح الصورة التي حفظتها ذاكرة الرواة والمؤرخين، وربما سمحت أولم تسمح بها سلطات الحاكمين، كما لا شك بأنّ الصورة أصابها من التلميع والتصنيع، إمعاناً في تضييع التشنيع.

لذلك تبينت الصورة باهتة الألوان أحياناً كثيرة، وربما غير متناسقة الأبعاد، لاختلاف التسجيل تبعاً للأهواء والآراء، لكن الحاسة السادسة _ كما يقولون _ لها عملها في استنطاق الصورة عما محي منها، وما بقي معها من خشخشة ووشوشة.

ولا شك أنّ المسلم الواعي لدينه تصيبه الصدمة حين يقرأ تلك الأحداث المروعة والمفزعة المفجعة، كيف يمكن له أن يصدق أنّ رموز الصحابة الّذين عاصروا النبي (صلى الله عليه وآله)، وعايشوه سفراً وحضراً، هم الّذين قاموا بذلك، كيف لم يمنعهم طول الصحبة، ولا علقة المصاهرة، ولا سابقة الإسلام، عن ارتكاب ما جرى؟

كيف لم يرعوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاً ولاذمّة؟ فلم يحترموا قرباه بمودة جعلها الله تعالى أجر رسالته فقال: {قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى}(1).

____________

1- سورة الشورى: 23 وانظر الكشاف للزمخشري 4: 219, وتفسير مفاتيح الغيب للرازي 27: 166, ومستدرك الحاكم 3: 172, تجد أنّ الآية الكريمة نـزلت في (عليّ وفاطمة وابناهما). وروى ابن حجر المكي في صواعقه في الفصل الأول من الباب: 11 في تفسير الآية: 14 من الآيات التي أوردها في؛فضل أهل البيت فقال: أخرج أحمد والطبراني والحاكم وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما نـزلت هذه الآية، قالوا: يا رسول الله مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال (عليه السلام): (عليّ وفاطمة وابناهما).


الصفحة 182
كيف استطاعوا أن يرتكبوا مأثماً ما له من نظير؟ فأرادوا أن يحرقوا بيت عليّ وفاطمة عليهما وعلى ولديهما ومن فيه، وذلك البيت هو الذي بالأمس القريب كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأتيه، فيقف عند بابه كلّ صباح طيلة تسعة أشهر ويقرأ قوله تعالى: {إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1).

كيف صمّت أسماعهم عن صوت نبيهم، وهو لا يزال يرنّ في مسمع الدهر يقول لأصحابه: «أوصيكم بأهل بيتي خيراً»(2).

وهكذا تتوالى الصدمات كلّما توالت الاستفهامات كيف وكيف، وتزداد عنفاً حين تتوثق الروايات، ويبقى القارئ في حيرة من أمره بين التصديق والتشكيك، كيف جرى ما جرى؟! فالخطب جليل، والرزء عظيم، والذوات صحابة من الرعيل الأول، أضفيت عليهم ابراد القداسة، من نسج الحاكمين والسياسة.

____________

1- الأحزاب: 33؛ راجع كتاب: (عليّ إمام البررة 1: 371 _ 8 _ 4) , تجد أسماء الرواة، وقد ناهزوا العشرين، والمصادر وقد نيفت على المائة، كلّها ذكرت اختصاص الآية بالخمسة الأطهار: النبي وعلي والزهراء والحسن والحسين (عليهم السلام).

2- جاء في ذخائر العقبى: 18، قال (صلى الله عليه وآله): (استوصوا بأهل بيتي خيراً، فإني أخاصمكم عنهم غداً، ومن أكن خصمه أخصمه، ومن أخصمه دخل النار). أخرجه أبو سعد والملا في سيرته.

وجاء في مسند أحمد من حديث أبي سعيد قال (صلى الله عليه وآله): (إنّي أوشك أن ادعى فأجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي، أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا فيما تخلفوني فيهما).

وجاء في صواعق ابن حجر: 89 _ 90, نقلاً عن الطبراني عن ابن عمر, أنّ آخر ما تكلّم به النبي (صلى الله عليه وآله): (أخلفوني في أهل بيتي) وهذه هي المودة الثالثة التي ابتلعها الرواة في حديث الرزية كما في (موسوعة عبد الله بن عباس).


الصفحة 183
ولعل أشدها عنفاً تلك الصدمة التي تكاد تذهب بلب القارئ دهشة وحيرة، حين يقرأ ما أخرجه سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص والسبكي في شفاء الغرام، والأمرتسري في أرجح المطالب(1) فدخل حديث بعضهم في بعض:

(انّ عمر بن الخطاب سمع رجلاً يذكر علياً بشر، فقال: ويلك تعرف مَن في هذا القبر؟ _ وأشار إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) _ فسكت الرجل، فقال عمر: محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب، وهذا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب، قبّحك الله فقد آذيت رسول الله في قبره، لا تذكروا علياً إلاّ بالخير، إن تنقّصته آذيت صاحب القبر، إذا آذيت علياً فقد آذيته).

فمن يقرأ هكذا خبراً عن عمر، ألا يصاب بالدهشة والحيرة؟ فيسأل عن عمر أين غاب عنه ذلك الوعي يوم جاء بقبس من نار ليحرق البيت على من فيه؟

وهل إنّ ما ذكره من تقبيح في الدعاء على من تنقّص علياً بلسانه، لا يشمل من جاء ليحرق عليه بيته؟ وهل أن إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله) يخص من تنقّص علياً بلسانه فحسب، فلا يشمل من آذاه وأخرجه يتلّه بعنف؟ فهل من جواب عند الحساب لمن يقرأ (إنّ السكينة تنطق على لسان عمر)؟ فأين غابت عنه تلك السكينة المزعومة حينما هدّد بإحراق بيت فاطمة فقال له الناس: انّ في الدار فاطمة، وهو يعلم ذلك، وإنما قالوا له ذلك تنبيهاً على عظيم الخطر لو تطاير من البيت الشرر، لكن أبا حفص قال: (وإن) غير مبالٍ بما سيكون.

أو ليس من حق القارئ أن يصارح بأنّ الّذين جاؤوا بالحطب والنار وأرادوا إحراق الباب كانوا معتدين ظالمين، وبايذائهما علياً آذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقوله: «من آذى علياً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»(2).

____________

1- تذكرة الخواص: 49، شفاء الغرام: 207، أرجح المطالب: 515.

2- راجع كتاب (علي إمام البررة) 1: 134 _ 140، و 2: 125 _ 137.


الصفحة 184
ولقوله في فاطمة: «فاطمة بضعة منّي من أغضبها أغضبني»(1).

وأيضاً قوله فيها: «فاطمة بضعة منّي يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها»(2).

وأنكى من ذلك كلّه ما أحزن وأبكى أن يروي البخاري في صحيحه(3) عن أبي بكر قوله: (ارقبوا محمداً (صلى الله عليه وآله) في أهل بيته)؟

ثم يرد فيه حديث: «فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها أغضبني».

وليتني أدري هل راقب أبو بكر محمداً في أهل بيته، حين أمر عمر بأن يأتي بيت فاطمة (عليها السلام) ليأتيه بعلي وبمن معه، وقال له: فإن أبوا فقاتلهم، كما سيأتي هذا موثقاً في نصوص يجب أن تقرأ بإمعان، وقد جاء عمر كما أمره أبو بكر، وبيده قبس من نار، ويحمل معه الحطب مَنْ جاء معه من الأتباع والأشياع وأصحاب الأطماع، وهو يريد أن يحرق البيت على من فيه، وفاطمة تقول له: «يابن الخطاب أتراك محرقاً عليّ بيتي؟» فيقول لها بكل صلف: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك. فبكت وصاحت: «يا أبتاه يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة؟».

وسيأتي النص موثقاً في الفصل الثالث في (نصوص يجب أن تقرأ بإمعان).

هذا هو مجمل الأحداث التي أودت بحياة السيد السبط المحسن السقط (عليه السلام)، وهو أول ضحايا العنف في أحداث السقيفة.

ولا أحسب إنساناً مسلماً يقرأ ما جرى ثم يعذر الجناة في أفعالهم، إلاّ من استزلّه الشيطان فبقي على ضلاله في مشايعتهم على ظلمهم وأيذائهم النبي (صلى الله عليه وآله) في أهل بيته.

____________

1- ذخائر العقبى: 37، نقله عن الشيخين والترمذي.

2- المصدر نفسه: 37.

3- صحيح البخاري 5: 21.


الصفحة 185
كما لا أظن أحداً يقرأ النصوص الآتية، ثم يحاول مستكبراً أن ينكر ما حدث، وأنّى له ذلك؟ وما يُجديه الإنكار، والحدث أشهر من أن ينكر، وأكبر من أن يستر، فالمصادر كثيرة والأحداث شهيرة، حتى صارت سنة سيئة يحتج بها عند من لا حريجة له في الدين.

وحسبنا شاهداً واحداً نتلوه عليك، وذلك ما رواه المسعودي في كتابه مروج الذهب من دفاع عروة بن الزبير عن أخيه عبد الله لما استحوذ على مكة وأطراف الحجاز، ودعا الناس إلى بيعته بالقهر والإكراه، استنّ بالخالفين قبله ومنهم جده لأمّه أبو بكر، فدعا بني هاشم إلى مبايعته، فأبى عليه ابن عباس وابن الحنفية وبقية بني هاشم، فحبسهم في الشعب، وجمع الحطب ليحرقهم إن لم يبايعوا له، لكن الله تعالى أنجاهم بإغاثة جيش المختار الذي أرسله بقيادة أبي عبد الله الجدلي لتخليصهم، فأدركوهم ولمّا أزفت ساعة الحريق فأخرجوهم سالمين، فعاب الناس فعل ابن الزبير ذلك الفعل الشنيع المريع، وخاضوا في ذلك مما جعل عروة بن الزبير يعتذر عن أخيه بقوله: إنّ عمر بن الخطاب أحضر الحطب ليحرق الدار على من تخلّف عن بيعة أبي بكر.


*  *  *